شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به الأستاذ عبد الله بن إدريس ))
ثم تحدث الأستاذ عبد الله بن إدريس شاكراً مضيفه والحضور، فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
- أحييكم أجمل وأجلَّ تحية، وهي تحية أبينا آدم، وتحية ذريته من بعده: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
- وأشكر الله (تعالى) الَّذي قدر لنا هذا اللقاء الكريم المونق بوجودكم هنا، تفيضون منه على النصوص مودة وإخاءاً، وتعطرون به أجواء الثقافة سماحةً ونقاءاً؛ أشكركم أجزل الشكر وأوفره على حضوركم هذا الحفل الكريم، الَّذي يقيمه أحد عشاق الحرف، ورُضَّاع الأدب، وراثة من أبيه، واكتساباً بجهده وذوقه الرفيع، أخونا المفضال الأستاذ عبد المقصود بن محمد سعيد خوجه.
- منذ ولادة هذه الفكرة الرائدة لديه لتكريم رجال الفكر والأدب والثقافة، في هذه الاثنينية الزاهرة؛ كانت دعواته الكريمة لي، وإلى ما قبل أيام قليلة، تقابل مني بكثير من الشكر والعرفان لحسن ظنه وظنكم بي، وفي نفس الوقت كنت أقابلها بالاعتذار مرة بعد أخرى، حتى لم يعد في القوس منزع، ولم أجد لي عذراً إلاَّ الاستجابة لكرم الدعوة والداعي، والشوق المُلحُّ مني لأحظى بهذا الحضور الخيِّر، وهذا اللقاء المتوهج بالحب الصافي والأبوة الحانية لمن هم أكبر مني سناً، وأكثر عطاء وإسهاماً في دنيا الثقافة والتوعية المستنيرة، وبالإخاء الصادق من أترابي ورفقاء دربنا ودربكم جميعاً.
- لقد أنفقت كل ذخائري من الاعتذارات، إلاَّ أن كرم الأستاذ عبد المقصود غلب تمنعي الَّذي ليس له من سبب، سوى أنني - وقد تشاركون هذه الرؤية - لم أقدم حتى الآن ما يرضيني عن نفسي، فضلاً عن أن يرضيكم أنتم يا قادة الفكر والثقافة والأدب في بلادي.
- ها أنا اليوم أسعد بلقائكم الحميم هنا، لا ضيفاً ولا ضيفنا، ولكن أحد المستجوبين، لا عن تُهمة أدفعها، ولكن عن جزئيات صغيرة من سيرة حياة يُطلب إلي أن أسردها ولو باختصار شديد.
- ولئن كان لما أسعد به من قدر أكبر وأعمق، من فلتات السعادة الحيوية، فهو انتمائي إلى ركبكم المُغذ نحو الشمس، وشعوري بأنني غصن في دوحتكم الباسقة؛ ولئن كان التاريخ هو الَّذي يسجل حياة الأمم، فأنتم يا أرباب القلم الكُتَّاب الأصلاء لهذا التاريخ، وأنتم حملة مشاعله، وحُداة قوافله إلى المدن الفاضلة؛ ولسوف يبقى لكم من هذا التاريخ ما يبقى من التاريخ للحياة، فلا تبخسوا أنفسكم ما قدمتم، وفي المقابل لا تطلبوا من التاريخ ما ليس لكم.
- أيها الأفاضل: لوْلا، أنَّ لكل فرد منا حياته الخاصة، التي تميزه كالبصمة عن الآخرين، لما كان لي أن أحدثكم عن نفسي بما قد أورده الآن من نثار حياتي الدراسية والوظيفية والكتابية.
- لقد ولدت عام تسعة وأربعين في بلدة: "حرمة" بمنطقة سدير، وفيها تلقيت معلوماتي الأولية في مدرستها التي هي فوق الكُتَّاب، من حيث تعدد وتنوع دروسها، وأقل من المدرسة النظامية من حيث المنهج؛ وكان مدير هذه المدرسة أحد طلبة العلم المستنيرين، اسمه: عبد العزيز، وهو ابن الشيخ عثمان بن سليمان، الَّذي كان في شبابه أحد الشعراء الغزليين الأفذاذ في الشعر العامي، ولكنه اتجه - بعد ذلك - إلى طلب العلم والتمسك الصادق، فصار أحد الدعاة والوعاظ اللسنين المؤثرين.
- ومن طرائف هذا الشيخ - والشيء بالشيء يذكر - أنه هو ووالده (رحمة الله عليهما) وكلاهما من رجال حُسبة في البلدة احتساباً وأجرهم على الله (يعني لا يأخذون رواتب) مرا بفريق من الشباب الهواوية، وهم يعزقون الأرض في إحدى المزارع، فأمراهم بالصلاة. وقد وجبت، وبالكف عن الغناء؛ فقال أحدهم: يا شيخ عثمان: من هو الَّذي يقول: -وذكر أبياتاً من الشعر العامي التي كان يقولها الشيخ عثمان -؟ قال الشيخ: أنا الَّذي قلت هذا يوم كنت حماراً مثلك!!
- بعد تخرجي وانتهائي من هذه المدرسة، رغب إليَّ مدير المدرسة - وهو الشيخ عثمان إمام جامع في البلدة - أن أقرأ على الجماعة - بعد أذان العشاء إلى الإقامة - شيئاً من كتب الحديث والوعظ والإرشاد، مثل كتب: "رياض الصالحين" و "الترغيب والترهيب" و "التبصرة" لابن الجوزي، ومجموعة من الأحاديث الناجدية، وغيرها.. واستمررت أمارس هذه القراءة يومياً أو ليلياً على الأصح، وبخاصة في قيام التهجد برمضان، فكنت أحس بنشوة وسعادة وأنا أسمع بعض الجماعة - رجالاً ونساء - أسمعهم وهم يرددون كلمات مثل: (جزاك الله خيراً) (الله يبارك فيك) (الله يوفقك) وقد كان مفتاح طلبي العلم، ورغبتي فيه بعكس ما كان عليه لداتي في منطقتنا.
- إنَّ والدي (رحمه الله) كان أحد طلبة العلم، وتلميذاً لقاضي منطقة سدير، العلامة الشيخ عبد الله العنقري (رحمة الله عليه) ولذلك وجدت في بيتنا عدداً من الكتب في الحديث والتوحيد والفقه وعلم الفرائض - أي المواريث - وشيئاً من علم النحو كالأجرومية، فعكفت على قراءتها مبكراً، وكنت أطرب كثيراً عند سماعي لأئمة المساجد وهم يتغنون بأبيات الشعر، عندما تعرض لهم في الكتب التي يقرؤون منها على المصلين، وربما كان هذا هو بذرة الشعرية لديَّ.
- في عام ستة وستين وثلاثمائة وألف، انتقلت من بلدتي إلى الرياض لمواصلة التعلم، وجلست أول الأمر للدراسة على الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، في حلقته الكبرى التي يعقدها كل يوم بعد صلاة الفجر، لطلبة العلم الصغار في حصيلتهم العلمية، حتى وإن كانوا كهولاً؛ وذلك في جامع أخيه الشيخ محمد بن إبراهيم في دخنة (رحمة الله عليهما جميعاً) وفي الجانب الآخر من المسجد يعقد الشيخ محمد حلقته الكبرى - أيضاً - والتي يتعلم فيها المتقدمون علمياً؛ وبعد شهرين أو ثلاثة أحالني الشيخ عبد اللطيف إلى أخيه الشيخ محمد للدراسة عليه، وكان هذا بمثابة الانتقال من مرحلة دراسية إلى مرحلة أعلى منها.
- طلبت العلم جثيّا على الرُّكب في حلقة الشيخ محمد بن إبراهيم أكثر من ثلاث سنوات، وكانت المدارس الابتدائية في ذلك الزمان - أيام أن كانت المعارف مديرية عامة قبل أن تتشكـل وزارة - قليلة العدد نسبياً في الرياض، وكان الشيخ محمد بن مانع (رحمة الله عليه) مدير عام المعارف، يكِلُ إلى الشيخ محمد بن إبراهيم تعيين المدرسين للعلوم الدينية واللغة العربية في هذه المدارس، وقد عينني الشيخ محمد مدرساً للعلوم في المدرسة الفيصلية الابتدائية ولم أمكث في هذه المدرسة إلاَّ سنتين فقط، ولما فُتح أول معهد علمي في الرياض عام واحد وسبعين، استقلت من التدريس والتحقت به دارساً، وحصلت على الشهادة الثانوية وتخرجت، ثم واصلت دراستي العليا في كلية الشريعة، وتخرجت فيها في نهاية عام 76 هجرية.
- وكان من زملائي في المعهد، ثم في الكلية، والَّذين تخرجت وإياهم في نفس العام - وكنا أول دفعة تخرجت في هذه الكلية - كان منهم: الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم وزير العدل سابقاً، والشيخ راشد بن خنين المستشار الشرعي في الديوان الملكي، والشيخ علي الرومي القاضي.. ثم عضو هيئة التمييز، والدكتور عبد العزيز العبد المنعم الأمين العام لهيئة كبار العلماء، والشيخ عبد الله بن غضيان وآخرين..
- وأذكر من أساتذتنا في الكلية في علوم العقيدة والفقه: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد العزيز بن رشيد (رحمه الله) وفي علوم التفسير: سماحة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الجكني، الَّذي جاور فيما بعد في المدينة حتى توفاه الله (رحمه الله) وفي الحديث ومصطلحه: الشيخ عبد الرحمن الإفريقي، وهو أيضاً من سكان المدينة (رحمه الله) وفي علم البلاغة: الأستاذ عبد اللطيف سرحان (يرحمه الله) وفي علم النحو: الأستاذ يوسف عمر، وكان نصف الوقت مع هذا الأخير (رحمه الله) يذهب في الحديث عن السياسة وأحداث الساعة، لكن وقته مبارك وفيه نفع كثير؛ وعدد آخر من المدرسين لا داعي لذكرهم..
- بعد التخرج - في هذه الكلية - عينت مفتشاً فنياً - أي مفتشاً على المواد الدراسية - وهي الوظيفة التي تسمى - حالياً - توجيه علمي أو تربوي؛ ثم مديراً للتفتيش والامتحانات في الرئاسة العامة للكليات والمعاهد الفنية، التي أصبحت - فيما بعد - تسمى جامعة الإمام محمد بن سعود.
- وفي منتصف عام تسعة وسبعين وثلاثمائة وألف هجرية، انتقلت إلى وزارة المعارف مساعداً للمدير العام للتعليم الثانوي، والَّذي كان يقوم به الأستاذ والمربي الكبير، الأستاذ محسن أحمد باروم - أمده الله بالصحة وطول البقاء - ثم عينت مديراً للتعليم الفني بالوزارة.
- في غرة عام خمسة وثمانين، أنشأت صحيفة الدعوة الأسبوعية، والتي طلب الترخيص لها من الملك فيصل، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأنا الَّذي أنشأتها من الألف إلى الياء، بالإعداد لها وإصدارها، وأصبحت رئيساً لتحريرها في سنتها الأولى، ثم رئيساً للتحرير ومدير عام للمؤسسة معاً مدة سبع سنوات، بإعارة من وزارة المعارف، وبعد السنوات السبع أعدت خدماتي إلى الوزارة، فعينني الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ وزير المعارف (رحمه الله) أميناً عاماً للمجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب.
- ولم يطل المقام بالشيخ حسن - بعد ذلك - بالمعارف، حيث عين وزيراً للتعليم العالي، وعين الدكتور عبد العزيز الخويطر وزيراً للمعارف، وقد أعددت جميع اللوائح والأنظمة، وبدأت فعلاً في تنظيم أول مسابقة شعرية كبرى على مستوى المملكة، ووصلت إلينا قصائد كثيرة من عدد من الشعراء، أذكر منهم: الأستاذين أحمد قنديل، ومحمد علي السنوسي (رحمهما الله) ولكن الدكتور الخويطر استدعاني ذات يوم إلى مكتبه، وعاتبني على إعلان المسابقة، قائلاً: والله إنك لتدفعها من جيبك، أو اذهب وابحث عن أحد يدفعها؛ فقلت له: والله إني لمستعد لتحمّل هذه المسؤولية، لكن دع الموضوع يسير في طريقه؛ قال أحضر لي كامل الملف عن المجلس؛ وأحضرته إليه فأدخله في درجه وقال: "لا داعي لمجلس علوم"؛ فأصابني الإحباط عند ذلك، وكتبت مقالاً صريحاً حول الموضوع، نشر في جريدة الجزيرة، وعقب عليه كل من الأخوين عبد الله الجفري وعلوي الصافي.
