شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مُدَاخَـلاتٌ
كان بودي ألا أفتح لنفسي كوة في جدار هذا الموضوع وأحاول إدخال رأسي فيما ألزمت به قلمي ولساني، أن يظلا بعيدين عن حلبة التناوش أو لجان تقرير المصير، بين الطوائف المتنازعة، ولو في الصراعات الأدبية لا سيما إذا كان أحد أطرافها عبد العزيز الرفاعي الذي غالباً ما يقع ضحية حيائه وتواضعه لكنني رأيت أن من الواجب علي في هذا الموضوع أن أقول كلمة أوضح فيها ما حاول الرفاعي أن يدفع عنه ما نُسِبَ إليه من بعض الأقوال التي وردت في مقالة، والتي وردت على لسان صاحب "نفح الطيب" المقرِّي، والتي اتخذ منها الأستاذ محمد نجيب لطفي ذريعة في الحط والطعن في علم الشيخ الفاضل عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي الألبيري القرطبي، أبو مروان عالم الأندلس وفقيهها في عصره. ومصدر ذلك الطعن هو الأبيات الثلاثة التي ذكرها المِقَّري في كتابه "نفح الطيب" الجزء الثاني صفحة "6" ونسبها إلى الفقيه العالم أبي مروان وهي:
لا تنس لا ينسكَ الرحمن عاشورا
واذكره، لا زلت في التاريخ مذكوراً
قال النـبيُّ، صـلاة الله تشمَلُـه
قولاً وجدنا عليه الحـق والنـورا
فيمن يوسـع في إنفـاق موسمـه
أن لا يزال بذاك العام ميسـوراً
والعلة في هذه الأبيات هي أنها تحمل في كلماتها المعنى العام لحديث موضوع منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم برئ منه، ونص هذا الحديث الموضوع "من وسع على بيته يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها". ورفض هذا الحديث واجب لعدم ورود ذكره أو الإشارة إليه في الصحيحين أو السنن، كذلك يجب رفض كل قول يزعم بمحتواه.
وهذه الأبيات هي لبُّ المشكلة ونسبتها إلى العالم الجليل عبد الملك بن حبيب حملت الأستاذ محمد نجيب لطفي على الطعن في علمه، وحمَّلَ الأستاذ عبد العزيز الرفاعي بعض الإثم لأنه أشار إليها بقوله:
أقول: هذه القطعة عليها سمة نظم الفقهاء، وفيها التذكير بمناسبة عاشوراء والتوسعة فيها بالنفقة، ويرى الأستاذ محمد نجيب أن العالم عبد الملك بن حبيب بهذا الشعر الركيك قد عبَّر عن جهله بالحديث وعلومه، ويعتب على الرفاعي قبوله هذه الأبيات بما فيها من معانٍ مخالفة للسنة، ومن جهة ثانية توهَّم الأستاذ محمد نجيب أن الرفاعي – رحمه الله – دافع عن عبد الملك بن حبيب فيما قاله عنه الفتح بن خاقان
صاحب مطمح الأنفس حيث قال: "ولم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من معتلِّه، ويفرق مستقيمه من مختلِّه، وكان غرضه الإجازة، وأكثر رواياته غير مستجازة" وهذه العبارة نقلها المقَّري في نفح الطيب الجزء الثاني الصفحة الثامنة واعتبرها الرفاعي تهمة خطيرة موجهة إلى عالم جليل يقول عن نفسه: إن صدره ممتلئ سنناً، وأنه لؤلؤة". وهذا ليس مجرد زعم، بل هو ما يشهد له به تاريخه ثم تابع الرفاعي الحديث بقوله: وهذا صاحب النفح لم يدع هذه التهمة تمر دون أن يعلق عليها أو يتصدى لها، بل قال: المقَّري صاحب النفح: "فقلت أما ما ذكره من عدم معرفته بالحديث، فهو غير مسلَّم، وقد نقل عنه غير واحد من جهابذة المحدثين... الخ". ومن هنا نستدل على أن الذي قام بالدفاع عن عبد الملك بن حبيب إنما هو المقَّري "صاحب نفح الطيب" وليس عبد العزيز الرفاعي. وإذا كان الرفاعي نفى دفاعه عن عبد الملك بن حبيب في مقالة المنشور بمجلة الفيصل واكتفى بنقل دفاع المقَّري عنه فإنه "أي الرفاعي" كان يؤيد المقَّري في دفاعه ودليلي على ذلك هو قول الرفاعي نفسه، في ذات المقال حيث يقول عنه تهمة صاحب المطمح التي رمى بها العالم عبد الملك بن حبيب وهي: أن عالم الأندلس "لم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من معتلِّه، ويفرق مستقيمه من مختله" فكتب عقب هذه التهمة مباشرة: "إنها لتهمة خطيرة لعالم جليل يقول عن نفسه إن صدره ممتلئ سنناً، وأنه لؤلؤة، وهذا ليس مجرد زعم، بل هو ما يشهد به تاريخه".
أليس في هذا الكلام رفض لاتهام الفتح بن خاقان صاحب المطمح، وتأييد لدفاع المقَّري عن عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب.
وهناك دليل آخر على دفاع الرفاعي – رحمه الله – عن عبد الملك بن حبيب ورد في رسالته الجوابية التي بعث بها إلى الأستاذ محمد نجيب لطفي حيث جاء في السطر الأخير من الرسالة:
"وإذا كان لي ما أضيفه هنا، فهو ما تعلمونه من أن صاحب "المطمح" لا يوثق به". هذا القول يحطم كل التهم التي وجهها الفتح بن خاقان إلى عبد الملك بن حبيب، ولا أدري هل أدرك الأستاذ محمد نجيب أم لم يدرك؟.
اختلاف الرواة في الأبيات:
عند مراجعتي لكتاب "نفح الطيب" الجزء الثاني حيث وردت به الأبيات الشعرية مدار النقاش للتأكد من صحة الأبيات، تبين لي أن الأبيات فيها بعض الاختلاق والانتحال، ولم أكتشف ذلك رجماً بالغيب، أو ذكاء عبقرياً، وإنما جاء ذلك نتيجة اعتراف صاحب "نفح الطيب" الذي أثبته في صلب كتابه بعد روايته للأبيات الشعرية التي فتحت باباً للنقاش، وعجبت من عدم الإشارة إلى ذلك من قبل أي من الكاتب والناقد.
يقول أحمد بن محمد المقَّري التلمساني صاحب نفح الطيب بعد أن ذكر الأبيات الثلاثة: "وهذا البيت الثالث وهو:
فيمن يوسـع في إنفـاق موسمـه
أن لا يزال بذاك العام ميسـورا"
نسيت لفظه، فكتبته بالمعنى والوزن إذ طال عهدي به. والله تعالى أعلم".
وهذا دليل على أن البيت الأخير ليس من شعر ابن حبيب، وإنما هو من شعر المقَّري، وقد نسبه إلى ابن حبيب من تلقاء نفسه ليجبر به خطأ نسيانه لبيت ابن حبيب، وهو أسلوب شاع بين الرواة في العصرين الأموي والعباسي فكم انتحل الأصمعي، وحماد عجرد، وخلف الأحمر أشعاراً، وألبسوها جلوداً غير جلود أهلها، وجاء المقَّري ليقول: ليس الأقدمون من الرواة بأقدر منا على الانتحال.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الدكتور إحسان عباس محقق كتاب نفح الطيب أورد في هامش الصفحة التي وردت بها هذه الأبيات، أبياتاً ثلاثة منسوبة لعبد الملك بن حبيب تحمل بعض سمات الأبيات الثلاثة الأوَل وقال عنها: إنها وردت في ابن عذارى الجزء الثاني صفحة 165 وهذه الأبيات هي:
لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا
واذكره لا زلتَ في الأخيارِ مذكـورا
من بات في ليلِ عاشوراء ذا سَعَةٍ
يكن بعيشته في الحَـوْلِ محبـورا
فارغبْ فديتُكَ فيما فيـه رغَّبَنـا
خيرُ الورى كلُهم حيّاً ومقبـورا
وهذه الأبيات تسبب حرجاً كبيراً، وتقوي درجة الشك عند المتلقي، وتضعف درجة اليقين بصحتها ونسبتها إلى عبد الملك بن حبيب، وتقفز إلى ذهنه "أي القارئ" عدة أسئلة لعل أهمها: أليس في الإمكان أن تكون هذه الأشعار منتحلة، ونسبت إليه دون علمه، ولعل بعض أعدائه قد قام بهذا العمل ليسيء إليه لا سيما وهو كثير الشكوى من الزمان، وما لحقه من غبن وحرمان بحيث لم ينل من الجوائز السنية ما نالها غيره من أصحاب الفنون كالمغنيين حيث يقول:
قد طاح أمري والـذي أبتغـي
هَيْنٌ علـى الرحمـن في قدرتـه
ألفٌ مـن الحمـر، وأقلِلْ بهـا
لعالم أربى على بغيته
زريابُ قد أُعْطِيها جملة
وحرفـتي أشـرف من حرفتـه
وأرباب العلم وأرباب الأدب أغلبهم محرومون من الحصول على ما يحصل عليه أرباب الحناجر والأقدام وهذا شاعر جاء بعد عبد الملك بن حبيب بألف ومائة سنة يشكو نفس الشكوى ويقول:
مفتاحُ بابِ المـالِ لم يظفـرْ بـه
إلاَّ أخو قَدَمٍ وصاحبُ حنجـره
أمَّا الشغـوفُ بكتبـه ويراعـه
أيَّامُهُ سود الجباه مكشره
"طوقُ الحمامةِ "في الصباحِ فطورُه
وغداؤه "قطرُ النَّدى" والجمهـرة
وما دمنا قد تطرقنا إلى الانتحال في الأدب فإنه حري بنا أن نشير إلى ما سببه الانتحال في العصور الأدبية الأوَل من إفساد في الأنساب الشعرية بوجه الخصوص، لقد سنَّ بذلك سنة سيئة للرواة الذين جاؤوا من بعدهم، بل لقد تجاوزت سيئاته الشعراء، وأصبح الانتحال في عصرنا الحاضر يُغرق أصحابه في حمأة السرقة، ووحل السلب والنهب، ولقد ترددت شكاوى من بعض المؤلفين الذين تعرضت مؤلفاتهم إلى طباعتها ونشرها دون علمهم وبيعها بالأسواق بحجة رفع الوعي الثقافي بين طبقات الشعوب، والعجب من ذلك أن هذا الأمر لم يظهر إلا في العالم العربي، لعدم وجود رادع قوي يحول بين هؤلاء المتسلقين إلى الثراء فوق رقاب المبدعين، يأكلون من خيرات عقولهم، ويلبسون من نسيج كراريسهم، ويشربون عصارة فكرهم، وأرباب الحق لا ينالون من حقهم شيئاً. إنهم محرومون حتى من كلمة الشكر.
وأحدث موضة للسرقات والانتحال في العصر الحاضر ما تحدثت عنه الأخت زينب أحمد حفني في مقال نشر لها بجريدة عكاظ بالعدد 10646 تاريخ 12 جمادى الأولى 1416هـ تحت "الأديب وميراثه الثقافي" وقد تطرقت فيه إلى ما تقوم بعض دور النشر في القاهرة من تحريف بعض روايات المشهورين فقالت: "بعض دور النشر في القاهرة قامت بتحريف بعض الروايات لأدباء مشهورين، مبررة ذلك بعدم التزامهم بالخط الصحيح لقيم المجتمع العربي. إلا أن هذا التبرير لا يعطي أحدا الحق في تحريف نتاج كاتب لم يتبق له منه سوى ذكراه.
القضية أننا سمحنا اليوم لدور النشر بالعبث بميراث الأديب الفكري، ألا يعني ذلك التغاضي عن قراصنة النشر الذين أصبح لا هَمَّ لهم سوى طبع كتب المبدعين، والمتاجرة فيهـا دون علـم أصحابـها أو ورثتهم لتحقيق كسب منفرد؟ ألا يعني هذا أيضاً التغاضي عن السرقات الأدبية التي زادت حتى طفحت على السطح الثقافي؟".
ثم طالبت في مقالها بإقامة جهات مختصة للمحافظة على حقوق المؤلفين من هذا العبث بمؤلفاتهم. وأنا أدعو الله ان تتحقق أمنيتها وهي على قيد الحياة، فإن أجدادنا وآباءنا ولداتنا عانوا من هذه الشكوى الأمرين، فهل سيبتسم الزمن ويحمل لنا في يديه وثيقة تكوين معاقبة العابثين بحقوق المؤلفين إننا لمنتظرون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :795  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 53 من 94
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.