شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ـ 47 ـ (1)
جمع بينهما كرسي خشبي مستطيل.. أمامه تختة خشبية سوداء ذات خمسة أدراج في فصل مدرسي واحد.. أحدهم أبيض الوجه شريف الحسب والنسب.. وثانيهما أسمر من أبناء الطندباوي.. لا يستطيع أن يعد من أجداده أكثر من جدين اثنين بمكة..
ولقد ربطت بينهما حياة الفصل الواحد بالمدرسة الواحدة برباط يعلو على الحسب وعلى النسب في حينه كله الود والألفة زادتهما الحياة المدرسية وزمالتها قوة وائتلافاً على مر الأيام والشهور والأعوام.
وظلا على علاقتهما الوطيدة حتى في العام الدراسي الذي كان لثانيهما كرسي مستطيل وتختة خشبية سوداء تتصدر صفوف الفصل ولأولهما مثلها.. وإن كانت في نهاية الفصل.. وكانا معروفين بالبرنجي والإفرنجي.. بل لقد تلازما أكثر وأكثر وبلغت الصداقة بينهما مرتبة ما يطلق عليه.. رب أخ لم تلده أمك..
ورغم أنهما كانا صديقين حميمين متآلفين.. فقد كانت لكل منهما صفة ومزاج.. وطبع.. فالأول مرح مندفع فكه في كل ما يمارسه أو يتصل به من شؤون وشجون.. والثاني هادئ رزين جاد في سلوكه.. وبحياته اليومية..
وتخرجا من المدرسة في عام واحد.. واستقبل كل منهما الحياة.. وسلك بدربه في خطه فيها.. ومع ذلك ظلا يتقابلان مع جماعة لهما في أول الأمر وبكل أمسيات.. البشكة.. في دوريات معتادة يقضون بها ليالي السمر بالتناوب المرتب.
ثم سافر ابن الطندباوي الهادئ الرزين إلى بلاد تركب الأفيال.. وعاش ما عاش فيها سنوات طويلة جداً.. كان في بدايتها يكتب لصديقه المقيم في البلاد وصديقه يجيبه على رسائله أو يهملها.. حتى وقفت المكاتبات.. وانقطع الاتصال على بعد كما انقطع على قرب.
وفي غضون هذه السنوات انقلب الصديق العريق الحسب الفكه المرح المهذار إلى كهل عصفت بنضارته وبروحه وبحياته الأحداث.. وأحالته التجاعيد والأرزاء شخصاً غير الشخص.. فقد أصبح عصبياً حزيناً سوداوي المزاج.. كل ميزاته أنه يحسب لنفسه ولزملائه الموظفين حساب العلاوات والدرجات والمراتب.. وحساب اليوم الأكبر.. يوم التقاعد عن الوظيفة الحكومية.
ولما كان أرنبي الطبيعة فقد أصبح له من الأبناء الذكور والإناث عدد يبيح له ارتكاب الخطأ في أسمائهم بعضهم البعض والخلط بينها.. وقد ركبته بعض الديون الثقيلة كما تركب العفاريت أصحاب اللطف.. على أنه بقي محتفظاً بوجاهته.. وبفنجرته.. المسمى بها والمعروفة عنه.
ومرت الأعوام.. وعاد من غيبته صديقه القديم وزميله الغائب.. وقد أصبح من أرباب الأعمال البارزين.. ولم يلعب القصد ولا الصدفة دوراً في أن يلتقي أحدهما بالآخر.. فالتاجر مزدحمة أيامه بأعماله.. والموظف ذو برنامج يومي محددة كل فقرة من فقراته ببرنامج الدوام.. والدوام لله..
ولكن رجل الأعمال لم ينس صاحبه.. ولكنه لما يعرف عنه من عزة نفس وأنفة فقد رتب بحذق التاجر خطته المرسومة.
وذات صباح.. وبعد أن وقع الموظف على دفتر الدوام ناداه فراش المصلحة.. وأخبره أن رئيسه الأعلى يريد مقابلته.. ولما كان على طريقته الخاصة قد حسب المدة الباقية على تقاعده واستبعد أن يكون اليوم الأكبر.. كما يسميه.. قد حان أوانه، فقد أخذ يضرب أخماساً بأسداس في سبب الدعوة.
وأمام رئيسه وقف بأدب وتهيب.. حتى أذن له بالجلوس وأخذ في تهدئة خاطره.. والثناء عليه وعلى عمله.. ثم تدرج إلى حب الخير له.. وأنه يرى أن يسوي حالته الوظيفية لأن صاحب مؤسسة تجارية كبرى ورجل أعمال بارز طلب إليه التوسط في أن يكون مدير مكتبه لما عرف عنه من دقة وترتيب ونظام.. لقاء راتب ضخم وحيثية محترمة.. ومع ذلك لم يسمه له. مكتفياً بموافقته على ما يراه صاحب السعادة.. رئيسه الطيب الشهم.
وفي صباح اليوم الأول من الأسبوع الماضي.. وحسب الوعد.. كان هو ورئيسه أمام البناية التي تشغل دوراً بحاله منها مكاتب رجل الأعمال.
وفي لحظة هائلة تدانت رقاب الأيام.. والأعوام.. وتتابعت مرائي الذكريات على الشاشة القصيرة أمام ناظريه.. وانحنى التاريخ الحديث للتاريخ القديم.. فإذا هو.. هو أمام زميل دراسته الصديق الصدوق.. وانطبق فم أبيض على ثغر أسود.. وطال طيلة أيام الفراق.. العناق.. والرئيس يردد بطول المشهد وبعرضه:
وقد يجمع الله الشقيقين.. بعدما
يظنان كل الظن.. ألاَّ تلاقيا
وهكذا.. جمعتهما من جديد بناية واحدة.. في غرفتين متجاورتين كل منهما بجوار الآخر ـ فوق كرسي دوّار.. سمياه من الأسبوع الأول.. كرسي الحياة الدوار!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :832  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 100 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.