شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
4– المعايشة للموقف:
إن التوازن الذي ينبثق من معايشة التجربة هو المدعو إليه المرغوب فيه، وهو مخالف "للتوازن" الذي قد يكون ذهنياً مطلقاً كما هو في مفهوم الإغريق.
وهذا بعينه هو ما يجعلني أقول: إن الأدب الذي يكون صدى "لتوازن" منبثق من تجربة حية يمثل نوعاً من الواقعية التي لا تند عن الفطرة ويمثل أدباً يكون ترجمة لواقع الحياة كما يتصورها الإسلام.
ويصف "ابن القيم" من يتعايش مع مواقف الحياة بما يرضي الله بأهل التعبد المطلق، فيجعل كل ما يقومون به من أعمال في حياتهم اليومية أفضل عبادة، يقول: "إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات وقت الجهاد، الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك صلاة الفرض، كما في حالة الأمن. والأفضل وقت حضور الضيف مثلاً، القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل، والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: والإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال، الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك، والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمع القلب والهمة على تدبره وتفهمه؛ حتى كأن الله تعالى يخاطبك به. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، حضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه، والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم. فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله تعالى في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه" (1) .
هكذا فالمعايشة للموقف تضفي على حياة الفرد تجدداً واقعيًا غير مفتعل، وتجعله يعيش "متوازناً" دائماً مع مطالب الحياة اليومية بحيث يكون موجوداً دائماً في كل ميدان من ميادين الحياة دون أن يطغى ميدان على آخر.
ويصف "ابن القيم" ذلك بقوله: "وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العبّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم... فهذا هو العبد المطلق" (2) .
والمعايشة للموقف "تتوازن" مع الضعف الذي قد يعتري المرء كما "تتوازن" مع أيام قوته. فكما يطلب من الإنسان أن يقدم كل واجباته على أحسن وجه أيام قوته، نجده يُرحم وقت ضعفه، ويُخفف عنه تمشياً مع ذلك الضعف، فإذا بـ "التوازن" يسير مع قوة الإنسان ونشاطه وظروفه الطبيعية غير المفتعلة في خط متوازٍ تماماً، بحيث يطلب منه دائماً إتمام ما عليه من واجبات ولكن بشكل يتفق مع ظروفه واستطاعته.
يتحدث د. "دراز" عن الذين لا يعترفون باليسر والتسامح الذي عرفت به الشريعة الإسلامية -والذي أسميه معايشه للموقف- ويفضلون دائماً إتيان ما لا يطيقون: "والحرمان الإرادي مما مكننا الله منه يشبه إذن أن يكون اعتراضاً، شيئاً غير مهذب على مقاصد الفضل الإلهي، يوفر علينا فيها مواجهة بعض الاستثناءات للقاعدة العامة (إن الله يحب أن تؤتى. رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه أو كما يكره أن تؤتى معصيته) فمن استعمل هذه الاستثناءات بروح النظام والموافقة الكلية لا على سبيل الترف والتفريط - فإنه يرتقي إلى ما فوق مرحلة براءة العوام وهو يبرهن بذلك على تواضعه وخشوعه أمام الله، حين يقر بعدالة كل إجراء رحيم من لدنه، باعتباره تلطفاً إلهياً بضعفنا الإنساني، بعكس ذلك فإن من يزعم لنفسه القوة على تحمل المشقة، وعلى التزام الإجراء الصارم الذي يتقرر في الظروف العادية أو شك أن يقول لله: إنني أستطيع أن أستغني عن رحمتك" (3) .
فالمعايشة للموقف بهذا المعنى هي اعتراف بجميع الانفعالات والتصرفات التي قد تبدو متناقضة، فهو اعتراف بالقوة والضعف، والكبر والتواضع، والانتصار للحق والعفو وإقامة الحدود والرحمة والإنفاق والإمساك فكل هذه الأمور تحيى داخل الإنسان "المتوازن" والذي يطلب منه في كل موقف توجيه أحد هذه الانفعالات والتصرفات الوجيهة الصحيحة التي يراد بها أولاً وأخيراً مرضاة الله عز وجل.
فإن تطلب منه الموقف أن يكون قوياً لا تأخذه في الله لومة لائم تجده قوياً وإن تطلب منه موقف آخر أن يعفو ويصفح ويرحم كان كذلك، إذاً فالمطلوب من الإنسان أن يتدرب على "التوازن" بأن يُحيي بداخله كل هذه الانفعالات، وبشيء من اليقظة والوعي والحرص يوجه كل انفعال إلى البروز في الوقت المناسب وبالقدر المناسب.
بل إنه يجب على المسلم أن يحيي من الانفعالات والسلوك ما يكون قد أماته بجهله، ظناً منه أنه يجب أن يتخلص من هذه الخليقة أو الصفة حتى يحوز مرضاة الله. كالذي أضعف كل قوته مريداً بذلك أن يكون رحيماً دائماً مع الناس، أو كالذي رآه عمر بن الخطاب يسير مطأطىء الرأس، يبدو عليه الوهن والضعف، فزجره وقال له: "لا تمت علينا ديننا أماتك الله" (4) .
فالمهم إعطاء كل موقف ما يستحقه من التصرف دون زيادة أو نقصان. و "لابن تيمية" كلام جيد في هذا المقام يقول: "والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها فإنه إن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة، زين له الشدة في غير ذات الله، حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله" (5) .
وهكذا أجد أنه يجب أن يعيش المسلم بكل عواطفه وانفعالاته، وأن يحتفظ بدرجات متنوعة لكل عاطفة ولكل انفعال وأن يكون المهيمن على كل عواطفه وانفعالاته عقله الواعي المغذى بمنهج الله، وأن تكون قدوته في كل أموره محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) يقول ابن تيمية: "ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه ويعذب ويبغض من وجه، ويثاب من وجه ويعاقب من وجه، فإن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران خلافاً لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة" (6) .
"إذاً فلا مناص للمرء من مرجع يصنف المواقف، لا بد من قيم ثابتة يحتكم إليها، فيم يكون فيه السخط الشديد نافعاً أو ضاراً؟ ممّ يجب الخوف؟ ومتى يكون الحب؟ فيم يجب أن تفرغ فيه القوة؟ ومتى يستحب الضعف؟ أين ومتى يكون الإنفاق بلا حدود؟ ومتى يكون الإنفاق المعتدل أو الإمساك؟.
فهذه الانفعالات والأمور لا يجدي معها النصح بالاعتدال دوماً على الإطلاق، لأنها وظائف ضرورية، فلا غنى عنها ولأن انفعالاً ما يكون نافعاً ضرورة في موقف، بينما يكون مهلكاً في موقف آخر. وبناء على هذا فلا محالة من تبين المواقف على ضوء شريعة الخالق وائتماماً بالقدوة الذي كان خلقه القرآن - محمد (صلى الله عليه وسلم)" (7) .
في هذا الإطار لا يقول الأديب: أميت هذا الانفعال وأحيي ذاك نشداناً "للتوازن" المرغوب فيه؛ لأن الاستجابة للدوافع العقلية أو القلبية وحدها لا تفيد، وربما لا يتحقق بها "التوازن" فلا بد من مرجع يفيء إليه، هو المنهج الإسلامي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :699  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج