شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > كتاب الاثنينية > وحي الصحراء > محمد حسن كتبى > العصمة للأخلاق وليست للعلم
 
العصمة للاخلاق وليست للعلم!
قال له صاحبه وهو يحاوره:
ولو أََني خيرت بين الحياة مع العلم وبين أَن أَحرم من نعمتها دونه لاخترت العدم مضاعفاً وأن تقوم جميع الأسباب المانعة في سبيلى إلى هذا العلم الذي لوثتموه بآثامكم وأثقلتم كاهله بدعاويكم المغرورة على أن أعيش لحظة واحدة كما تعيشون.
انكم تقضون حياتكم وأنتم بمعزل من أنفسكم وكأن لكل حاسة منكم عوالم متباينة يعلن بعضها بعضا ويكذب كل منها ما تطلبه إحداها بخرافاتكم وأضاليلكم، ان العلم الحق هو الذي ينبع من صفاء الروح ويستمد غزارتها من غزارتها وبهاءه من بهائها وحقه من حقها، فالعلم في النفس الطبيعية وليس في الألسن المتلونة والأفكار المموهة والدعاوى المضللة وفنون الألحان الخطابية. ان العالم الذي يعجز علمه عن إنارة نفسه وكشف شبهاتها ومعالجة أفَنِها وانحطاطها فأولى به أن يعجز عن استهوائنا نحن معشر الجاهلين الذين تدعوننا كذلك ـ وانى يا صاحبي الذي لست أصحبك مغتبطا ـ لحرى بأن أهدى جيلا كاملا منكم أنتم العلماء وان جهلى بقضاياكم التى تلوكونها بألسنتكم لهو أنفذ في النفوس وأقرب إلى الأفئدة والعقول من علمكم ذلك الأجوف الناقص من البركة الطيبة والأثر الحسن.
* * *
فالتفت اليه العالم وقد استفزت كلماته الجارحة كل قواه العلمية وأخذت نفسه تضطرب كما يضطرب المرجل وقد ختم عليه، ثم لما نبس بالكلمة الأولى من لسانه انحدرت عليه المعانى انحداراً قويا ضاق بها نطقاً.
أجل فانه لم يعدم ألوان القول حين أراد أن يشرح مقام العالم من الكون وأثره في الوجود الإنساني الطبيعى.
* * *
ان كل شئ يسخره العالم بفكره الجبار ومنطقه الصائب وعلمه الواسع فهو أول من برم من أبناء آدم بالحياة السائبة المنحطة. وفكر في الانتقال منها إلى الحياة المقيدة المترفة ذات النعمة الدائمة والسلام المقيم والطمأنينة العذبة، وهو أول من أراح الانسانية الهائمة المروعة من شقوتها وأقامها في مستوى التفاهم والحب الرحمة والوئام. والعالم هو الذي أسس النظم وحفظ الحقوق واستنزل بركات السماء والأرض، واستفاد من جميع هباته الفاضلة. ثم ضرب للانسانية أفضل مثل لسموها وعزتها، وكذلك فقد أصبح الناس منذ أن أقام لهم العالم هذا المثل الأفضل يجدّون في سبيل البلوغ اليه وما زالوا عاجزين عن ادراكه، فلولا تلك اليد الجلى للعالم على الانسانية لظلت مرتعا للوحشية البالغة والحيوانية الطائشة، ولظلت مسخّرة للحياة الحيوانية التى لا تعقل خيراً ولا نبلا ولا فضيلة.
انك تجهل مغازى هذه الكلمات المثلى؛ ولو عرفتها وعرفت من وضعها لاستبان لك ضلالك وانكشفت عنك حجبك، ووضح بين عينيك أي شئ أفاد العالمُ به الانسانية بوضعه هذه المعانى العليا وبحثه عنها وتحديده لها وفتح السبل من كل صوب اليها ليقصدها الناس أفواجا فيشرفوا بأقل قسط يجاهدون في سبيله.
ان الحياة الانسانية الراقية، والحقوق العالمية المنظمة وأساليب العيش العامة الرافهة، وكل نعمة ينعم بها الفرد في نفسه وأهله وماله وكل متعة تتمتع بها الجماعات الآدمية من علم أو حكمة أو نظام هو أثر من آثار العالم الذي يسهر لراحة الانسانية وعزتها وسموها.
