شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
3- ظلال الطبيعة
احتوى هذا القسم من الديوان على ثلاث قصائد سبق أن تحدثت عن مقطوعة منها عند الحديث عن بداية عبد العزيز الرفاعي الشعرية وسأحاول أن أعرج على قصيدة صَبَّارة نتلمس فيها أثر الشاعر عمر أبي ريشة على الرفاعي.
يقول الرفاعي في الصفحة التاسعة من مقدمة ديوانه "ظلال ولا أغصان": "وقبل تخرجي من الابتدائية قرأت "شوقي" و "الشريف الرضي"، ثم أخذت خلال دراستي في المعهد العلمي السعودي أتصل بمناهج من تاريخ الأدب العربي، وفيها نماذج مختارة من الشعر، وفي هذه المدة قرأت شعراء الرسالة الزياتية، واتصلت بالشعر المهجري، وبفحول شعراء العراق ؛ كالصافي، والبصير، وفحول شعراء الشام كأنور العطار، وأمجد الطرابلسي، وأعجبت إعجاباً خاصاً بعلي محمود طه، وعمر أبي ريشة، ثم انداحت الدائرة بقدر ما شاء الله لها أن تنداح".
ومن هذا النص نستطيع أن نستنتج أنَّ الرفاعي كان معجباً أشد الإعجاب في مطلع شبابه بعمر أبي ريشة، ولا شك أن إعجاب الفتى الشاب بشاعر كبير يدفع إلى تقليده أو لنقل السير على خطاه، ومحاولة اقتفاء أثره في معالجة الموضوعات التي يسكب فيها إبداعاته، ولعل قصيدة "صَبَّارة" التي نشرها الرفاعي في جريدة البلاد السعودية بتاريخ 7/1/1369هـ تشبه إلى حد كبير قصيدة عمر أبي ريشة الموسومة بـ "معبد كاجوراو" من حيث البحر الشعري الذي اختاره كل منهما، ومن حيث الموضوع حيث أن كلاً من الشاعرين يتحدث إلى من لا يعقل، وأن كلا الشاعرين استخدم نفس البحر وهو مجزوء الكامل غير أن الرفاعي استخدم مجزوء الكامل المرفَّل في حين استخدم أبو ريشة مجزوء الكامل المذيَّل أو المذال وتفعيلات مجزوء الكامل المرفل فهي:
متفاعلن متفاعلن
متفاعلن متفاعلاتن
أما تفعيلات مجزوء الكامل المذال أو المذيَّل فهي:
متفاعلن متفاعلن
متفاعلن متفاعلان
في حين أن الكامل السالم بدون زحاف.
متفاعلن متفاعلن
متفاعلن متفاعلن
يقول عمر أبو ريشة في مطلع قصيدته:
من منكما وهـب الأمـان
لأخيه أنـت أم الزمـان؟
و يقول الرفاعي في مطلع قصيدته:
لا تـأبهي بالحـادثـا
تِ ولاتذلي للزَّمانِ
وإذا فحصنا مطلع كل من الشاعرين وجدناه يبدأ بجملة طلبية أو جملة إنشائية فمطلع أبي ريشة يبدأ بجملة أستفهامية يقول: من منكما؟ أما مطلع الرفاعي فهو كذلك يبدأ بجملة نهي يقول: لا تأبهي.
ونجد أن مطلع أبي ريشة يشتمل على ثلاثة عناصر هي الزمان والأمان والمخاطب وهو معبد كارجوراو، وكذلك مطلع الرفاعي يتكون من ثلاثة عناصر الزمان والحادثات والمخاطب وهو عند الرفاعي "الصبَّارة".
وهناك تشابه آخر وهو أن كلا الشاعرين استعان بالطبيعة في قصيدتيهما، غير أن أبا ريشة استخدم مفرداتها بصورة مشرقة، بينما استخدم الرفاعي مفردات الطبيعة بصور قاتمة ولنضرب مثلين، يقول أبو ريشة:
و تكلمت أحجارك الصماء مشرقة البيان
و بقيت وحدك – فوق هذا الصخر – وقفـة عنفـوان
ثم لنقرأ ما قاله الرفاعي عن الصخر في قصيدته:
وتجهم الصخـر الأصـم وهـل درى معـنى الحنـان
وعن الربيع يقول أبو ريشة في قصيدته "معبد كاجوراو":
ردَّ الربيعَ لها فرفَّتْ
طلعةً وزهت ليان
أهوت عليه فاكتسى
بالياسمين الخيزران
و تمهلت لا وهجها
فانٍ ولا الينبوع فان
أما الرفاعي فيقول عن الربيع:
وجفتك أنفـاس الربيـع
وكان مخضوب البنان
والشوك مشدود الوثـاق
على الثرى الظمآن عـاني
واخشوشنت منك الجـذو
ر على عروق من صـوان
وهكذا نجد أن الرفاعي في كثير من بداياته الشعرية يميل إلى أن يكسو مفرداته بغلائل سود، وما ذاك إلا لأنه يصور فترة كان يمر فيها بظروف معيشية قاسية، فجاء هذا الشعر يصور حالته النفسية، ويعرب عن نظرته للحياة في تلك الفترة لكننا نلاحظ أن هذا اللون استمر مع الرفاعي حتى آخر أيامه فما الدوافع وراء ذلك؟ وللإجابة على هذا السؤال نضطر إلى الرجوع إلى الخلف إلى تاريخ انتقاله من جدة إلى الرياض كان ذلك عام 1381هـ تقريباً وفي تلك السنة يكون الرفاعي قد طرق باب الأربعين، والأربعون هي مرحلة النضج العقلي والجسدي أو الجسماني، واكتمال الطاقة الذهنية قال الله تعالى: حتى إذا بلغ أشدَّهُ وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون إن بلوغ الأربعين هو موعد بداية فتح باب الرجوع إلى الله والتوبة من طيش الشباب وهفواته، والإنابة إلى الله بالإكثار من الإستغفار والدعاء والعمل الصالح، حتى يحصل المرء على الجزاء الذي وعد الله به عباده المؤمنين وهو قبوله سبحانه أعمالهم الحسنة والتجاوز عن خطيئاتهم وغفران ذنوبهم وإدخالهم الجنة دار القرار" فلم يعد بعد الأربعين إلا التفكير في العاقبة والنزوع إلى تهذيب النفس وقرعها كلما حاولت أن تحيد عن الدرب السوي، وهذا يستلزم معاتبتها وتأنيبها وحجب أسباب السلو والتمتع عنها حتى لا تبطر وتنخدع ومن ثم تنجرف وراء تيار المغريات والملذات فتقع في المحظور لذلك جاء شعر الرفاعي يحمل نفس السمات ونفس النبرات ونفس الصور، إلا أن الصورة الشعرية بلغت ذروتها من حيث الجودة ودقة التعبير، وتفردت في صياغتها واتخذت لها شكلاً جذاباً يعجب القارئ والمتلقى ويلاحظ ذلك بوضوح في قصيدته "السبعون" التي لم تدرج في الديوان والتي قالها ليلة تكريمه من قبل نادي جدة الأدبي بتاريخ 12-10-1413هـ والتي نالت استحسان الجميع، وقد تحدث عنها كثير من أرباب القلم، وسأحاول نقل بعض ما قاله أولئك في مكان آخر من هذا الكتاب عند الحديث عن قصيدة "السبعون".
وإذا عدنا والعود أحمد إلى قصيدتي أبي ريشة والرفاعي – رحمهما الله – لوجدنا هناك نقطة أخرى يلتقيان عندها.
يقول أبو ريشة في ختام قصيدته:
كاجوراو. لـولا العجـز والحرمـان ما كـان الجبـان
ويقول الرفاعي في ختام قصيدته:
الصبر من شيم الكرام إذا تناءى عن جبان
فالجبان في بيت أبي ريشة إنسان وليد العجز فلو نال من القوة والإمكانات ما تمكنه من تحقيق مطالبه لما كان جبانا.
والجبان في منظور الرفاعي شخص يلوث سمة الصبر فيأباه الكرام لأن صبر الجبناء هو الذل والمسكنة والخضوع، فإذا انحدرت منزلة الصبر إلى هذا المستوى، فحريٌّ بالكرام أن يرفضوا التحلي به. قد يعارض بعض هذا الرأي فالإنسان لا يوصم بالجبن إلا إذا توفرت له كل الوسائل والقوى للمطالبة بحقه والدفاع عنه ومع ذلك يظل واقفاً مكتوب اليدين لا يحرك ساكناً وهو يشاهد بعينيه أن وطنه يسلب، وأمواله تنهب، وأعراضه تنتهك، وحريته تحبس، يؤمر فيطيع، ويضرب فيخضع، ويطرد فيضيع. أما الانهزام في الحرب نتيجة قلة الذخيرة والمون الحربية، أو فسادها، أو فساد الخطط الحربية المعدة. وكذلك الوقوع في قبضة الأعداء كأسير أو مستعمر لا يملك من أمره شيئاً فذلك ليس من الجبن.
وخلاصة القول أن إعجاب عبد العزيز الرفاعي في ريعان شبابه جعله يحاول أن يقلد أبا ريشة، وأن يقتبس منه، وليس في ذلك عيب، فمعظم الشعراء في بداية حياتهم الأدبية ينهجون هذا النهج وما الرفاعي إلا واحد منهم.
والذي يسترعي الانتباه هو أن كلَّ واحد منهما كان يجري حواراً من طرف واحد فالمحاور لا يجيبُ، ولا يُعلِّقُ، ولا يستفسر فالشاعرأبو ريشة لم يتلق ردَّاً من كاجوراو على أسئلته التي قدمها إليه، كذلك الشاعر عبد العزيز الرفاعي لم يحظ بكلمة أو تعليل أو تفسير لما قاله "لصبَّارتِه"، ولو أن كلا الشاعرين تخيَّل إجابات لمحاوريهم لكان في ذلك متعة ما بعدها متعة، ولكشفا لنا الكثير من متناقضات الحياة طبقاً لما لمساه في رحلة عمر كل منهما، وربما يكون هناك شيء من هذا القبيل ستكشف عنه الأيام المقبلة.
بقيت هناك ملاحظة وهي أن البيت الثاني من قصيدة عبد العزيز الرفاعي- رحمه الله- يقل تفعيلة في حشو البيت ليكتمل بها وزنه فلو قال صَبَّارتي صولي بسيفك وارهفي حَدَّ السنان. لاستقام. أو قال:
صولي بسيفك وارهفي
صَبَّارتي حَدَّ السنان
لاستقام البيت أيضاً. وكذلك الحال في البيت السادس والعشرين فلو قال مثلاً:
لوذي بصبرك وارقبي
بالشوق أطياب المجاني
لاستقام البيت.
ولعل من المفيد للقراء أن نورد قصيدة "الصبَّارة" لعبد العزيز الرفاعي حتى يمكن الرجوع إليها وقد أثبتها الرفاعي بديوانه "ظلال ولا أغصان" بصفحة "58" وهي:
لا تأبهي بالحادثاتِ ولا تذلَّي للزَّمانِ
صولي بسيفك وارهفي حدَّ السنان (1)
جرِّي القتادَ على الحوادثِ وافرغي مر َّ القنانِ
و إذا تضن السحب بالنزر اليسير من الأمانِ
واخشوشنَتْ منـكِ الجـذورُ علـى عـروقٍ مـن صـوانِ
وتجهَّمَ الصخرُ الأصَم ُّ وهل درى معنى الحنانِ؟
وجفتك أنفاس الربيع وكان مخضوبَ البَنَانِ
والطير مرَّ على قفارك .. مر محصور البيانِ
إلاَّ الغراب فقد يطلُّ عليكِ مشؤوم اللسانِ (2)
لا سامراً إلا عواء الذئب في صُمِّ القِنانِ
والثعلب الخداع يزحف حاذراً كالأفعوانِ
والبدر مشغول الفؤاد بحبِّ أترابٍ حسانِ
والنجم إن النجم تعشقه فهنَّ لَهُ روانِ
ويخفن أن يهوي على الأرض – الجميل من الغواني
والشوك مشـدود الوثـاقِ علـى الثـرى الظمـآن عـانِ
وإذا بحثت على الجديب عن الظليل من الأمانِ
وعن الحنان الثرِّ .. عن خضر المرابع والمغاني
فرمتكِ نائحة الرياح بكل سوداء المعاني
حملت سموم النار طلقاء الأَزِمَّةِ والعنانِ
وسمعت من بين الفحيح نعيِّها بيض الأماني
لا تأبهي .. كوني كصلد الصَّخْرِ ثابتة الجنانِ
كالريح تهزأ بالرُّبا .. بالروح ذاتِ العنفوانِ
كالقفر مرَّ به الزمانُ فما درى خَطوِ الزمانِ
بل ابسمي .. نعم ابسمـي واخفـي الشقـاءَ عـن العيـانِ
وعلى ممر الدهر كوني في بهـيِّ الطيلسـانِ
لوذي بصبرك وارقبي... ... طيب المجاني (3)
أنتِ العزاءُ لقلبـيَ فـي حـَرِّ الدُّخـانِ
إن المرارةَ في كيانِكِ وهيَ تعبثُ في كياني
الصبرُ من شيم الكرام إذا تناءَى عن جَبانِ
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1132  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 74 من 94
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.