شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تركي السديري
من الرياضة إلى رئاسة التحرير!!
في نهاية الثمانينيات الهجرية بعد القرن الثالث عشر حين كنتُ أعمل مساء في مجلة (( اليمامة )) الأٍسبوعية، كنتُ أقابله حيناً في (( مطابع الرياض )) بحي المرقب متنقلاً بين عاملي ((الصَّف))، و ((الإخراج)) أو في فناء المطابع حيناً آخر، أو في ردهات مكاتب ((اليمامة)) وجريدة ((الرياض)) اليومية حيث كانت المكاتب مجرد فواصل من ((الأبلكاش)) على سطوح المطابع حيناً ثالثاً!!
كنتُ أراه بثوبه المفتوحة ((أزرار)) صدره، وعليه علامات من حبر المطابع، وعيناه مشغولتان بالأوراق، يمرَّ بك دون أن يحس بك لأنه وهو يسير يقرأ ما هو مكتوب على الورق بيد، وبالأخرى يحمل قلماً ليؤشَّر على ما يقرأ مصحِّحاً أو مضيفاً بعض العبارات.
يعمل بكل مدركاته الحسية، بيديه، بعينيه، بعقله، تحس أن لا وقت عنده للكلام، و (( طق الحَنَك )) .
في إحدى الليالي دخل علينا إلى مكتب المجلة، وسلم الصديق (محمد الشدي) رئيس التحرير أوراقاً، دخل مشغولاً، وخرج مشغولاً، كانت شخصيته مصدراًً لحيرتي، وتساؤلاتي!!
إإلى هذا الحد من الإندماج الكلي يعمل الإنسان، بحيث لا يشغل نفسه بما ومن حوله؟
أهو عشق العمل، أم التفاني في أدائه؟
أم الطبيعة، والطبع الذاتيين؟
ومع كثرة الأسئلة قلتُ في نفسي: لله في خلقه شؤون، وشؤون، دع الخلق للخالق، ومن راقب الناس مات هماً وغماً!!
ناولني الصديق (الشدي) أوراقاً، لم أجد إسماً عليها، ثم قرأتها فإذا هي قصة لافتة للنظر، تعالج قضية إنسانية إجتماعية بأسلوب أدبي فني له نكهته الخاصة، وكان عنوانها ـ يومها ـ جريئاًَ، فسألتُ الصديق (الشدي) لِمْن هذه القصة؟
رد لزميلنا (تركي عبدالله السديري)، وهذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها باسمه!!
سألته: أهو الذي دخل علينا؟
ردَّ الصديق الشدي: ألا تعرفه؟
قلت أراه يومياً، وشخصيته تحيِّرني، لكنني لم يسبق لي أن قرأت قصصاً له، وعنوان القصة فيه حساسية ـ لا أتذكر نصه الآن ـ لكنه يشتمل على (( مضغ اللبان ))، وهذا فيه إيحاء أنثوي، قابل للتأويل إلى ما هو أبعد من هذا الإيحاء، ومع ذلك أصررتُ على الإبقاء عليه، لعلاقته الحميمة بالقصة التي تشبه العلاقة بين (( شن ))، و (( طبقه ))، وعندما سألته عن عمله، أجاب أنه المشرف على (( صفحات الرياضة )) بالزميلة (( الرياض )).
من يومها حرصتُ على التعرف عليه شخصياً، فاكتشفتُ أنه ليس بالسهولة معرفته، والتغلغل في أعماقه بحيث يهيَّأ لك أن غموض ((الصحراء)) على سعتها يسكن داخله، ولأنني أؤمن أن لكل شخصية مفتاحها الذي يكشف لك ما لا تعرفه، فكان عليَّ البحث عن هذا المفتاح بالسلام، والتحايا، وفي إحدى أماسي الشهر الكريم (رمضان) دعاني ومجموعة من الزملاء لتناول طعام الإفطار، فاستجبتُ لهذه الدعوة الحميمة، وحين ذهبنا إلى منزله، وجدتُ كل ملامح بساطة ابن الصحراء تسيطر على منزله، وأثاثه.
تكرَّرت اللقاءات، لكن ظل الطابع الرسمي يحكم علاقاتنا، ومرة كتبتُ موضوعاً أرد فيه على الأخت الفاضلة الأدبية (خيرية السقاف) التي كانت من أوائل الأقلام النسائية المعروفة في المملكة لأنها كتبت موضوعاً هاجمت فيه كل الكاتبات الناشئات بأسلوب فيه حدَّة، مما أثار حزن الكاتبات، لم أرد عليها باسمي، بل اخترنا إسماً نسائياً مستعاراًَ هو (ليلى سلمان)، وكتبنا تحت إسمها (ماجستير صحافة)، وكان أسلوب ردِّي يحمل الحدَّة نفسها التي كان عليها أسلوب الأخت العزيزة (خيرية)، وعنوانه (( العاصفة التي دَحْرَجَتْ القوارير ))!! والموضوع أحياناً يقرأ من عنوانه!!
فوجئت بموضوع حاد ينشر في جريدة ((الرياض)) للصديق العزيز (تركي الديري) يشكِّك في حقيقة إسم ((ليلى سلمان))، قلتُ في نفسي لعل موضوعه بداية الطريق الموصِّلة للمفتاح الذي أبحثُ عنه، فرددتُ عليه باسمي الصريح، وفي جريدة ((الرياض)) التي نُشر بها موضوعه مؤكِّداً وجود شخصية كاتبة اسمها ((ليلى سلمان))، على طريقة ((عنز ولو طارت)) ولأن النقاش بيني وبينه لم يكن له قضية موضوعية، فأوقفنا النقاش حولها متفقين على أنها إذا كانت قضية فهي ((صلعاء))، تضع ((الباروكة)) لكنني استطعت خلالها التوصل إلى مفتاح شخصيته الغامضة، فأستأنس كل منا بالأخر.
كل الذي كان يحزنني أن الصديق العزيز (تركي عبدالله السديري) أديب من صلعة رأسه إلى أخمص قدميه، هذا ما كنتُ أحس به، ثم جاء ليؤكِّده بنفسه في أحد أعداد جريدة (( المسائية )) المحتجبة، وبدايته مع الكتاب، والقراءة، إذن فإن عمله في ((الرياضة)) كان مجرد منعطف عابر في مسيرة حياته، أو انحراف عن المسار الصحيح!!
وفي أحد الأيام ذهبنا كفريق صحافي لحضور (( مناورة )) للحرس الوطني، في الصحراء، وصادف أن خصَّصوا خيمة وضعت عليها ثلاث لوحات، (( مجلة الفيصل )) جريدة (( الرياض )) جريدة (( الجزيرة ))، وكان يومها قد أصبح الصديق العزيز (تركي السديري) رئيساً لتحرير جريدة ((الرياض)) التي قفز بها قفزات جعلها من أبرز صحف الجزيرة العربية، والخليج بكل جداره، وقدرة واقتدار.
وبعد أن حضرنا حفل شعراء (( الرَّد )) وتناول طعام العشاء ذهبنا إلى خيامنا ففوجئنا أن لوحة مجلة (الفيصل) التي أرأس تحريرها قد نُقلت إلى خيمة أخرى فعتب عليَّ الصديق (السديري)، ولم أكن بحاجة إلى توضيح الموضوع له لأننا كنا أثناء العودة نسير معاً، فقال لي أعرف سبب نقل اللوحة، وعرفتُ مَنْ وَرَاءَ نقلها!! فلا عليك، وأذهب إلى الخيمة التي تم نقل اللوحة عليها ـ فشعرتُ أن من تصرَّف قد أساء إليَّ من حيث ربما أراد أنه قد أحسن، لكن عتب الصديق (السديري) أشعرني بطريقة غير مباشرة بمكانتي في نفسه.
وقد كَبُر هذا الشعور وتنامى عندما سمع أنني سأترك المجلة قال لي بما لا أنساه إطلاقاً: شوف يا علوي إذا تَرَكْتَ المجلة فإن ((الرياض)) جريدتك، ولك أن تأتي وتختار المنصب الذي يناسبك، ولك أن تحدِّد الراتب، وتختار المكتب الذي يروق لك!!
أمام هذا الموقف الكبير الشهم لم أجد ما أرد به عليه، لكنني رأيت (السديري) أمامي كنخلة سامقة مثمرة من نخيل الجزيرة العربية، وأن في أعماقه بستاناً كبيراً فوَّاحاً بعبير (خزامى نجد)، والرجال مواقف لا مناصب، وأحسستُ بالأمان لأنني لن أترك معشوقتي المزهرة ((الصحافة))، وأن الدنيا بخير، وفيها أخيار.. ولكن!!
وحين انتقلت المؤسسات الصحافية إلى مبانيها الفخمة بحي (( الصحافة )) ذهبتُ كزميل مباركاً هذه الخطوة فأبى الصديق العزيز (تركي السديري) إلا أن يوِّدعني بنفسه إلى فناء مبنى (( مؤسسة اليمامة الصحفية ))، رغم أنني لم أعد صاحب منصب، أما الصديق العزيز (خالد المالك) رئيس تحرير (الجزيرة) فلم أجده، لأنه كان في إجازة.
وبانتقال أخ الصديق العزيز (السديري) إلى رحمة الله ذهبتُ إلى منزله الذي كان يغص بوجهاء المجتمع، وأصدقائه إلى حد أن بعض المعزين كانوا وقوفاً لضيق منزله بهم على رحابته، وسعته، فقلتُ هل أعزِّي صديقي بوفاة أخيه، أم أهنِّئه على هذا الحب الكبير الذي يمثِّله حشد المعزِّين؟
إنه حبٌ أكبر من كل المناصب، وأثمن من كل جواهر الدنيا الكريمة، وبلايينها، حبٌ يسمو على كل الصفقات التجارية الكبرى، حبٌ لا يُشترى بالمال ولا بالذهب والألماس، فقلتُ في نفسي وأنا أشق طريقي إلى حيث كان يقف على قدميه مستقبلاً المعزِّين، وراداً بالجوَّال على من يتصل به من خارج الرياض، قلتُ في نفسي: ((بخٍ بخٍ لك يا تركي هذا الحب المتدفق)).. وحين وصلتُ إليه قلتُ له: إنني في حيرة من أمري يا أخ تركي، هل أعزِّيك بوفاة أخيك، وهو ما جئت من أجله، أم أهنِّك على هذا الحب الذي حمله لك هذا الحشد؟ شكرني، ثم أنشغل بالرد على الجوَّال الذي لم يتوقف، وهو حريص على الرد بنفسه!!
سألتُ نفسي سؤالاً، وأنا أغادر منزله، هل يُقيَّم الإنسان مكانه ومكانته عند الآخرين في الأفراح، أم في الأحزان، أم في كليهما؟
سؤال لا أميل إلى الإجابة عليه، تاركاً للقارئ الاجابة لتقدير مواقف الناس على اختلاف مشاربهم، ونزعاتهم، وتوجهاتهم.
أما تركي السديري اليوم فهو واحد من نجوم المجتمع الرسمي، والاجتماعي وأحد أعلام الإعلام العربي المؤثِّرين بحكم شخصيته، وبحكم مكانة جريدته التي يكتب فيها رموز السياسة، والفكر، والأدب من داخل المملكة، ومن أغلب الأقطار العربية.
وقد خطا بها أخيراً خطوة رائدة جعلها تُطبع، وتُوزَّع كل صباح في كل من (بيروت، ودمشق، وعَمَّان، وبغداد)، وهذه ليست إلاَّ بداية الطموح الذي يخطَّط له بصمت دؤوب، أو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل (كما يقول ماوتسي تونج).
و إذا كنا قد خسرناه أديباً، وربما قاصاً وروائياً، فقد كسبناه كاتباً سياسياً ينطلق من موقف ثابت رغم ألاعيب السياسة، وتقلباتها، وهو لو قام بجمع ما كتبه في زاويته المقروءة (لقاء) في كتاب لجاء هذا الكتاب تعبيراً، أو انعكاساً لمراحل تاريخية عربية يمثِّل فيه شاهداً لهذه المراحل بكل تداخلاتها، ومفارقاتها، وانعكاساتها!!
وهو في زاويته لا يختص بالشأن السياسي فقط، بل يعالج من خلالها قضايا اجتماعية، بجرأة، وموضوعية، دون أن يتخلَّى عن الجانب الإنساني الذي يشكَّل ((الهرم الثالث)) في كتاباته التي يميل فيها بأسلوبه إلى الجمل القصيرة التي لا تثقل على القارئ بملل الأستطراد (الجاحظي).
وهو كصحافي تخرج من معطفه عددٌ من الكفاءات الصحافية الوطنية ومن أبرز معطياته جريدة Riyadh Daily)) التي تصدر بالإنجليزية يومياً، إلي جانب (كتاب الرياض) الشهري، الذي شكَّل بعدد الكتب الصادرة منه مكتبة صغيرة، تتنامى شهرياً لتكون في المستقبل من أبرز ما قدَّمته الجريدة من دعم أدبي للمكتبة الوطنية، ولا ننسى مشروع ((كتاب في جريدة)) الشهري.
أصبح الصديق العزيز (تركي عبدالله السديري) اليوم (( رقماً )) كبيراً، و (( كينونة )) مؤثِّرة، و (( إعلامياً )) سعودياً عربياً، و (( مكانة )) بعلاقاته الرسمية، والاجتماعية بعد أن كان محرِّراً صحافياً غيَّبته (( الرياضة )) في محيطها الواسع سنوات من عمره!!
وهذا يعني أن القدرات الذاتية للإنسان حين تجد بيئتها تتفجَّر للإتيان بما لم يتوقعه الإنسان نفسه، ولو التفت (تركي) اليوم إلى الوراء فلن يجد مما قدمه من جهود، وما أهدره من عرق في سبيل ((معشوقه الملايين))، كرة القدم غير ((اللهاث))، و ((الغبار))، و ((الفراغ))!!
وأنا هنا لا أنتقص من مكانة ((الرياضة)) التي لو غضب عليَّ قلة قليلة من عشاقها لتكوَّن منها ما يشبه الجيش الذي له بداية، وليس له نهاية، بل ربما كان جيشاً أكبر من جيش ((المعتصم))!!
و إذا لمس أحدهم شيئاً في كلامي هذا ما يمس مكانة ((الرياضة)) فإن مرد ذلك إلى ((فشلي)) و ((جهلي)) المطبقين فيها، حتى في المدرسة لم أتذكَّر أنني شاركتُ فيها، وكان ((المدرِّب الرياضي)) يمنحني ((العلامة الدنيا)) لا أدري شفقة منه، أو لعلمه من أساتذتي الآخرين بتفوقي في كل مواد الدراسة الأخرى بما فيها ((الرياضيات)) التي تحسب نوعاً من ((الرياضة الفكرية))، فالله سبحانه وتعالى إذا حرم أحد من عباده من نعمة، رزقه بنعمة، أو نعم أخرى.
وقد يكون أهل ((الرياضة)) أكثر حظاً لأنهم يكسبون بأرجلهم الملايين، بينما أنا لو رفض رئيس تحرير نشر موضوع لي فسأحرم من المكافأة التي يصرف الرياضي أربعة أضعافها للإقامة ليلة واحدة في فندق!!
سامحك الله أيها العزيز (تركي السديري) لهذه ((الورطة)) التي أوقعتني فيها مع الرياضيين، فلتكن شفيعي عند عُشَّاق قلمك الرياضي سابقاً، وأنا على ثقة أنهم يشكٍّلون ثقلاًَ مهماً ووفياً، مع عدم معرفتي فيما إذا كُنْتَ (( هلالياً ))، أم (( نصراوياً ))؟ أما أنا فـ (( حنَفْشَعِي ))!! واللبيب بالنحت في اللغة العربية يفهم!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :737  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الرابع - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج