شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > كتاب الاثنينية > وحي الصحراء > محمد حسن كتبى > أثر المتنبي في الأدب العربي
 
أثر المتنبي في الأدب العربي
ظلت اللغة العربية وادعة أمينة لا تعرف التعمق في أعماق الحقائق ولا تتجاوز الفطرة الا بمقدار حاجة الفطرة عينها، ثم تطورت مع الأمة العربية، وكانت تتكلف أحيانا لمجاراة الحياة ولكنها تنشط بعد جهد وتقوى بعد ضعف وتسير مع الزمن سيرته بقدر وسعها فهضمت السياسة والرفاهة بجميع ألوانهما في العصور الأولى، ودخل عليها من الأساليب الفارسية والرومانية ما صقل حواشيها وجعلها لغة حضارة اسلامية راقية، وفي العصر العباسي الثالث بدأت تجتاز عقبة أصعب من كل ما صادفت من قبل، تلك العقبة هي الفلسفة. فهي لا تحتكم للفظ بقدر ما تحتكم إلى الحقائق، والألفاظ لا تتسع بسهولة للمعانى الشاسعة التى لا نهاية لها أو التى تكون بعيدة المنال، والشعر لا تتسع القافية فيه لأكثر من الوزن، والشعراء يكونون عرضة للعنة التاريخ اذا لم يهذبوا أساليب الشعر ليكون صورة لعصره فكانت اللغة بحاجة شديدة لعبقرى ناضج المواهب قوى النفس مصقول الحس بعيد الخيال معتلج العواطف نافذ النظر عليم بأساليب اللغة ضليع بها مضطلع بأعبائها، فكان المتنبي هو ذلك الفذ المنشود الذي استطاع وحده أن يبدأ تلك العملية الشاقة المضنية عملية إدماج الفلسفة في الشعر واشراب الشعر روح الفلسفة، وكان إلى جانب هذه المهمة القاصمة مهمة أخرى بيد أنها ثانوية في نظر علم الأدب وهي نقع غلة السياسة اللاهثة، فقد كان الدول الاسلامية مفتقرة لجيش لجب من الشعر الرصين تنتصر به الواحدة منها على الأخرى، فالدولة الفاطمية في مصر، والبويهية في العراق، والحمدانية في حلب تتنافس في مدائح الشعراء وتجزل في عطاياهم ليرفعوا من رأسها على غيرها ويمجدوا من تاريخها، وكان الامراء والوزراء مبتلين بما ابتلى به رؤساءهم، والغرض بذلك الثناء استدامة الدولة وتوسيع سلطتها، واستمالة القلوب اليها، فكانت السياسة كاللغة محتاجة إلى ذلك العبقرى عينه ليفى بحاجة التنافس ويرفع ويخفض ويعز ويذل ويقدم ويؤخر في الشعر، فيرجع صدى ما يقوله كل أديب وعالم وتابع وعامى ويختلف فيه الجميع باختلافهم في نزعاتهم وأهوائهم، فكان المتنبي هو ذلك العبقرى الناضج الذي يقول في مدح سيف الدولة:
ورب قافية غاظت به ملكا
ويصف وقع شعره ومقامه بين شعراء عصره:
ان هذا الشعر في الشعر ملك
سار فهو الشمس والدنيا فلك
فاذا مر بأذنى حاسد
صار ممن كان حياً فهلك
فكان المتنبي إماماً للفلسفة الشعرية وكان قائداً للحملات السياسيةفى الشعر يتصل بسيف الدولة فتتوجه اليه نفوس الملك وغيره، ثم يفارقه فيتحبب إِليه الحسن به طغج وطاهر العلوي وكافور فيدل بنفسه وشعره عليهم. واذا كان الملوك في التقرب اليه يعملون شتى الأسباب والأساليب، فكيف بالمتنبى بين العامة ممن يغبطونه ولا يسمون اليه، ومن يعتدون بنفوسهم ولا يفوزون بمثل ما فاز به، فنشأ من هذا الانقسام اللازم بضرورة الحال، فكان الناس فيه بين مادح مغال وقادح مفرط، وكذلك كان أثر المتنبي من الأدب العربي أثر التجديد القوى والتوجيه السديد، والأدباء وراءه يشقون طريقه إلى يسلك لهم إلى حيث أرادت به ملكاته القوية وأدبه الراسخ المكين، وبلغ من أثر شعر المتنبي في أديب المتأدبين من معاصريه ومن خلفهم أجيالا بعد أجيال أن لا تجد أديبا من بينهم لا يحفظ الشئ الكثير من شعره ويتنغم به في خلوته ويتشبه بأسلوبه ويقتبس من معانيه ويأخذ المعنى الواحد فيضم اليه سوابق ولواحق ليزين به مقاله ويفاخر به بين كلمه، ومن الأمثلة التالية يتبين مقدار شغف الأدباء بمعانى المتنبي وانكبابهم على دراسته فقد أخذ الصاحب البيتين من شعر المتنبي:
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها
فشكى اليه السهل والجبل
* * *
تذكرت ما بين العذيب وبارق
مجر عوالينا ومجرى السوابق
وجلها في وصف قلعة افتتحها عضد الدولة، فقال:
((وأما قلعة كذا فقد كانت بقية الدهر المديد، والأمد البعيد، تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامع على الخطبة، وترى أَن الأَيام قد صالحتها على الاعفاء من القوارع، وعاهدتها على التسليم من الحوادث، فلما أتاح الله للدنيا ابن بجدتها، وأبا بأسها ونجدتها، جهلوا بون ما بين البحور والأنهار، فظنوا الأقدار تأتيهم على مقدار، فما لبثوا أن رأوا معقلهم الحصين ومثراهم القديم نهزة الحوادث وفرصة البوائق ومجر العوالى ومجرى السوابق))
وكتب أبو العباس الضبى إلى أبى سعيد الشيبى: ((وقد أتانى كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن روضة حزن بل جنة عدن، وفي شرح النفس وبسط الأنس برد الأكباد والقلوب وقميص يوسف في أجفان يعقوب)) وهو من بيت أبى الطيب:
كأن كل سؤال في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
وحل أبو بكر الخورازمي بيتى أبى الطيب:
تنشد أثوابنا مدائحه
بألسن مالهن أفواه
اذا مررنا على الأصم بها
أغنته عن مسمعيه عيناه
فقال: ((وكيف أمدح الأمير بخلق ضن به الهواء، وامتلأت من ذكره الارض والسماء، وأبصره الأعمى بلا عين، وسمعه الأصم بلا أذن)) وكقوله: ((ولقد تساوت الألسن حتى حسد الابكم، وأفسد الشعر حتى أحمد الصمم)) من قول أبى الطيب:
(قد أفسد القول حتى أحمد الصمم)
وليس تهافت الكتاب على انتحال معانيه وتزيين كتاباتهم بها بأعظم من سرقات الشعراء لها وادماجها في شعرهم. وهو دون الحصر، ولا يبلغه العد، وكيف يمكن أن نحصر سرقات الشعراء وهم يفاضلون بتراث المتنبي ويدعون فيه الاختصاص بهم دون غيرهم، غير أن الذي يلفت النظر في ذلك هو أن يكون اللفظ عين اللفظ والمعنى عين المعنى من غير تصرف الا ما يقتضيه التركيب ولا يؤثر في روح المعنى الذي أراد المتنبي كقول الببغا:
يا من يحاكى البدر عند فراقه
ارحم فتى يحكيه عند محاقه
من قول أبى الطيب:
وقد أخذ التمام البدر فيهم
وأعطانى من السقم المحاقا
وكقول الصاحب:
تجشمتها والليل وحف جناحه
كأنى سر والظلام ضمير
من قول أبى الطيب:
وكنت اذا يممت أرضاً بعيدة
سريت فكنت السر والليل كاتمه
وقول الصاحب:
لبسن برود الوشى لا لتجمل
ولكن لصون الحسن بين برود
من قول أبى الطيب:
لبسن الوشى لا متجملات
ولكن كى يصن به الجمالا
ولو انتهينا لجمع هذه السرقات لأعيانا الاستقصاء ولا ندعى أنها معانى لا يعلق لها مثيل، ولكن المتنبي فتح بأسلوبه وتصرفه فتحاً مبيناً حتى نمق من الأفكار العادية والتشابيه المبتذلة ما يصلح لأن يحلى به جيد الزمن.
وقد كان المتنبي يغير على غيره، ولكن إغارته تلك إغارة المتفضل يطالع الناس بمقدرة ابتكاره وتقليده كقوله:
ما زال كل هزيم الودق ينحلها
والشوق ينحلنى حتى حكت جسدى
مسروقاً من قول مخلد الموصلى:
يا منزلا ضن بالسلام
سقيت رياً من الغمام
ما ترك الدهر منك الا
ما ترك الشوق من عظامى
وكقوله:
تتبع آثار الرزايا بجوده
تتبع آثار الأسنة بالقتل
من قول أبى نواس:
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة
بجود كفيك تأسوا كلما جرحا
وكقوله:
شاعر المجد خدنه شاعر اللفـ
ـظ كلانا رب المعانى الدقاق
من قول أبى تمام:
غربت خلائقه وأغرب شعره
فيه فأبدع مغرب في مغرب
فاستعانته بمعانى الشعراء ليس استعانة المعوز الذي لا يجد من ثروته الذاتية ما يستقل به وانما هي تفنن وبر بالفن.
كان المتنبي عظيم الأثر في الأدب العربي على الوجه الذي قدمنا من الابتكار والتحسين والاختراع، وليس هذا كل ما يشرّف المتنبي، وان الذي يشرف به حقاً هو سموه في الكثير من شعره إلى ذرى الفلسفة وارسالها في صدى موسيقى ملحن يدعو للغبطة ويسمو بالنفس إلى آفاق المعرفة في الحياة العامة. ولعل أعظم ما كان يرفع من قدر المتنبي لدى الملوك والامراء هو ابتداعه في هذا الفن وتأليفه بما لم يسبقه أحد إلى مثله حتى لقد همّ بعضهم بالتوفيق بين فلسفة المتنبي وأرسطو. وجاء في كتاب لأبى على الحاتمى من شعراء العربية: ((لما رأيت أبا الطيب قد أتى في شعره على أغراض فلسفية، ومعان منطقية أردت الموافقة بين ما توارد به في شعره مع أرسطو في حكمه لأنه ان كان ذلك عن فحص ونظر فقد أغرق في درس العلوم، وان يكن ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة في ذلك وهو في الحالين على غاية الفضل)) وليس ببعيد أن تكون فلسفة أبى الطيب نتيجة درس متقدم وبديهة حاضرة، والنظر الفلسفى متى قويت ملكاته واستقام طبعه لم يعد يتقيد بالدرس والتقاليد. وقد كان يتمثل بأبطال الفلسفة اليونانية في شعره:
من مبلغ الأعراب أنى بعدهم
شاهدت رسطاليس والاسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه
متملكاً متبدياً متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الاله نفوسهم والأعصرا
ونسرد شيئا من شعر المتنبي الفلسفى لندلل على مبلغ نجاحه في فنه ومقدار سبره لأغوار الحقائق كقوله:
وكلام الوشاة ليس على الأحـ
ـباب سلطانه على الأضداد
انما تنجح المقالة في المر
ء اذا صادفت هوى في الفؤاد
وقوله:
وأسرع مفعول فعلت تغيراً
تكلف شئ في طباعك ضده
وقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بد
وقوله:
تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمان هي من كسبه
فهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه
فلو فكر العاشق في منتهى
حسن الذي يسبيه لم يسبه
وقوله:
وغاية المفرط في سلمه
كغاية المفرط في حربه
وقوله:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذى فعل الفقر
وقوله:
أرى كلنا يبغى الحياة بسعيه
حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد
إلى أن يرى احسان هذا لذا ذنبا
وقوله:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والاقدام قتال
وقوله:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
وكل يرى طرق الشجاعة والندى
ولكن طبع النفس للنفس قائد
هذه ألوان شتى من فلسفة المتنبي في الحياة العامة والطبيعة الانسانية والعلاقات البشرية والأخلاق والحقائق الوجودية، وليست هي بحاجة لأن يشرحها شارح الا اذا شاء أن يحللها إلى جزئياتها الدقيقة ويركب عليها من فلسفتها فلسفة تقوم عليها. ولايفوتنا أن نلاحظ التعمق الذي كان يصاحب نظرياته في تكوينها على شكل قضايا مبرهنة لا يضيق بها المنطق الصحيح والتعليل المعقول وأكثر ما كان يستمد البرهان من الحقيقة ذاتها والواقع المحسوس لذلك كانت حكمه على الألسن وفي الصدور، ولا تجد عامياً من العوام لا يستشهد لك بالكثير من حكم المتنبي.
وبعد ـ فأثر المتنبي في الأدب العربي هو ما يصفه المتنبي نفسه:
وما الدهر الا من رواة قلائدى
اذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
ودع كل صوت بعد صوتى فاننى
أنا الصائح المحكى والآخر الصدى
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :4023  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 179 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.