شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(36) (1)
ذات مرة من المرات التي كنت أكتب فيها يوميات صحفية ـ لا إذاعية.. تناولت موضوع السيد.. رسمي أفندي.. سابقاً!.. وكنت أعني به وبموضوعه الموظف المتقاعد.. يحال على المعاش فكأنما أحيل من الدنيا ذاتها. وذلك إن كان هذا الرسمي أفندي.. سابقاً!.. صاحب شخصية ضعيفة من الأساس.. تبرز في الحياة لدى نفسها بما تتكوّن منه يوماً بعد يوم من المظاهر ومن العادات التي تصنعها.. قالباً مصبوباً في كيان مألوف.. وفي دائرة يومية معتادة.. استغرقتها كلياً حياة الوظيفة فلم تعش إلا بها.. ولها..
وقد قلت بإيجاز الآن ـ إن هذا الموظف المتقاعد من نمط السيد رسمي أفتدي.. يصبح بنفسه الضعيفة الفارغة.. وعند نفسه بعد تقاعد.. كحزمة من قش.. فهو يلازم الدار.. حزيناً.. لأن جرس التليفون لم يعد يرن بين الفينة والفينة كعادته السابقة. ولأن حبل الزائرين قد انقطع تماماً عن بيته.. ولأنه لم يعد له مودعون ومستقبلون في سفره الطويل أو القصير.. ولأنه لم يعد يرى أحداً من العائدين له في مرضه الخفيف أو الثقيل.. ولأن نظرات الناس إليه قد اختلفت ولأن اسمه لم يعد متداولاً لا في الأسماع ولا في الدعوات والحفلات.. ولأن نظرات من في البيت.. من أهله.. وكذلك ما في البيت من أثاث ورياش قد خمدت من البريق.. وأصبحت كآبيه تطالعه منها دلالات الفراغ.. ومعاني العزاء الصامت.. أو الرثاء الأخرس.. وهكذا.. إلى آخر هذه وتلك اللئنات التي لا ينتهي حصرها أو تعدادها في مجال الاستعراض كما آل إليه حاله.. بعد أن كان.. يا ما كان!..
ولقد ذهبت اليوم لزيارة واحد من هؤلاء.. وربما ساقني للزيارة العقل الباطن يتحدى بعض ما ذكرت. لأثبت له أن هناك من الناس من يتذكر أمثاله.. وإن كانت تلك.. للذكر لا للفشر عادتي مع أمثاله وفي كل حالة مشابهة كحالة أخينا المستغرب لزيارتي.. كل الاستغراب..
وتطرق البحث للموضوع.. بقصد منه. وإن بدا أنه تطرق إليه عفواً.. وأخذ ينعى على الناس طبعهم في هذه المواقف ويعدد انقطاع فلان وعلان عنه.. وتكلمنا طويلاً في الأمر.. وقلت له.. إن ما يفعله بعض إخواننا ممن أسميه.. رسمي أفندي.. سابقاً.. خطأ محض ينشأ عن كذا.. وكذا.. ويدل على كذا.. وكذا.. مما يعتبر تجريحاً.. وتعريضاً بضعاف الشخصية.. وإن للحياة في حياة الناس سننها التي لا تزول!..
وسألني في ختام المناقشة والبحث.. ترى هل قلت شيئاً في هذا الموضوع أجبته.. لقد قلت في ذلك كثيراً جداً.. حتى لكأنني متفرغ الأقوال إلا في هذه الجادة العريضة.. ودروبها الفرعية.. نثراً ونظماً..
ولكن أهم ما قلته.. ورد مختصراً في رباعية نصف فصحى من ديوان قالوا.. وقلت.. للثابت الذكر لدى كل مناسبة تستدعي الاسشتهاد ببعض ما فيه! وتقول هذه الرباعية:
قيل.. بعض الناس لا يعرف إلا بالوظيفة
فهو كالجسم.. بدون الروح.. جيفه!
قلت: الطرطور فوق الرأس عادات سخيفة
إن بعض الروس.. من غير الطراطير.. خيفه
فابتسم.. في مرارة.. ولكنه.. كما قال.. أكد أنه سيحاول تغيير برنامجه اليومي.. منذ اليوم!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :616  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.