شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
5– الحريـة:
الحرية في اتخاذ سلوك معين يفرضه الموقف ملمح من ملامح "التوازن" في المفهوم الإسلامي. فالشريعة الإسلامية في أوامرها ونواهيها لا تريد من الإنسان الوصول إلى حالة من الجمود والثبات التي تتوقف به بعيداً عن الإبداع والابتكار، وتجعله عبداً مملوكاً للمزاولات اليومية، بل هي تدعوه بكل ما فيها من عبادات إلى التجدد واليقظة والتدبر في الكون. و "لابن القيم" وصف لهذا المسلم الحر يقول فيه: "فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه" (1) .
والحرية هذه ما هي إلا نتيجة للملمح السابق، ألا وهو التعايش مع الموقف، إذ لا يخفى أن المعايشة للموقف بالطريقة التي عرضها "ابن القيم" (2) تتفق مع قيمة "التوازن" وتنطوي في الوقت ذاته على قدر عظيم من المرونة وحرية العقل والقلب، ولولا هذه الحرية لما قدر على الانتقال من حال إلى حال. ومن مقام إلى مقام حسب ما توجبه الملابسات المختلفة، ولكنها طواعية، العقل والقلب ومرونتهما اللتان يتحقق بها "التوازن" مع الموقف.
إن المسلم له أن يختار ما يحلو له من طعام وشراب وملبس ومسكن ما لم يسرف أو يداخله كبر، ولم تحرم عليه الشريعة من تلك الأمور إلا ما يعود عليه بالضرر.
والعلم الحديث يثبت لنا كل يوم صحة ما ذهبت إليه الشريعة من ضرر هذه المحرمات، حتى العبادات رسم الشرع للإنسان كيفيات متعددة لأدائها، وترك له حرية اختيار الكيفية التي "تتوازن" مع طاقته وظروفه وقد وصف "ابن القيم" الحرية التي يتمتع بها من على الصراط المستقيم في معرض شرحه لـ: إياك نعبدُ وإياك نستعين جاء فيه: "القائم بها صدقاً ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خالياً، لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم، هو مجرد دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها" (3) .
فالمسلم ليس جامداً في عبادته، ولا في سلوكه، بل يستجيب للمقام حسب طاقته، يصلي قائماً فإن عجز فقاعداً، وهكذا في سائر عبادته يدور مع الأمر حيث دار، وكذلك في سلوكه.
وفي هذا توجيه مهم للأديب وللأدباء، فالأديب المسلم يتحرك في هذا الإطار من الحرية، التي لا يتجاوز بها حدود الشريعة، ولا يخرج بها إلى الفوضى وتعطيل مبدأ الحرية ذاته. فالحرية في استعمال اللغة مثلاً تمكن الأديب من القدرة على الأداء لكن إذا خرج بها عن قاعدة لغوية خروجاً غير مباح كان في ذلك مفسدة للغة، إنها الحرية التي تنافي الجمود وتعطل القدرات والملكات، ولكنها في الوقت ذاته تجافي التمادي في اقتراف الضرورات، وارتكاب المحظورات.
إن الأديب في هذه الحالة هو الذي لا يُسرف في الخيال فيصير كمن يميت بالإغراق، ولا يُسرف في الجمود والاحتباس فيصير كمن يُميت بالإملاق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :705  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج