شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ـ 43 ـ (1)
واختلفت جماعة السهرة مرة.. في ليلة.. فتعصب فريق منها لما شاع وذاع من أن القناعة كنز لا يفنى.. وتحصن فريق آخر وراء الشعر المدافع عن الفكرة المضادة.. واستشهدوا بقوله عما يعتقد ويعتقدونه:
قالوا القناعة كنز
قد طاب في النفس.. غرسا
أغلى الحياة.. وأزجى
بها السعادة.. همسا
فقلت.. هذا عزاء
يدسه الضعف.. دسا
ما كل من كان يرضى
بأن يكون الأخسا
والحكاية اليوم بروحها الشعبية.. وبجوها البلدي ذبذبة بين الفكرتين وإن انتصرت بتقليديتها لرأي القنوعين.. وتقول:
يحكى أن جزاراً كان يسكن وزوجته بيتاً أرضياً وبه حوش كبير.. وإن تاجراً وزوجته كانا يسكنان داراً عالية تطل على بيت الجزار الأرضي وحوشه المتواضع.. فهما يكشفان منه ومن حياة ساكنيه كل صغيرة وكبيرة.
وكان الجزار يذبح خروفاً كل صباح.. حتى إذا انتهى من بيع لحمه بدكانه بسوق الجزارين وعاد آخر النهار لبيته تلقته زوجته من وسط الحوش ضاحكة مهللة مرحبة به.. فيبادلها الضحك والتهليل والترحيب.. مبادراً إلى إبدال ثوبه الملطخ بدم الصنعة وعرقها.. بالفوطة والعراقية النظيفتين.. حيث يعمدان بعد ذلك إلى الجلسة الحلوة أمام السموار يحضران بفنهما البلدي براد الشاي المضبوط.. يرشفان أكوابه وهما يتبادلان الحديث والتعليق على زبائن اليوم وحوادثه.. وبعد أن يصليا المغرب يتعاونان سوية في تحضير طعام العشاء ليتناولا اللقمة الطيبة الحلال هانئين حامدين المولى على نعمائه. فإذا صليا العشاء وما يطيقانه من نوافل عمدا إلى النوم المبكر واتخاذ الليل من أوله لبس صحة وهناء وسعادة.. ويكاد هذا المنوال اليومي يشكل عيشة الجزار وزوجته اليومية.. في بيتها الأرضي المتواضع ذي الحوش الكبير..
أما جارهما التاجر في داره العالية تطل عليها وتكشفهما فقد كان يعود كل ليلة بعد الغروب ووراءه خادم يحمل له دفاتر الحساب.. ليلج البيت صامتاً .. ساهماً مطرق الرأس والفكر يراجع في نفسه حساب الأرباح والخسائر وما يجب أن يرصده في دفاتره من أرقام.. وتقف زوجته صامتة مثله إلا من كلمات روتينية نادرة وباردة.. يتبادلانها فيما يشبه الهمس.. حيث يقتعد التاجر مجلساً من الروش وأمامه بعض المساند قد وضعت عليها دفاتر الحساب ليستعيد بها كل ليلة ما يريده من أرقام.. عادة درج عليها لا تنقطع ووقتاً محسوباً لا يضيع.. حتى إذا تهيأ العشاء تناوله هو وزوجته وفي تنوع خانات الآحاد والعشرات والمئات منها.. وزوجته مشتغلة بأحاسيسها وتمنياتها.. مبدية ومعيدة في استرجاع وفي تشكيل صورة حياة الجزار وزوجته جاريهما.. حيث ألفت كل يوم أن تراقبهما من فجوات الشيش وأن تتبع جزئيات حياتهما في فضول وتطلع وغبطة راجية لو تهيأت لها نفس الحياة الضاحكة اللاهية.. حتى لقد أصبحت من إدمانها على مراقبة جاريْهما تعرف بالدقيقة موعد وصول الجزار.. وتتوقع سلفاً ما سيقوم به الزوج وما ستعمله زوجته من استقبال حار.. ولهو بريء.. ومرح.. واستمتاع بالأكل.. ثم ما يدل عليه إطفاء نور اللمبة داخل الغرفة..
ومن كل ذلك ـ ففي ذات ليلة ـ وكان زوجها قد اقتعد مكانه بالروشن أمام دفاتره التجارية.. فقد انفجرت عواطفها المكبوتة.. وأحاسيسها المصفدة فصرخت في زوجها أن يقوم من مكانه.. وأن يأتي إليها حيث هي مطلة من ثقوب الشيش على الجزار وزوجته وأشارت إليهما وقالت لزوجها التاجر:
انظر!.. كيف يحيا هذا الجزار وزوجته كل يوم في هذا الهناء العائلي البسيط.. حتى تعرف كيف تمر عيشتنا الروتينية دون تبديل.. فجاء التاجر وجلس بجانبها ورأى.. وراقب.. وتابع حياة الجزار وزوجته في بيتهما الضاحك السعيد إلى أن أويا إلى غرفتهما.. وانطفأ نور اللمبة..
ثم انسل التاجر صامتاً إلى فراشه.. وأوى إليه مفكراً مقلباً الرأي موازناً بين الحياتين حياته هو وزوجته.. رابطاً بين العلة والمعلول فيما يشبه الفلسفة.. ونام أخيراً.. وزوجته إلى جواره لا تشاركه ما في رأسه.. ولا ما في نفسه التي بيَّت فيها شيئاً ليعمله غداة غد.. كما عبر وقدر..
فإلى غد.. حيث نتابع ما كان من أمر التاجر والجزار.. وما انتهى إليه الصراع بين لونين رئيسيين من ألوان هذه الحياة الدنيا..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :795  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 96 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.