أرأيت لو أن جماعة من أبناء آدم لم يقم من بينهم عالم يهذب أرواحهم ويخضع شياطينهم ويؤلف بين نزعاتهم ويقضى على نزواتهم النكدة كيف تستقيم الحياة بينهم، والى أي مدى يألف بعضهم بعضا ويتفاهمون عن أغراضهم، وهل يأمن أحدهم أن يعيش بجوار ابنه أو أبيه أو صاحبته أو أخيه. انك سترى الحرب العوان تقوم بينهم اذا ما حيّا أحدهم الآخر أو سأله حاجة أو حبسه عن مراد. اننا معاشر العلماء منبع كل سعادة للحياة ولكنكم أنتم الجهلة من أبناء أبينا آدم قد كنتم ولا تزالون أكفر المخلوقات بالنعمة، وأجهلها بما يفيدكم ويضركم وبما فيه خيركم وشركم. وظل الجاهل يتضاءل عند حدة العالم حتى لقد شعر في آخر أمره أن السماء سقطت على رأسه، وأنه لم يعد يطيق كلمة واحدة من غضبة صاحبه، شعر بأن روحه رهن الكلمة التى سيزيدها العالم على ما فاه به، فقام اليه خاضعاً ذليلا وانكب يقبل قدميه ويضرع اليه ويسأله رحمته ويتوسل اليه من غضبه الذي أغضبه لئلا يحيق به مكره، فشعر العالم كذلك بنشوة الظافر وراحة الفائز فلوى لسانه إلى التجمل والتلطف والترحم حتى غمر صاحبه بنعمة الرحمة التى خشى الجاهل أن يحرَمها من مولاه فتتضاعف خسارته ويفقد رشده ويستسلم لعذاب الغلطة التى غلطها مع صاحبه العالم ولا نهاية لعذابها الأليم.
* * *
أجل يا مولاى ـ هكذا بدأ يقول اننا معاشر الجهلة لا نجيد فهم الأشياء على حقائقها فيلتبس علينا الهوى فنحسبه الحق الصراح، ونظن الغفلة في أحضان الوساوس والأوهام يقظة في جنان الفضيلة والخير، ويغمس الفرد منا نفسه في الحمأ المسنون على ظن أنه نهر الحياة العذب.
أجل يا مولاى بهداكم اهتدينا، وبنوركم رأينا الطرقات المستقيمة، وبرشدكم نحيا وبرشدكم نموت. ومن حرم منا هدايتكم فقد خسر بمقدارها من الحياة الممتعة المستنيرة. وارتكس بمقدارها أيضا في الفوضى والاضطراب والعماية!
وانى ـ يا مولاى ـ منذ الآن سأكون عبدك الطائع وتابعك الشكور، وسأثنى عليك في السراء والضراء لقاء ما تمدنى به من هدى وحكمة وعلم!!
* * *
لقد اغتبط العالم بانتصاره الأول وتضاعفت غبطته بانتصاره الأخير، فقد ذلل عدوه المستكبر وقضى على وساوسه المتمردة. واستخدمه لنفسه عبداً لقضاء حوائجه واطاعة أوامره وبلوغ أغراضه.
* * *
لبث العبد في طواعية سيده ردحا من الزمن يراقبه في جميع ما يأتيه ويتركه، ويلتمس رضاه في كل لحظة من اللحظات، ويبيت طوال لياليه يقدس بحمد سيده، ويسهر على تربية حبه في قلبه ومضاعفة إشفاقه من غضبه. وكان له صحب من الجاهلين يلاحظونه في كل يوم ينقص في انسانيته وينحط في ادراكه ويجبن عند الخير ويستسلم للمنكر حين يراه، وحماسه يزداد في كل يوم هبوطا واضمحلالا، فنسى الرحمة في طبعه والتمسها في المعاجم اللغوية والحدود العلمية، وعبارات البلغاء وأوصاف الشعراء، وأصبح يحن للثكلى في القصيدة البارعة ويصد عنها، وهي تتمسح بأقدامه وتبثه أحزانها. وكذلك فقد استحالت مشاعره عند كل فضيلة من قلبه إلى رأسه حتى أصبح يباهى بذلك الرأس الجديد المملوء بالتفكير الحاد والنظر القيِّم. فيقدم أول ما يقدم لمن يحتفى به أعز شئ لديه ألا وهو رأسه العزيز! الذي لو استطاع لَنبشه بين عيون العالمين وأسماعهم ليريهم نفائسه ويشرح لهم ذخائره. وظل كذلك أمداً طويلا لا ينغص عليه سروره وراحته غير صوت متهدج ضعيف يساوره الفينة بعد الفينة فيقلقه بما لا يفهم معناه الا أنه صدى لحياته الأولى فيزداد تحاملا عليه ونفوراً عنه حتى صار يخرج في بعض أحيانه إلى الصحارى جاداً في الهرب من هذا الصوت المقلق الضعيف، وكم ود أنه ينجو منه لتتم له سعادته الجديدة التى ما حلم بها قط في حياته لأولى:
* * *
أصبح فلان الجاهل ضليعا بالعلوم التى يصرفها على لسانه، ولكنه ما زال ينشد أمراً خفياً. لقد قال له صاحبه العالم في حواره القديم (اننا معاشر العلماء منبع كل سعادة في الحياة) ولكنه لم ير نوعا من أنواع السعادة جاء على يده وهو عالم. وقد كان مع جهله يقرى الضيف ويعين العاجز، ويقوم على الأرامل، وكان يشعر لكل عمل يعمله من هذه الأعمال ببرد في أعماق نفسه وسعادة في قرارة ضميره لم ير أثرهما منذ انقطع للعلم الذي أقنعه صاحبه بأن فيه كل سعادة في الحياة.
* * *
أجل لقد كان صاحبه عالما بكل ما في كلمة العلم من معنى، يجتمع عليه الناس ليأخذوا شتى المعارف ويغترفوا بأوسع السجال. ولكنه كان لا يكرم اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ويأكل التراث أكلا لماً، ويحب المال حباً جماً. وكان الشره بلذائذه يحول بينه وبين كل خير يوفق اليه، وكان عبده الطائع ومقلده الأعمى، يسأله رأيه عن أعماله فيؤوّلها له تأويلا حسناً يأخذ بمجامع قلبه، فهولا يطعم المسكين لأن الحكيم في صنعه لم يجعله مسكينا الا لأنه ليس أهلا للنعمة فاطعامه تناقض مع الحكمة. ولأن الأرملة المنغمسة في الرذيلة بسبب العدم والفاقة شرك نصب ليتبين العابدون المخبتون من العاصين الضالين. فهو لا يحاول انقاذها إبقاء على هذه الفتنة ليتميز الخبيث من الطيب، ولأن المال حُببَ إلى النفس فاخراجه متى شق على النفس ساقط بحكم رفع التكليف بما لا يستطاع، ولأن الفقير الذي يئن عند رأسه قد كتب له أن يموت جوعاً فهو لا يتصدق عليه بما يرد روحه، ولأن الكذب مباح للمصلحة فهو لم يتكلم بالصدق الا عند عدم الحاجة إلى الكذب. وكذلك ظل العبد يقلبه صاحبه في بؤرة الفساد فيطاوعه على ذلك، ولبثت رأسه تتضاعف عن كبرها ونفسه تتضاءل في انحطاطها حتى اجتمع عليه لفيف من رعيله الجاهل وأخذوا بتلابيبه وناشدوه الحق أن يقضى معهم مجلساً مختلساً من عبوديته لسيده وبدأوا يذكرونه بماضيه الماجد المبارك بالحسنات والصالحات وحاضره السيء المشين. وما زالوا ينثرون عليه من أقوالهم الصريحة الفعالة في النفس ما تركه في حالة أشبه بالذهول.
* * *
لقد احتجز صاحبنا عن سيده وعن صحبه وأخذ يستعرض ماضيه وينقب عن نفسه الفاضلة العظيمة كيف أضلها؟ وكيف تطور بها الزمن؟ وبعد أزمة من نفسه وضيق في قلبه بدا له بصيص من نور الهداية الحق فاستعان على إذكائه بعلمه الذي اكتسبه من سيده. فاذا به يرى أن الغفلة كل الغفلة والشر كل الشر في التأويل واساءة الفهم واستخدام الهوى في تحديد العلم والفضيلة وكل شئ.
ووضح له أن أصدق الحق ما كان أشد قرباً من الباطل وأشبه به. وان الجهل مع الأخلاق علم فوق كل علم يحتكم فيه الهوى. وان العلم الحق النافع هو ما استمد من صفاء الروح وغزارتها وبهائها وحقها صفاؤه وغزارته وبهاؤه، وحقه وإِن أَفتك الوباء بالإِنسانية هو المنطق الذرب في النفس السافلة.
فرجع من تجربته هذه الموفقة بغنم الحقائق السالفة فاتصل بماضيه النقى وأنكر العبودية لصاحبه وكشف للناس عن أباطيل المدعين من العلماء اشباه صاحبه، وما لبث بعد أوبته المحمودة من جهاده العنيف مدة حتى استحال ذلك الصوت الخافت الذي كاد يموت في نفسه إلى قوة هائلة تُلزمه الفضيلة وتزجره عن الشرور.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :562  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 178 من 181
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج