شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جيل التمرد!؟
• "الحرية:
هي الحق في أن تفعل ما يسمح به القانون"!
(1)
• سألتني "فتاة" تدرج إلى سن الشباب والنضوج، فقالت لي:
ـ أهم الآن بالبحث والدراسة لفوارق الأجيال!
أنت - كأب - قد لا تعجب بكثير من تصرفات أبنائك الشباب، لأن هذه التصرفات كانت في مطلع جيلك لا تمارس، أو لا تقبل... وربما رسخ فيك والدك هذه النظرة!
ولكنك - بلا شك - تجاوزت الكثير من قواعد الجيل الذي قبلك: جيل والدك، وعمك، وخالك. كذلك... فإنني - كواحدة من الجيل الجديد - لا ألتزم ببعض ما خلفه جيلك، أو الجيل الذي سبقني، لأنني أعتبره متخلفاً، أو لا يتفق مع طبيعة ومطالب جيلي وعصري، وإمكانات هذا العصر، وإيقاعاته السريعة، ولعل الجيل الذي سيأتي بعدنا سينسفنا نحن أيضاً، و...
ـ قلت أقاطعها: هل هذا كله سؤال؟!
ـ قالت مبتسمة: اعذرني.. إنني أمهد لئلا أغضبك، وأفصل وأشرح لتفهم ما أريد.
ـ قلت: هل تعتقدين أن جيلنا بطيء الفهم؟!
ـ قالت: عفواً.. لكن جيلكم يشترط الأدلة، والحجج، وتبرير الفعل!
ـ قلت: أرجوك.. لا تشتم جيلي، فنحن نتكلم بوضوح!
ـ قلت: أوصليني بسؤالك مباشرة.. من فضلك.
ـ قالت: أين تقف أنت اليوم - ككاتب - بمعنى أنك لست فرداً عادياً.. أين تقف - كأب - بمعنى أنك تمثل جيلاً (متعلماً، ومتخصصاً) يقف في مواجهة جيل جديد؟!
فهل مازلت تعتبر نفسك من نهاية حقبة جيلك، وهو الجيل الذي تعارفوا على تسميته بـ (جيل الرفض)، أم تراك منسجماً.. ممتزجاً مع بداية هذا الجيل - جيلنا - الذي يطلقون عليه: (جيل التمرد)؟!
(2)
• أعترف أن سؤال هذه الفتاة أصابني بالدوار البحري.. فهو استفهام ضخم، ولابد أن يحمل في تضاعيفه وخلفياته: استفزازاً لمحاولة يفعلها جيلي اليوم: أن يقعد قليلاً، ليستقر في قاع الكأس، وينجو - بالتالي - من هذا الفيضان الذي يغمر فوهته!!
وكأن الفوهة قد تحولت نثارها وفيضها إلى هذه "الحبيبات" التي تغطي الفوهة، وتفعل الانفصال عن وحدة المادة الموجودة داخل الكأس!
ولما شردت بي خواطري.. سمعت صوتها يلكزني بسؤال:
ـ قالت: أراك تخلد إلى الصمت... هل تفكر؟!
ـ قلت: في البداية.. أو أن أصحح لك "عنونة" جيلي، أو تقييمه.. فنحن لا نسمى: جيل الرفض، بل الصفة الحقيقية لهذا الجيل الذي أنتمي إليه، إنه جيل: "الصهر"... الجيل الذي جاء في ظروف "الإنتقال" - حضارياً، وسياسياً، وثقافياً - وفي الظروف "النقلة الاجتماعية".. فقد ولدنا من جيل وديع، بسيط، محدود القدرات والطموحات والإمكانات والرغبات، وإن شهد طلوع نهضة فكرية، وحيوية في العطاء... لكنه جيل تميز بالقناعة، وبالاكتفاء، وبالحميمية، وبالتقارب!
وحاول آباؤنا أن يثبتوا فينا الكثير من مميزاتهم وقناعاتهم... لولا أن "المدنية" اقتحمتنا كموجات متدافعة.. ولولا أن "الحضارة" اكتسحت كفيضان جارف.
وكان من أخطر ما يمكن أن نصاب به.. هو: الانفصام، بعضه جاء من جيل الآباء والأجداد، وبعضه الآخر من مكتسبات أو تأثير هذا الانتقال الذي حدث سريعاً، وعنيفاً، ومغرقاً!
ونحن أيضاً.. هذا الجيل الذي ينطبق عليه المعنى الذي جاء في كلمة قالها الإمام "علي" كرم الله وجهه: "من لان عوده.. كثفت أغصانه"!
لم يكن عودنا صلباً، سريع الانكسار والاحتراق... وأيضاً.. لم يكن عودنا: رخواً كثير الانحناء، لكنه العود المرن والمتطوح أيضاً في شدة الإعصار، وفي لمسة النسمة الرقيقة.. فأنبت هذا العود أغصاناً كثيفة منه، هي أنتم.. الذين نخاف عليكم، ونتطلع إليكم برجاء!
وفي الحديث الشريف عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم"إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"!
حفظنا هذا الحديث منذ يفاعتنا، وقد تعلمناه من آبائنا، وربما يتمثل في نهاية جيلي هذا: الحرص الشديد على الالتزام بالهدى النوراني.. فنحن بلغنا في معنى الانتقال: حتمية صراع الأجيال، وهو ما يتسع مع تمدد المدنية، وركض الحضارة.. حتى يبلغ بكم أنتم في مطلع جيلكم هذا إلى فرضيات "التحدي"!
إن كل التحدي الرمحي المنتصب الآن، هو مرهون بطرفين اسمهما: الغاية، والوسيلة!
وفي اللحظات التي تكبر فيها أشياؤنا.. فإن حرارة التوهج تخضع آنذاك للإرادة، وللتقبل.. لمقدرة المرء على الصمود أمام كل ما يكتشفه، وكل ما يقتحمه.. سواء كان حقيقة، أو كان مجرد جدل يتعاظم داخل النفس، ثم يتمرد!
إن الإنسان يفقد براءته.. أو أن جيلكم هو هذا الذي فقد براءته، ولا أقول: روحانيته.. وعندما تتضخم الأشياء في صدورنا أو في عقولنا، فإن الصدر والعقل لا يتسعان، بل هما يضيقان جداً باتساعهما أو بتضخمهما.. أو كما قال فيلسوف معاصر:
ـ (كلما شعرت بفقدان براءتي.. وعيت قساوة الدور الذي ينتظرني.. إنه الدور الممتاز والباطل)!
وفي غمرة هذا الزحام المرهق والمتعاظم مع مرور الوقت.. فإن الزحمة تبدو بعد هذا أشق من ضيق الحرمان!
(3)
• وسألني صديق من جيلي ذات يوم، قائلاً:
ـ ماذا نفعل بسمو الأخلاق؟!
ـ أجبته: إننا نتعلم بها السمو وفيه: "كيف نعيش"، ونعرف به: "ماذا نصنع"، ونلتزم في إطاره الجميل: "بالمثل والقيم"!
ـ وسألني ثانية: ألا ترى أنه أمام رغيف العيش.. يسقط "سمو الأخلاق"؟!
ـ قلت: يسقط مع النفس الضعيفة.. مع الذهن المنحرف.. مع الدوافع الحاقدة.. مع الظروف الرطيئة، والحاجة والعوز والمسغبة!!
ـ قال مبتسماً: لكنني أعتقد أن واقع الحياة مع هذه "النقلة الاجتماعية والحضارية" قد أفسد فينا أخلاق الكتب!
قلت: ذلك لأن كل واحد يعتقد أنه القادر على تأليف الكتب، وهو في حقيقته يعجز عن إتلاف الكتب التي لا تعجبه، وإن كان يحاول!
ولم أقصد المعنى المباشر، فأخلاق الكتب التي تعلمناها: نموذجية وقوية الصمود.. وقد يعطيها لك "معلم" ويعلمها لك ولا يطبقها.. وقد يكون بعض مؤلفيها من مرضى: ازدواج الشخصية!!
إن كل جيل يأتي بملامحه، وبظروفه، وبقدراته... ويحيا في رقعة إمكاناته ووسائله الحضارية، ولكن.. تبقى هنالك ركائز وقواعد إنسانية، تنسحب ليكون التميز بين عصور سحيقة في البدء، وعصور الغابات.. وبين عصور طليعة في بدء التنوير، والرسالات، والمعرفة والعلوم.
• يقول مفكر آخر، اسمه "هاوز" في تفصيله للأجيال:
ـ "لكل طور من أطوار الحياة.. أخطاؤه وتجاربه، إلا أن الشباب أكثر تلك الأطوار أخطاراً وأخطاء... فهو الزمن الذي تنشأ فيه العادات وتتأصل فيه النفس، بل هو ينبوع الميول والاتجاهات المختلفة.. وفي خلال هذا الطور، يتخذ الإنسان صفة معنوية ثابتة، ويلبس الثوب الذي يظل يكسوه إلى نهاية العمر"!
ـ قال صديق من جيلي: من نحن إذن في واقع التزاماتنا، وطموحاتنا، وآرائنا، وصغائرنا؟!
ـ قلت: إن كل إنسان من هذا الجيل.. يود أن يؤكد "مسراته" بكل وسيلة، وفي ذات الوقت: هو يبحث عن تعبه، ويبحث عن جغرافية لحيرته، ويحاول في ذلك كله أيضاً، أن يتجاوز تناقضاته وعفويته.. بحيث تنطبق عليه العبارة القائلة:
ـ (شخصيون حيث كنا الغاية.. وغير شخصيين حيث كنا النموذج)!
ـ قال: كأنك لا تريد أن تستوقف شخصاً على قارعة الطريق لتحادثه، وإنما أنت تفرض عليه أن يدخل صالونك، وقد لا تستقبله لارتباطاتك، أو "لهالتك".. أو تقابله ويشرب قهوتك ولا يطيل!
ثم نتحدث بعد ذلك عن "السلخ" لقناع المجاملة، لكي نصل إلى حقائق الناس، وأسرارهم، وأشيائهم الصغيرة جداً.
ـ قلت: في زمن أبي وأبيك.. كان الواحد منهم عندما يخرج من بيته لا يتعب من إلقاء التحية وهو يمر، ويتوقف ويسلم، ويسأل عن صحتك وصحة الأولاد، وقد يفتش ملامح وجهك.. فإن لاحظ ضيقاً وكرباً سألك وحاول مساعدتك.. أما اليوم، فأنت لا تلتقي بأخيك وبأهلك إلا في المناسبات، إن لم تسافر أيضاً!
إن نفسية الإنسان مازالت تلك الكاميرا الحساسة التي تلتقط بسرعة، ولكن ما تلتقطه اليوم هو خليط، وزحام، ومتناقضات.. بينما ما نفتش عنه: أن تلتقط هذه الكاميرا كل ملامح الوجه، وأن تعكس عمر الاكتشاف، وأن تخرج الصورة واضحة متوهجة.. تنقل الحقيقة ذاتها!!
(4)
• وبعدت عن هذا الصديق من جيلي.. فلم أعد أستطيع مجاراته في الحوار، وهو من جيلي!
كان ما بيني وبينه قد تعب هو الآخر، بكل ما هو خارج عن إرادتنا، وعن عجزنا، وعن التزاماتنا.
وكان ما بيني وبينه قد سقط في فوهة جب، لتكون "وظيفتنا" بعد الكلام: انتظار سماع الارتطام!
كان ما بيني وبين هذا الصديق - وهو من جيلي - قد فقد براءته في قساوة المتغيرات، وفي تمويه الحقيقة الذي ينتظرنا.
كنت - بعده - أجادل أفكاري وأدليها إلى أعماق نفسي.. ثم أشعر بالظمأ!
(5)
• ولكن تلك الفتاة الناهدة، وهي تدرج إلى الشباب والنضوج، لم تقتنع بانطباق العنوان الذي وضعته "لافتة" تدل على جيلي.. فقد قالت لي بعد ذلك الحوار:
ـ إنك تتوغل بي في فلسفة الحياة، وأريدك أن تقف في صف محدد!
ـ قلت: إنه جيلي.. ليس صفاً محدداً، ولكنه ما بين الصفين: صف جيل اليقين، والقناعة، والبساطة.. وصفكم: جيل التمرد، والانطلاق دون الالتفات إلى الخلف!!
أعني - كما أسلفت - أننا جيل "الصهر" والانتقال، والتقدم نحو تجارب غير مألوفة ولا معتادة!
لقد عرفنا أن المناخ الإنساني المعاصر، وقد تمخض عن إلهامات خشنة.. من أجلها، وبسببها: احدودبت أشياء كثيرة!
أردت أن أتوغل بك، ولكن فوق عشب أخضر، من أمل الشباب.. فمن غير الممكن أن أطالب - حتى جيلي - بمثل تلك اللمحة التي أضاءتها عبارة "عمر بن الخطاب" عندما قال:
ـ "لو نفقت شاة على شط الفرات.. لخشيت أن يسألني الله عنها"!!
ولكن من الممكن أن أقف بك عند معنى عبارة حديثة، قالها "برن":
ـ "قل لي ما هي الأفكار التي تجول في رؤوس الشباب في هذا العصر.. أقل لك أخلاق الناس في العصر القادم"!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :956  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 483 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.