شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الثقافة ما هي؟!
إن الثقافة هي أساس التنمية، ولا يمكن تصور تنمية، باعتبار أنها قيم، ونمط حياة، ووسائل مادية واجتماعية.. إلا من خلال حضارة وثقافة معينة.
إنه لا يمكن - بصفة عامة - أن يتم عمل إنساني في خارج دائرة الثقافة في كل الأبعاد، غاية ووسيلة.. فالثقافة في هذا الإطار، لا تكون بعداً من أبعاد التنمية، ولكنها تكون هي التنمية نفسها.
د. محي الدين صابر
(1)
* لقد كان من البدهي أن نجيب في تلك الندوة/ إحدى فعاليات معرض الكتاب بالقاهرة - عام 1993 - عن السؤال المطروح، والمدوّر من أعوام ماضية، وهو:
* ما هي الثقافة؟!
لقد كانت الثقافة في العصور السالفة هي: الإلمام من كل علم بطرف، ثم هي: التعليم، والجامعة أو التخصص، والكتاب أو الإطلاع والتثقف.. كل أمة بِلُغتها، وبتراثها الخاص بها، وليس أكثر من ذلك!
الآن... في هذا العصر، اختلف تعريف الثقافة من اختلاف دورها، وتأثيرها، أو توظيفها.
الثقافة اليوم هي: اللغة!
والثقافة اليوم هي أيضاً: الأيديولوجية - غير الثابتة! - وإنما كل نظام سياسي يأتي معه بشعار، يُحوله إلى أيديولوجية... ثم: الفهم السياسي.
ولا بد من ربط الثقافة بالسياسة منذ أن قال "أندريه مالرو" في عهد ديجول:
* المثقف المعاصر.. هو الذي يوازي بين التطور العلمي، وتنمية السياسة في المجتمع!
ثم - بعد الفهم السياسي - هناك: المناهج التعليمية المرتبطة بالخط السياسي أيضاً.
ثم: الإعلام... وخلفه تأتي: السينما، والمسرح، أو الفيديو!
ونلاحظ أن "الكتاب" صار يأتي: آخراً!!
وبذلك.. لا بد أن تكون للثقافة الغربية كل التأثير على الفكر العربي.. أو أن يكون لها كل القدرة على تذويب التراث العربي، وإغراقه!
* * *
* وفي ندوة أخرى.. طرح أحد المتحاورين استفساراً يبحث فيه عن:
القدرة التي كانت للفكر العربي، أو العلم الذي ساد في الماضي السحيق، ثم انتعش منذ الثلاثينات في مصر، والخمسينات في أقطار أخرى عربية مع مصر... وما هي أسباب نقص قدرة العقل العربي اليوم؟!
* هل يرجع ذلك إلى المتغيرات السياسية المتلاحقة، وافتقاد الاستقرار؟!
* هل السبب يكمن في تفشي أنظمة القمع والاضطهاد للكلمة، ولحرية نشرها؟!
* هل يعود ذلك إلى الخلخلة التي أحدثتها الانقلابات والزوابع السياسية في عمق المجتمع العربي؟!
* أجاب ذلك المتحاور المحاور عن الاستفسار الأساسي بقوله:
ـ أحسب أن السبب يكمن في عجز القدرة الإعلامية العربية - بكل وسائل النشر، وتعددها - عن انطلاقة الفكر العربي!
* ولكني - بالتأكيد - أخالف هذا الرأي.
لو أننا استغنينا عن إثبات دور الإعلام العربي المُسيَّس، أو شجبه بعض الوقت... فإننا نجد: أن الفكر العربي المعاصر ذاته غير قادر على التحرك، ولا يستطيع أن يجهر بمضمونه... لأن هذا المضمون مريض ومتداعٍ بسبب المراحل السياسية التي تعاقبت على العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية.
ولو أننا طرحنا التساؤل عن: السبب في تراجع البحث العلمي العربي، وانحسار الفكر العربي، مما أفسح المجال لتفشي الثقافة الغربية، أو تقليدها الأعرج.. فإن ذلك يعود إلى الحقب الاستعمارية بلا شك!
وما حدث للجزائر - كمثال - هو شاهد مؤلم على ذلك.. مما دفع بالمفكر الجزائري الكبير (مالك بن نبي) إلى البكاء يوماً، وهو يقول:
* أليس هو العار... هذا الذي يسكن لساني، فأكون عربياً، وأنطق بالفرنسية؟!