- بعد ذلك انتقلت إلى جامعة الإمام محمد بن سعود، فعملت فيها ستة شهور كأمين عام للجامعة، ثم صرت مديراً عاماً للثقافة في الجامعة، وعضواً في المجلس العلمي، حيث تقاعدت في رجب عام تسعة وأربعمائة وألف؛ وكانت أول مقالة كتبتها ونشرتها البلاد، هي: التعقيب على الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار (يرحمه الله) هذه أول مقالة كتبتها، وكان الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار يكتب مقالات متسلسلة، بعنوان: "ما يلحن فيه العلماء والكُتَّاب" وقد أخطأ هو فيما خطَّأ فيه الآخرين، وعلى غير عادته (يرحمه الله) فقد اعترف بذلك علانية في الجريدة، وأرسل خطاباً إلى الأستاذ حمد الجاسر قبل حدوث الخلاف بينهما، وكان الجاسر - حينذاك - مساعداً للشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم في إدارة المعهد العلمي بالرياض؛ أرسل يثني في ذلك الخطاب على الطالب النجيب عبد الله بن إدريس - كذا قال - الَّذي كانت لديه هذه الاهتمامات اللغوية وهو ما زال طالباً؛ وكتبت تعقيباً على الأستاذ عبد الوهاب آشي (رحمه الله) حول كلمة البسيط، حيث استعملها بمفهوم العامة لها.. بمعنى القليل، بينما هي لغوياً على العكس من ذلك، مأخوذة من البسيطة وهي الأرض، بمعنى الواسعة.
- وقد شجعني الأستاذ عبد الله عريف (رحمه الله) بنشره كتاباتي، بدون حذف أو تعديل يذكر، على مواصلة الكتابة المتدرجة بعد ذلك، وكان الأستاذ عريف يكاتبني ويطلب مني نشر قصائدي ومقالاتي في جريدته البلاد، وأصبحت أنشر كتاباتي الشعرية والنثرية في البلاد، والمدينة، وقريش، وحراء المحتجبة، والندوة، واليمامة؛ وبكل أسف فإن أغلب كتاباتي في هذه الجرائد ضاعت عني، حيث لم أكن أحتفظ بصورة مما أكتب، وإنما أقص ما أكتب وأضعه في صندوق تفاح كبير، وقد فُقِدَ مني عندما انتقلت من بيت إلى بيت، وعند البحث في المكتبات العامة لتجميع بعض كتاباتي - والتي لموضوعها صفة الديمومة، وتصلح لإعادة نشرها في كتب - لم أجد منها إلاَّ القليل، لعدم الاحتفاظ بالصحف في هذه المكتبات منتظمة متسلسلة، رغم ضرورية ذلك.
- كان كثير من كتاباتي في افتتاحية صحيفة الدعوة - والتي بلغ مجموعها ما يقارب ثلاثمائة افتتاحية وثلاثمائة مقال - تتناول الجوانب السياسية، وأحداث الساعة في حياتنا العربية؛ وللجوانب الثقافية والاجتماعية مثل ذلك الاهتمام، وكانت طبيعتي في الكتابة في التزام الصراحة ما وسعني الجهد، ولذلك كان كثير من الإذاعات العربية والأجنبية الناطقة بالعربية، تنقل كثيراً من تلك الافتتاحيات حال صدورها، وتذيعها في نشرات الأخبار؛ وكثير منكم لا بد يذكر ذلك، حتى أنني ليلة من الليالي سمعت إحدى هذه الافتتاحيات تذاع من ثماني إذاعات عربية.
- بعض المجادلات والمناقشات بيني وبين بعض الأدباء - أو بيني وبين الكتابة على الأصح - ينقسم هذا النوع من الكتابة إلى قسمين: أحدهما مهاوشات مع بعض دعاة العامية، الَّذين يرتزقون من نشر الشعر العامي في مطابعهم، ويهدونه إلى من يكافئهم عليه مادياً، وهؤلاء جرت بيني وبينهم معارك حامية، وقد كسبت المعركة معنوياً بصورة مثيرة حقاً، وذلك عن طريق المقالات التي كتبها الكاتبون، مؤيدين وجهة نظري حيال طغيان الشعر العامي على وسائل الإعلام، وبخاصة نشر هذا الغثاء الرديء منه؛ أما لو اقتصر النشر على عدد من القصائد العامية الجيدة.. وبمساحات محددة في الجريدة، فإنني لا أعارض ذلك، إذا كان الغرض منه التاريخ والدراسة، وليس تعميق العامية في المجتمع..
- ولعل كثيرين منكم يذكرون أن ما سَعَّر تلك المعركة كان مقالي في آخر شهر ذي القعدة، يعد عام ثلاثة وأربعمائة وألف هجرية في الجزيرة بعنوان: "طغيان الشعر العامي على وسائل الإعلام" والَّذي طالبت فيه وزارة الإعلام بالتدخل للتقليل من نشر الشعر العامي في الصحف والاختصار - إذا كان لا بد من نشره - على عدد محدود من القصائد الجيدة؛ فتصدى للرد عليَّ أحد دعاة العامية والمستفيدين من نشر هذا الغثاء، بمقال عنوانه: "أتدري على من استعديت يا ابن إدريس؟" هكذا عنوان المقالة؛ وراح يمجد الشعر العامي ويدعو إلى نشره؛ وقد رددت عليه بمقال عنوانه مسجوع كعنوان مقاله، ثم توالت الردود في جميع الصحف والمجلات، وكتب ما مجموعه قرابة الستين مقالة خلال سنتين، وكانت نسبة المؤيدين لوجهة نظري قرابة 95% من هذه المقالات.
- أما القسم الثاني من متاعب الكتابة ومناوشاتها، فهو ما يتعلق ببعض الجهات المسؤولة، حيث الجرأة - أحياناً - تكون أكثر مما يتحمله الواقع، ولهذا أمثلة أورد نماذج قليلة منها؛ وقبل أن أورد النماذج القليلة أعرج عوداً على بدء، في صغري أنني كنت محباً للقراءة.. وبخاصةٍ الشعر في عصوره المختلفة، وكذلك الاطلاع على أمَّهات كتب الأدب، كصبح الأعشى، والأمالي لأبي علي القالي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكامل للمبرد، وغيرها من الكتب التي تجمع بين الأدب واللغة والتاريخ.. وقرأت دواوين كثيرة لشعراء في جميع العصور، من العصر الجاهلي حتى يومنا هذا، ومعجب بكثير منهم، كالمتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وأبي فراس الحمداني، وشعراء الأندلس، ومئات غيرهم.. وصولاً إلى الشعراء المعاصرين القمم، كالجواهري، وأبي ريشة، وبدوي الجبل، ومحمود حسن إسماعيل، وشعرائنا في هذه البلاد، ومن لا يُحصون عدداً من الشعراء العرب؛ وكنت متابعاً جيداً للمدارس النقدية المعاصرة، مما أفادني - أيضاً - في مجال النقد الأدبي؛ ولا شك أن قراءاتي الكثيرة والمتعددة المناحي، قد أفادتني في سلامة لغتي وصقل موهبتي الشعرية، والكتابة الأدبية.
- وأرجو ألاَّ يكون هذا مدحاً للنفس أو ثناءاً عليها، وإنما لبيان واقع حال، ثم لا شك بأن حماسي لنهضة بلادي وتقدمها وتطورها، قد أوجدت عندي حساً بأنه لا بد من أن تكون الكتابة صريحة ولو إلى حد ما، لتبيان وجهة نظري، والتي هي غالباً وجهة نظر المجتمع ككل، في أمور التطوير والتحديث وإصلاح المجتمع، بما يتوافق وطموحنا إلى أن تكون بلادنا من البلدان المتطورة والمواكبة للحياة المعاصرة، مع احتفاظنا بخصائصنا وقيمنا الإسلامية الكريمة؛ وهذا التوجه الَّذي كان عندي مبكراً، سبب لي بعض المتاعب ربما لرعونة الشباب وحماسه الزائد عن اللازم والمقبول، ولكن هكذا خلقت.
 
- ولعلي هنا أسوق بعض الأمثلة على تلك الكتابات، التي كانت لها ردود أفعال كادت تؤذيني لولا عناية الله (سبحانه وتعالى) ثم حكمة بعض المسؤولين؛ من ذلك - مثلاً - أن الأستاذ حمد الجاسر سافر إلى القاهرة لحضور المجمع اللغوي هناك، وأنابني عنه في رئاسة تحرير صحيفة اليمامة، وذلك عام سبعة وسبعين وثلاثمائة وألف هجرية - فيما أذكر - وصدر في تلك الأيام قرار من مجلس الوزراء بما معناه: أنه لا يصح للكُتَّاب الَّذين يعملون في أجهزة الدولة أن ينفروا الحكومة أو يوجهوا اللوم إليها، فانتهزت فرصة سلطتي على اليمامة، فكتبت افتتاحيتها في ذلك الأسبوع بعنوان: "حتى لا نمشي على الشوك" وناقشت في ذلك المقال القرار المذكور، وقلت بما معناه: إن الحكومة بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنها تريد بذلك منع النقد الهدام - وهذا نحن مع الحكومة يد واحدة ضده - وإما أنها تريد منع النقد الهادف النزيه - وهذا ما نربأ بحكومتنا أن تقع فيه -.
 
- كان لهذا المقال ردود أفعال من المسؤولين ضده ومن المثقفين معه، وقد عُمل لي ملف وجُهز لمحاكمتي، وكان ذلك على زمن الملك سعود (رحمه الله) وقد قيَّض الله لي - بل ولكـل الكُتَّاب والمثقفين - رجلاً فاضلاً لا يحب إيذاء الكُتَّاب أو ترويعهم، هو الأستاذ سعيد كردي (رحمه الله) وكـان - حينذاك - مدير المباحث أو الاستخبارات - لا أدري - الاستخبارات نعم أنا نسيت - فأتى المسؤولين من نقطة معينة، حيث قال لهم: إنكم إذا حاكمتم ابن إدريس خلقتم منه زعامة، والأفضل أن تتجاهلوه وتتجاهلوا ما كتب وما يكتب؛ فقالوا والله هذا صحيح؛ فألغيت المحاكمة والغرامة المترتبة عليها - حينذاك - وهي ألف ريال، أي راتبي لشهر كامل.
- والأستاذ سعيد كردي صاحب أفضال كثيرة، في منع كثير من مناكفات أو محاكمات الكُتَّاب، وأذكر أنه كتب أحد الكُتَّاب مقالاً - أظن في جريدة القصيم - فيه ما يمكن أن يؤاخذ عليه، فكتب الأستاذ سعيد كردي مقالاً عنوان: "إقبع يا قباع" ومعنى إقبع في لهجتنا في نجد: اهرب، فهرب صاحب المقال إلى أمريكا وواصل دراسته هناك، ولم يعد إلاَّ وهو يحمل الدكتوراة، وهو الآن أستاذ في جامعة الملك سعود فى العلوم السياسية، إنه الدكتور: "عبد الله القباع"!.
- ومثال آخر على نوعية بعض المتاعب التي تنجم عن الكتابات، سواء كانت إجتماعية أم سياسية، أم ثقافية.. أن إحدى بنات الأسر الكبيرة - وتسمي نفسها "غادة الصحراء" -أصدرت- أو أصدر لها - ديوان باسم: "شميم العرار" وقد أهدت منه قبل طرحه في السوق ثلاث نسخ، لكل من الأستاذ محمد حسن عواد (رحمه الله) والأستاذ حسن القرشي، ولمحدثكم؛ حسبما أخبرني صاحب المكتبة، الَّذي كان ينوي توزيع الديوان قبل أن يُصادر؛ وقد رغبت هذه الشاعرة أن نقول رأينا فيه لجس نبض المجتمع حياله، وقد كنت المتسرع أو الملهوف، أو الكاتب الوحيد الَّذي كتب عنه بدافع الفرحة، أن يكون للمرأة - عندنا - مشاركات أدبية، مهما كانت محتوياتها أو موضوعاتها؛ وقد كتبت عن هذا الديوان دراسة مستوفية لجوانبه، أرسلت ذلك المقال إلى جريدة البلاد - وهي الصحيفة المفضلة لدي في ذلك الزمان - فنشرت الحلقة الأولى من الدراسة، وكتبت في ذيل الحلقة للحديث صلة.
- فما كان من الجهات المسؤولة إلاَّ أن اتصلت بالجريدة طالبة منها إيقاف ما بقي من الدراسة؛ ولو وقف الأمر عند هذا الحد لما كان فيه من جديد، ولكن الجديد فيه أن يذهب أحد كبار هذه الأسرة إلى زعيم الأسرة شاكياً كاتب تلك الدراسة، قائلاً: يجب أن يُحقق مع البنت الشاعرة، عما إذا كانت تتعاطى الغزل وتعاقر الخمر، فيقام عليها الحد؛ وإما أن يحاكم ابن إدريس ويقام عليه حد القذف.. لا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
 
- بلغني الخبر، فذهبت إلى الرجل.. والَّذي يطالب بمحاكمة الشاعرة ومحاكمتي، فاستقبلني - على غير عادته - بوجه عابس غاضب.. سلمت وجلست.. والصمت المريب يلف المجلس، بعد قليل تكلم وأسند كلامه إلى أحد العلماء الأفاضل، الَّذي كان في زيارته تلك الساعة، قائلاً: يا شيخ عبد الله - وهذا اسم الشيخ المسؤول - ما حكم من يتهم فتاة من أسرة كبيرة محافظة بأنها تتغزل بالرجال وتشرب الخمر؟ قال الشيخ: كيف ذلك؟ أجابه: هذه البنت نشرت ديوان شعر كله غزل وخمريات، فكتب عنه عبد الله بن إدريس يشيد به وينوه عنه، قال الشيخ: يعني أن الغزل وشرب الخمر ورد في الشعر الذي قالته؟ قال نعم؛ قال الشيخ: أنسيت قوله (تعالى) عن الشعراء وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ فما كان من ذلك الرجل - الثائر على كتابتي - إلاَّ أن صمتَ صمت القبور، فلم ينبس بعد ذلك ببنت شفة، ونجاني الله من هذه الورطة - التي كدت أذهب ضحيتها - برد الشيخ الجليل وحكمته.
 
- هل تريدون المزيد من هذه الذكريات المضحكة المؤلمة؟.. أعطيكم شيئاً من هذا أيضاً..
 
- كنت في بيروت عام أربعة وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية، وكان أستاذنا الجاسر يقيم بأهله إقامة دائمة، كاحتجاج على أخذ صحيفة اليمامة منه وإعطائها لرجل آخر؛ وكانت هذه الصحيفة عُرضت عليَّ من الجهات المسؤولة، عرضوا عليَّ أن أتملكها، وأن أكون صاحبها ورئيس تحريرها، فرفضت ذلك رفضاً تاماً، احتراماً لحق أستاذنا علينا من ناحية، ولحرمة أخذ ملكية هي لشخص آخر.. من ناحية أخرى؛ فلما يئسوا مني أعطوها لذلك الرجل؛ المهم أن صحافة الأفراد ألغيت في ذلك العام وقامت بدلاً منها المؤسسات الصحفية.
 
- وصل خطاب من الأستاذ جميل الحجيلان - وزير الإعلام - إلى الأستاذ حمد الجاسر في بيروت، يطلب منه العودة إلى المملكة لإعادة اليمامة إليه وفق أطر المؤسسات الصحفية؛ زارني الأستاذ الجاسر في منزلي في بيروت، وعرض عليَّ خطاب الحجيلان، وقال ما رأيك؟ قلت: رأيي أن تقبل الدعوة وترجع إلى المملكة، وتستعيد صحيفتك اليمامة، ونحن نقف معك في إصدارها؛ قال إذن اكتب لي الأسماء التي تقترحها؛ فكتبت له أربعين اسماً من أسماء الأدباء والمثقفين في المملكة، وبعض رجال الأعمال الَّذين كان ينتظر منهم دعم الصحافة بأموالهم، وليس لكسب المزيد من المال كما هو واقع حالهم اليوم مع المؤسسات الصحفية؛ عاد إلى الرياض، وذهب بقائمة الأسماء إلى وزير الإعلام، والوزير رفعها إلى الملك فيصل، فأجرى الملك فيصل (يرحمه الله) قلمه الأحمر على اسمي واسم اثنين آخرين من الكُتَّاب؛ وحينما ذهب الجاسر إلى الملك فيصل يطلب إعادة أسمائنا نحن المبعدين، قال له الملك فيصل: اطلب غيرهم، أما هؤلاء فلا؛ قال الجاسر: هم موظفون مرموقون يا جلالة الملك.. موظفون في الدولة؛ قال الملك: على العين والرأس كموظفين، لكننا لا نريدهم موجهين فكرياً في المجتمع؛ كانوا ينظرون إلينا نظرة أننا ربما كنا متطرفين في كتاباتنا أو شيئاً من هذا القبيل.
- موقفان طريفان، الأول: عندما بويع الملك فيصل (رحمه الله) ملكاً للمملكة العربية السعودية، قرر أهالي الرياض إقامة حفل خطابي لتكريمه، فأرسلوا إليَّ أحدهم يفاوضني أن ألقي قصيدة في الحفل نيابة عن الأهالي، عملت قصيدة ومطلعها:
غنيت للعهد الجديد نشيداً
وسكبت ألحان الهنا تغريداً
- بدأ الحفل بكلمة الأهالي، ولم يبق إلاَّ دقيقتان أو ثلاث على إلقاء قصيدتي، وإذا بشخص آخر يسمى عبد الله بن إدريس يقترب من المنصة، فسألته ماذا تريد؟ قال جئت لألقي قصيدتي، فقد دعاني محمد الحجيج لإلقاء قصيدة في الحفل، قلت له يا أستاذ عبد الله: من عبد الله بن إدريس؟ لست أنت الشاعر الموضوع في البرنامج، فالأهالي طلبوا مني وليس منك المشاركة في إلقاء قصيدة في هذا الحفل قال لا بل أنا المذكور في البرنامج.. واحترت في أمري ماذا نصنع؟ ودوري لم يبق عليه إلاَّ دقيقتان؟
 
- رأى بعض الحاضرين ما دار بيننا من حوار، فقام أحدهم وقال للزميل: يا أخي: الشاعر المعروف والمطلوب منه القصيدة، هو عبد الله بن عبد العزيز بن إدريس، هذا الواقف أمامك، وهو المعروف لدى الجميع بأنه الشاعر والأديب، - ولا مؤاخذة أن أصف نفسي بهذه الصفات، لأنها وصف الشخص، وأنا أحكي كلام الشخص وليس حديثاً عني - وذهب إلى مقدم البرنامج الإذاعي: خميس سويدان، فأتى خميس وقال: نحن لا نعرف شاعراً اسمه عبد الله بن إدريس إلاَّ هذا - وأشار إليَّ - وأخذ قصيدتي إلى المايكرفون على الفور، وألقى بيتين أو ثلاثة من مطلعها؛ نادى عليَّ المذيع.. فألقيت القصيدة، ولما انتهيت منها أتاني الآخر المشابه لاسمي، وطلب أن أتوسط لدى المذيع ليقدمه إلى الحفل.. ليلقي قصيدة، فقلت: "سمعاً وطاعة" وألقى قصيدته، وخرجت من هذه الورطة الأخرى سالماً معافى، والحمد لله.
 
- الموقف الثاني: نشرت في: "الدعوة" قصيدة أرسلها لي من السودان شاعر سوداني معروف هو: "أحمد الحردلو" وكذلك كان يفعل محمد الفيتوري، حيث نشر عندي في الدعوة عدداً من القصائد، وبعد يوم من صدور الدعوة.. رن جرس الهاتف في مكتبي برئاسة تحرير الدعوة، وإذا المتكلم الشيخ محمد النويصر.. رئيس الديوان الملكي، فدق قلبي ورجف ما بين خوف ورجاء، وإذا به يدعوني لمقابلته غداً في الديوان الملكي؛ دخلت عليه في الديوان بين الرجاء في أن أحظى من جلالة الفيصل بمكافأة ثمينة.. كقطعة أرض مثلاً، أو مبلغ ضخم من المال يتيح لي شراء بيت أو بناءه؛ وبين خوف أن يُذهب بي إلى ضيافة أبي سفيان؛ وإذا به يقول لي: يسلم عليك الملك فيصل ويقول: إن في قصيدة الشاعر السوداني كلمة نابية، هي: وصف اليهود بأنهم أبناء الزناة - أو أبناء الزنى - ولو كان الَّذي نشر القصيدة صحيفة غير "الدعوة" ولو كان المشرف على الدعوة غير عبد الله بن إدريس لهان الأمر علينا، ولكن ابن إدريس رجل مثقف وفاهم - كذا أنقل ما قال حرفياً - ولا ينبغي له أن ينشر قصيدة تحمل هذه العبارة النابية؛ وختم اللقاء بقوله: بارك الله فيك.. وفي أمان الله؛ قلت في نفسي: على أي حال رجعت لا عليَّ ولا لي؛ هذا ما أردت أن أقوله لكم؛ والسلام عليكم ورحمة الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :634  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 170
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الأول: خميس الكويت الدامي: 1990]

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج