شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به الأستاذ الدكتور عبد السلام المسدّي ))
ثم أعطيت الكلمة للضيف الكريم معالي الأستاذ الدكتور عبد السلام المسدِّي فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أيها الملأ الكريم أصحاب المعالي والفضل، هو شرف أثيل أن أجد نفسي بينكم، والشكر كل الشكر لله عز وجل، ثم لصاحب هذه الدعوة الكريمة الأستاذ عبد المقصود خوجه، في هذا البيت المعمور جعله الله يُمناً وحبوراً، إنه شرف أثيل أن نلتقي في هذه" الاثنينية "جرياً على سُنَّة حميدة، جازى الله صاحبها كل خير، وإذ نلتقي فأستسمحكم في بدء اللقاء أن أنقل إليكم في هذه الربوع الزكية تحية من بلدكم تونس الخضراء، ومثلما دأَبت عليه السُّنن الحميدة في هذه الإِثنينيات، فإن الذي يُطلب هو أن يتحدث المتحدث إليكم بما من شأنه أن يفتح نوافذ الحوار، وأن يُمدَّ إلى النقاش سبيلاً عسى أن تتضافر الرؤى ليزداد الضيف من نهل ما تتفضلون به من حوار أو نقاش، ولكنني في الحقيقة: إذ أعرج عن هذا المسلك فإنما لأحدد في البدء أن قصتي هي قصة اللغة، اللغة هذه الآلة العجيبة التي وهبها الله لابن آدم والتي تكرم بها على بني الإنسان فامتاز بهذه الآلة على غيره من المخلوقات.
- قصتي هي قصة اللغة، التقيت بها كما التقيتم، عرفتها فعرفتني وإذا بي أقف اليوم محاسباً نفسي وكأني محاسب إياها، اللغة في مفترق الطرق هذه الليلة في سمرنا إليكم، اللغة من منابعها ومنابعها شتى، اللغة هذه الظاهرة الكونية، هذه الظاهرة البشرية، لنا معها صلة ليست للآخرين ولا للأقوام المختلفين مع لغاتهم وألسنتهم، نحن أبناء الضاد، نحن العرب، نحن أمة الإسلام لنا مع اللغة شأن غير شأن الآخرين مع لغاتهم وألسنتهم. ومن هذه المنافذ كان لقائي مع اللغة. عرفتها وشربت صفاءها من رواء نص الذكر الحكيم، وتلقاها القلب، وتدبّرها العقل، فإذا بها مجمع مواريث مختلفة.
- منعرجنا اليوم مع اللغة أنها حصيلة فكر وثمرة زاد فيها معرفة العقل وهي معرفة الرويِّة، وفيها خاطر الوجدان، وخاطر الانفعال، قصتي قصة اللغة، هي لغة التراث، هي لغة العلم عبر التراث، ولكنها أيضاً وفي ملتقى معارفنا العصرية اليوم هي موضوع البحث المستحدث وموضوع المعرفة المعاصرة، بل إن العلوم الحديثة ما انفكت تكتشف من اللغة وسائلَ وسبلاً لم تهتد إليها البشرية فيما سبق.
- عن هذا اللقاء وعن هذا المفترق سأُسامركم أيها الملأ الكريم في بضع دقائق عسى أن نترك الفرصة للإخوة المشاركين في الحوار والنقاش يُغنونه بآرائهم، ويُمدوننا بما يمكن أن نستفيد به في مزيد معارفنا.
- عندما تلتقي المعرفة التراثية بالمعرفة المعاصرة وهي المعرفة التي تجنح يوماً بعد يوم إلى محاولة استكناه الظواهر عبر منظومة منطقية وعلمية جديدة، يحصل لنا أن نكتشف أول ما نكتشفه في معرفة اللغة أن نكتشف ما قد نصطلح عليه ببعدها التواصلي، فاللغة أداة تحاور وأداة تخاطب، وهي الوظيفة الأولى بل الوظيفة البديهية لهذه الآلة العجيبة التي بيد الإنسان، وهي الوظيفة التي لفرط بداهتها نكاد جميعاً ننساها، ومعلوم أن النعمة إذا حلت بالإنسان وامتدت وتواترت تغافل عنها، فلم يكد ينبثق شعوره بها يوماً إلا إذا فقدها لا قدّر الله.
- وخير ما يستدل به الإنسان على أهمية هذا البعد التواصلي في اللغة من حيث هي أداة للحوار والتخاطب وقضاء المآرب أن يتصور نفسه يوماً وقد اعتراه ما اعتراه من لثغة أو من سوء أداء أو أن يتخيل نفسه وقد حلّ بقوم لا يفهم لغتهم ولا يفهمون عنه لغته، فالصدمة النفسية التي تحصل للإنسان وهو أمام أخ له من بني الإنسان، وقد يكون أخاً له في القناعة والعقيدة، ولكنه لا يبادله اللسان في ما يفصح به كلا الطرفين، هذه الصدمة النفسية تُعيد إلى الذاكرة الوزن الذي للّغة، من حيث هي أداة تخاطب أو أداة تحاور واتصال، ويكاد الظن الشائع أن يحصر وظيفة اللغة إذا ما اهتدى إلى أهمية هذا البعد في وزنها التواصلي ليقفز بعد ذلك مباشرة إلى ما يُعرف بالوزن الأدبي أو الإبداعي، ولكن مجهر البحث بعدساته المختلفة التراثية منها والمستحدثة في المعارف اللغوية الحديثة يجعلنا نخرج عن هذا التصنيف الثنائي الضيق لنستكشف الأبعاد الأخرى التي للغة والتي لا تخص لسان قوم دون لسان قوم آخرين. بل إنها كما يصطلح عليها أهل الذكر من الكلّيات الكونية، أي من الحقائق أو النواميس التي تعم كافة الألسنة بحيث تغدو منطبقة على الظاهرة اللغوية من حيث هي كذلك.
- هذا البعد التواصلي، بعد التخاطب والتحاور لا يفتأ يُمارسه الإنسان وهو في غيبوبة عما يُبطنه من تضاعيف كثيراً ما تحجب جزءاً من حقيقتها عن الرائي متكلماً كان أو سامعاً، ذلك أن هذا البعد على بداهته كثيراً ما يزاوجه بُعد آخر ولنصطلح عليه بالبعد الانفعالي، وكل آدمي إنما هو متحدث باللغة وقلّ وندر أن يتحدث باللغة وهو في سكينة مطلقة، من أعصابه أو وجدانه، اللغة تُخبر وبها يُخبر الإنسان محاوره عما يريد أن يخبر به عنه، ولكنها أيضاً وسيلة أو قناة تُصرف فيها جوانب كثيرة من العاطفة والانفعال، ولا تستقيم اللغة الحية القائمة بذاتها إلا إذا زاوج بعدها التواصلي البعد الانفعالي أو البعد العاطفي، والذي نعنيه بهذا البعد إنما هو قدرة اللغة على أن تمتص ما لدى الإنسان من خلجات ساعةَ استعمال اللغة، وقدرة الإنسان على أن يسلك في اللغة ما يحمله من وجدان أو انفعال ساعةَ يريد أن يتحاور مع صاحب الخطاب أو مع المحاور الآخر.
- وإذا ما دققنا الأمر للفصل بين البعد التواصلي والبعد الانفعالي أمكننا أن نتخيل مرتبة أولى نفصل فيها فصلاً بيناً بين اللغة والإنسان يتحدث بها، وبين الإنسان واللغة والإنسان يخطّها خطّاً ليكتب بها إلى الإنسان، ومهما كان في اللغة من قدرات على تنويع العبارة وتركيب المفاهيم فإن المكتوب يظل عاجزاً عن أن يحمل ما يحمله الخطاب الشفوي من خلجات الانفعال وألوان الوجدان.
- هذا ما يضاف إلى البعد التواصلي ساعةَ نتركز باللغة على طرفها المتحدَّث، على طرفها الباثّ لمدلول كلامه، فما الشأن مع المستقبل أو السامع، ما الشأن مع المخاطَب أو مع المحاضر.
- إن الشحنة العاطفية التي يسلكها المتحدث باللغة في اللغة لا بد أنها بالغة أثراً من آثارها في نفس المتلقي للغة، وما يحصل من إفرازات اللغة المُتحدَّث بها بأسلوب وجداني أو بانبثاق عاطفي، ما يحصل من ذلك على المتلقي ذاك هو الذي يمثل البعد الثالث من أبعاد اللغة وهو البعد التأثيري، وكم من مستمع لكلام يُلقى إليه رِسْلاً من أمره أحَسَّ وكأن الألفاظ تهزه هزاً، بل كأن الحروف من بثّها تتقاذفه لتجرّه جرّاً إلى ما أراد المتحدث باللغة أن يُحرك به سامعه بواسطة اللغة وهذا البعد التأثيري لا نقصد به الجانب الذي قد يتبادر إلى الأذهان في تعريف ثنائي بين لغة يُتحدث بها، ولغة يُؤلف بها الأدب، وإنما نعني ذلك البعد التأثيري فيما يتصل باللغة حتى في حالة التخاطب اليومي، وكم لجأ بعض الناس إلى أن يستنجدوا بمن يرافقهم في قضاء مأرب بواسطة اللغة لا لشيء إلا لأنه يؤمن أن صاحبه أو مرافقه يُحكِم استعمال اللغة لقضاء المأرب، وكلنا في حياتنا اليومية يتعامل مع اللغة من حيث هي أداة اتصال، من حيث هي جسرُ تعبره المفاهيم، ولكنه أيضاً يتعامل معها - من حيث يشعر حيناً ومن حيث لا يشعر أحياناً كثيرة - يتعامل مع اللغة من حيث هي أداة لتفريج عاطفة الانفعال أولاً ويتعامل مع اللغة من حيث هي سلاح تأثيري أو أداة إيقاعية أو وسيلة أدائية.
- لكن للّغة أبعاداً أخرى متعددة، تنبثق جميعها من هذه التركيبة الثلاثية الأولى لتأخذ ألواناً مختلفة، ومما هو معلوم شائع أن اللغة أداة من أدوات التعامل النفسي، ويكفي أن نذكر في هذا المقام كيف يلتجئ المحلِّلون النفْسانيون والمتوسلون باللغة لإجراء العلاج النفسي في كثير من الأحيان، كيف يتوسلون باللغة ليتخذوا منها أداة من أدوات الممارسة النفسية أو العلاج العاطفي.
- ويتساءل الإنسان: كيف تتحول اللغة من أداة بسيطة إلى أداة إجرائية يتحكم بها الإنسان في مُركباته النفسية عامة؟
- إن هذا البعد النفسي في الأداة اللغوية مردّه أن اللغة قِوام ارتباط الفرد بالفرد الآخر في المجموعة البشرية، ولأن تكون اللغة وسيلة بيد الفرد في تعامله مع الفرد، فإن ذلك هو الذي يعطي اللغة مُقوِّمها الاجتماعي وليس من تعريف للمجموعة البشرية، بل ليس من قِوام لتعريف المجموعة الاجتماعية المتآلفة، إلا أنها ذات رابطة تواصلية. بل كثيراً ما يغلب العنصر اللغوي العناصر الأخرى التي قد تساهم في تركيب المجموعة البشرية على نسقٍ ما، ذلك أن التواصل في الأفكار والقناعات وما يؤمن به الإنسان يظل محجوزاً قاصراً إن لم تتوفر أداة الاتصال بين أفراد المجموعة البشرية، فالوزن النفسي على مستوى الفرد يتحول إلى ثقل اجتماعي على مستوى المجموعة، ولهذا الارتباط بين البعد التواصلي والبعد الانفعالي والبعد التأثيري في تركيبة ثنائية بين وزن اللغة لدى الفرد ووزنها لدى المجموعة تنبثق اليوم وظائف جديدة للغة، لعل الإنسان مارسها فيما مضى، ولعله تمرّس بها ولكنه لم يدرك يوماً أنها من الوظائف التي تدرس وتقنّن فتضبط لها أساليبها ومعادلاتها في المعرفة المعاصرة. من أبرز هذه الأبعاد التي انبثقت ما يمكن أن نسميه بالبعد الإعلاني للغة.
- اللغة اليوم أيها الحضور الكريم ولا أخالني أضيف إلى ما تعرفون شيئاً جديداً، اللغة اليوم سلاح حاد من أسلحة التواصل الإعلاني على مستوى الكون، اللغة اليوم تُوظَّف سلاحاً من أسلحة الاكتساح النفسي، والغزو الأدبي والاستدراج المعنوي، بل إن اللغة بحكم ما يمكن أن يوظفه لها العقل من تركيب وتنظيم تُعدّ من أخطر الأسلحة بيد الأنظمة وبيد أطراف التأثير، وبيد مواقع التصريف العالمي، ناهيكم أن أرقى محطات البحث والتمحيص في اللغويات تكون اليوم بيد العدو سلاحاً مباشراً من أسلحة الاكتساح والتأثير، وكم من غاية مرصودة اليوم يُستنكف أن يوصل إليها بالسلاح التقليدي، ويؤبى أن يُتوسل إليها بأداة الضغط الإجرائية المعروفة في بعدها المادي والفيزيائي لتقتفي سبل التأثير النفسي عبر العادات اللغوية عن طريق الغزو الإعلامي.
- وما كان للغة أن تتحول لولا ما فيها من انصياع مبدئي لتتكيف حسب المقام انطلاقاً من بُعد التأثير وبعد الانفعال لدى الإنسان في حقيقة اللغة الأولى، لكن هذا الذي نشير إليه في إلمام وجيز لا يحجب عنا أبعاداً أخرى يجب علينا أن نعترف بأن المباحث المعاصرة في اللغويات قد أتت فيها بما لم نهتد إليه في تاريخ بحثنا عن اللغة، وأبرز ذلك - وسنقتصر على أنموذج وجيز - أبرز ذلك ما يمكن أن نطلع عليه بالبعد التربوي لهذه اللغة، لهذه الآلة العجيبة.
- لقد وظّفت المعارف المعاصرة بحوثها انطلاقاً من مادة البحث اللغوية لتعيد النظر في كل مؤهلات الإنسان عامة، وفي كل ما يتهيأ به بالطبع والخلقة الأولى لاستحضار الأداة اللغوية، ويتمثل أهم ما وقع استكشافه في هذا البعد التربوي للغة أن البشرية بمختلف نظرياتها التربوية قد عاشت ردحاً من الزمن تظن أن الطفل عندما يشب ليكتسب اللغة إنما يترقى ارتقاءاً متدرجاً من الصبا نحو الكهولة في شكل يتوازى مع ارتقائه من عالم المحسوسات إلى عالم المجردات، وكانت كل النظريات تُقر بأن الإنسان يكتسب اللغة أو يتلقن اللغة انطلاقاً من الجزء نحو الكل، ومن المحسوس نحو المجرد، ولذلك كانت الطريقة المتوخاة في مسالك التربية أن يُعلم الطفل الحرف بعد أن يُعلم الحرف يُضم إليه الحرف مع الحرف ليُعلم الكلمة، ثم يرتقي بذلك إلى أن يُعلم الجملة، وما أوصلت إليه الاكتشافات الحديثة هو أن الإنسان بل إن الطفل على وجه التحديد يولد وهو متهيّئ بالطبع والسليقة إلى أن يكتسب اللغة في بُعدها الشامل في صُورتها المثلى، في تركيبتها الكاملة. واليوم تُقدِّم النظريات الحديثة في ممارساتها التطبيقية معجزات شتى فيما يستطيع الطفل أن يتلقاه وهو يتعلم اللغة من مُدرَكات ما كان يُظن يوماً أنها من مشمولات الأطفال، بل لقد وصل البحث التربوي المستفيد مباشرة من البحوث اللغوية المعاصرة، وصل البحث التربوي إلى إثبات أن الطفل - على عكس ما كنا نظن - قادر على استيعاب المفاهيم المجردة وقادر على أن يستوعب المتصَوَّرات الذهنية المجردة إبتداءاً من نشأته الأولى دون أن يمر بالضرورة عبر المفاهيم المحسوسة، وقد حقق هذا من الأعاجيب التربوية أن أصبح الطفل في مرحلة مبكرة قادراً على أن يمارس اللغة أداءاً وقراءة في سن مبكرة تسبق ما كنا نظن بأربع سنوات على الأقل. وإذ حصلت هذه الثمرة من تلاقي جداول معرفية مختلفة تَسنَّى للتفكير اللغوي المعاصر أن يعيد النظر أساساً في علاقة اللغة بالفكر.
- وكم عاشت البشرية فيما يشبه الإشكال المتواصل دائرة حول جدلية أسبقية اللغة على الفكر أو أسبقية الفكر على اللغة، وما حسم أحد أمر هذه القضية، وانبسطت قضية موازية: هل بوسع الإنسان أن يتفكر خارج حدود اللغة؟ وهل بوسع الإنسان أن يتكلم خارج دائرة الفكر؟ الذين قالوا بإمكانية ممارسة الإنسان للعملية الفكرية خارج حدود اللغة استشهدوا بالأبكم عندما يمارس نشاطه الفكري وليس له أداة لغوية مرصودة، ولكن الآخرين أجابوا وتحدَّوا الإنسان وقد تكلم باللغة أن يسرح مفكراً في أي موضوع شاء، ولو كان مجرد استعراض لشريط أحداثه اليومية تحدَّوه إن هو قادر على أن يعيد شريط أحداثه اليومية خارج حدود اللغة. بل إذا هيأ الإنسان نفسه للقاء أو موعدٍ أو لشيء يأتيه بعد حين، فهل بوسع الإنسان أن يتهيأ أو أن يرصد ذلك خارج حدود اللغة، وفمه وشفتاه على سكون بات، الأبحاث المشتركة أو ما يسمى بالأبحاث المتمازجة الاختصاصات أوصلت اليوم إلى حقيقة تتمثل في أن الإنسان عاجز عن أن يمارس العملية الفكرية خارج نظام عالمي ما، وما اللغة إلا نظام من العلامات، وما اللغة إلا أحد أنظمة العالمية الممكنة.
- قلنا إن الإنسان يتفكر باللغة وفي اللغة لأنه اتخذها وسيلة مُثلى أو نموذجاً أوفى للعلامات ولنظام العلامات، وبتركيب هذه المنظومة العالمية يبرز آخر الأبعاد وليس بأقلها شأناً وهو البُعد الإبداعي للظاهرة اللغوية عموماً، وفي هذا البعد تتجلى معجزة اللغة مرة أخرى، بل تتجلى معجزة علاقة الإنسان باللغة، وذلك عندما يحول اللغة من أداة يُسخرها لقضاء حوائجه إلى غاية تُسلك فيها اللغة الأدبية نثراً أو شعراً لتتحول إلى صورة من صور التركيب الفني ولتتحول بشكل ما إلى غاية تُنْشدُ في ذاتها إبداعاً وابتكاراً.
- أبَعْد هذا، أيها الملأ الكريم، أبعد هذا يمكننا بوجه من الوجوه أن نفصل مرتبة ما من مراتب دراسة اللغة عن سائر مراتبها المختلفة؟ الحقيقة أن اللغة كلُّ لا يتجزأ، والحقيقة أن علاقة الإنسان باللغة إنما هي تتوازى من منافذ مختلفة لا يبرز للإدراك الواعي إلا أقلها، والحقيقة هي أن قصة الإنسان مع اللغة لا تبعد عن قصة الباحث أو العالم مع اللغة، غير أن الإنسان يستعمل اللغة وهو في مأمن من قلق البحث عن اللغة وحيرته، أما الباحث أو العالم فإنه ما ينفك يَجدُّ وراء آثار اللغة ليقف يوماً ما مشدوهاً قائلاً: لعلني يوماً ما لم أكتشف من اللغة إلا بعض أسرارها، وليقول لعل المعجزة الربانية إنما تكمن ضمن ما تكمن فيه في هذه الآلة العجيبة التي بها ميّز الله الإنسان ومكّنه منها وجعلها وسيلة للخلق يستدلون بها على خالقهم، ولا شك بل إن اليقين كل اليقين أن الله عز وجل حينما جعل معجزة آخر أنبيائه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، نصاً يُقرأ، نصاً يُتلى، قرآناً حكيماً فيه تتجلى كل مظاهر الإِعجاز اللغوي، لا شك أن الله قد أراد أن يلقي بأيدينا أمانة نتفكرها ونتعقب أسرارها، والله هو الهادي، وشكراً على إصغائكم.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :493  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 143 من 196
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.