شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(34) (1)
لقد رأيته اليوم.. بعد غياب طويل.. فإذا هو.. هو.. لم يتغير في طبعه.. ولم يغير أسلوب حياته القديم.. والرجل.. للعلم الكريم.. من ذوي الثراء غير الكريم.. وإن كان ثراؤه هذا طويلاً وعريضاً بموجب قائمة الأرقام.. والأملاك العقارية في حيازته.. بالصندوق في البيت.. وبالحجج. وبالصكوك في علبها التنكية المعروفة للجيل القديم..
ولكن الرجل ممن يكذب مظهره مخبره.. ولا تدل هيئته أو هيبته على الأصح على غناها الفاحش.. فهو ملازم لزيه الرث.. ملبساً.. ومدعساً.. أصبحا شعاراً عليه.. كما أنه متمسك ومواظب دون انحراف على نظامه اليومي.. مقتراً على نفسه وعلى أهله بالتبعية.. طعاماً.. كأنما لم يقرأ قط الآية الكريمة.. كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (البقرة: 57).. ومقاماً بسكناه في بيته الآيل للسقوط والقابع في أحد الأزقة ملاصقاً بيتنا القديم المعلّق الآن على قنادل وعيدان.. كأنما هو مخلص لدرجة التفاني للمثل القائل.. قديمك نديمك!
وبرؤيتي له اليوم وتجديد ما رث من ماضٍ عتيق.. سألته عن أحواله فأجاب.. إنه لا يزال حيث هو.. هو..وإنه ملازم للمشي دائماً على قدميه.. إلا أن دعاه سواه للركوب معه في سيارته.. معللاً كالعادة الأمر بأن المشي رياضة.. إليها وحدها يعود الفضل في محافظته على صحته وبنيانه الجسدي المتين للتركيب.. رغم أنه أصبح متضايقاً من كحة طارئة.. ولكنها مستمرة ومن آلام جديدة لا يريد أن يذهب إلى الدكتور.. حتى لا يعرف عن الأمراض هذه الأسماء الجديدة الطارئة لها.. وعلى حياتنا الجديدة!
وحيث إن أخانا.. أو عمنا هذا على الأضبط فهو مسن.. لا يزال يفضل كرجل اجتماع أن يكون أول الحاضرين من المدعوين للولائم التي يحب من كل قلبه أن يدعى إليها مهما ضعفت المناسبة.. أو الصلة بينه وبين الداعي الكريم.. فقد أخبرني أنه في الطريق لبيت فلان.. موظف رقيق الحال.. وأنه يعلم أنني مدعو هناك للصلة المشتركة في المناسبة وفي الصلة بيننا.. فقلت له.. سألحق بك لأن الوقت لا يزال مبكراً الآن..
وهناك ـ وفي الموعد المناسب ـ وفي ركن من أركان بيت الداعي تجدد في رأسي غرامي القديم ببحث فلسفة البخل مع صاحبنا.. بحثاً يقوم على الطبيعة ممثلة في هذا المثل العتيد.. والفريد في بخله حتى أصبح مثلاً بارزاً وشائعاً عليه..
ولما كان.. عمنا هذا.. والحق يقال.. واسع الذهنية في نطاقها البلدي الدق.. فقد ذكرته بما سبق لنا من أعوام طويلة من بحث عما نسميه نحن البخل.. ويسميه هو.. العقل! ويعني به الاقتصاد بلغة العصر.. وسألته عما إذا كان لا يزال على رأيه في اختيار نمط حياته المشهور به وبها.. رغم أن بعض زملائه.. وجيرانه قد نزح عن جدة القديمة. وغيّر كثيراً من طراز حياته السابقة بها.. فقال نعم.. إنني لا زلت كذلك.. ولا أزال أؤكد لك.. إنني أجد لذة كبيرة قصوى حين أعد بيدي هاتين.. ما أدخره من جنيهات ذهبية.. واريل فضية.. تفوق هذه اللذة النادرة ما تجده أنت وأمثالك من لذة في الصرف للتمتع بالحياة.. بأسلوبكم!.
أما ما يؤول إليه أمر ثروتي بعد وفاتي.. فلا أفكر أبداً فيه.. لأنني لا أفكر في الوفاة نفسها.. إلا بقدر العلم الشائع المقرر.. بأن الموت علينا حق.. تلاوة.. دون تعميق للمعنى.. أو لمستدعيات ذلك التعميق.
ودار كلام طويل.. وحوار لذيذ.. يدخلان في نطاق الفلسفة في قاعدتها الشعبية الظريفة.. وقد سألته.. ما رأيك في المثل البلدي القائل.. مال المحروم للنزهى؟ وما هو مدى قيمته في تقديره باعتبارك ابن بلد أصيل؟ فقال.. ولو!.
وأخيراً ـ اتفقنا على أسلوب الجنتلمان أن أحضر من عندي نسخة من قصيدة حلمنتيشية.. في الموضوع.. فهو من عشاق هذا اللون لمد نفس البحث من فلسفة.. البخل!..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :612  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 73 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.