* * *
* ذلك هو الجانب المعاصر، مما ينبغي علينا أن ننظم له ندوات متتالية، وتتبناه "الجامعة العربية" بالضرورة... وخصوصاً وأن برامج التعريب في أقطار المغرب العربي لم تحقق ذلك النجاح المؤمل والمطلوب.
لكنّ جانباً آخر في هذا الحوار.. يعتبر: أن البحث عن الثقافة هو سؤال متأخر كثيراً، أو أنه جاء في تصور يقول:
* إن العرب صاروا أمة راكدة.. كانت في غابة، أو سرقتها غيبوبة.. أو كأن البحث عن تقبُّل الثقافة الغربية، أو أي ثقافة واردة.. هو: فضول!!
* لماذا؟!!
لأنه واقع من أقدم التاريخ.
إننا أمة وسط.. سواء في الجاهلية، أو في الإسلام.. وفي الحقب والعصور.
نحن ملتقى الأمم، وملتقى الطرق.. وقد تفاعلنا مع كل الحضارات، وهضمناها، وأضفنا، وجدّدنا... واعتقدنا أننا أثّرنا كثيراً، بينما نسبة ما أثّر فينا كان هو الأكثر بكل أسف!
* وعلى سبيل المثال:
* في اللغة العربية ألفاظ عُرِّبت من لغات شتى وبقيت إلى اليوم، والكثير يعتبرها من الألفاظ العربية الأصل، ومنها: زنجبيل، دمقس / وهو الحرير الدمشقي المأخوذ اسمه من دمشق.
* وفي القاموس نجد لفظة: ديماس، أو ديماص (مغسول ديماس تماوصه)، ومعنى تماوصه: أي تخالطه، وديماس: تُترجم دمشق!
* ذلك مثال من اللغة... أما الموسيقى، فنعرف أن: أول من جلب (العود) إلى الجزيرة العربية هو "الحارث بن كلده" الذي تعلّم العزف عليه في الحيرة، وأخذ إلى منطقته.
ولو أردنا التوقف قليلاً عند تعاريف الأنغام... وجدناها فارسية، مترجمة للعربية:
* نعرف أن "سيكا" تعني: ثلاثة أصوات.
* وأن "الجاركا" تعني: جهاركا... أي أربعة أصوات.
* وأن "البنجكة" تعني: بنج... أي خمسة أصوات.
وكان عصر محاربة الفقر بكل الأساليب... وعصر تكثيف الفقر، والمجاعة!
وكان عصر التكنولوجيا، والاختراعات، وارتياد الفضاء، وتحطيم الذرة.
وكان عصر التزود بالمعرفة في رحاب إنسانية.
وكان عصر "الإعلام" الموجِّه"، أو المزور للحقيقة.
وكان عصر الصعود العلمي، والمتمدين، والصناعي... وهو - في ذات الوقت - عصر السقوط لكثير من المُثُل، والقيم، والثوابت في سلوكيات الشعوب!
(2)
في هذا القرن/ العصر: وقف - في الستينات - إنسان مثقف، يحمل شهادة الدكتوراه... وهو يدعو إلى: مبادئ إنسانية تستشرف قدَر وقيمة الإنسان في عصر يتفوق بالعلم، ويتطور بالحضارة!
كانت "التفرقة العنصرية" مستعرة في جنوب إفريقيا.
وكانت هذه التفرقة ذاتها تتبلور في نوايا الاستعمار الجديد لمنطقة الشرق الأوسط، متزامنة مع توظيفها في أعمال الصهيونية التي احتلت الأرض العربية في فلسطين.
ولم يكتف التاريخ - فيما لاح - بسقوط "إبراهام لينكولين"/ محرر العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية... فسقط الكثير من الضحايا، في سبيل الدعوة إلى مساواة الإنسان!
وكان من الطبيعي أن تنشط الحركة الصهيونية في أمريكا لإشعال الفتيل من جديد، لتحطيم وحدة الولايات المتحدة، أو اتحادها.. ولتحطيم امتزاج الأسود بالأبيض.. ولتوظيف "الدور" الثقافي في تغيير المفاهيم إعلامياً، وفي نسف الكثير من القيم والأخلاقيات التي كانت سائدة قبل ظهور الصهيونية.
إن ظهور الصهيونية قد أثر بلا شك في مسيرة الثقافة عالمياً.. وحاول ظهورها أن يُعتّم على التراث الإسلامي بوجه الخصوص، وعلى الحركة التعليمية والتثقيفية في الأقطار العربية!
لقد أرادت الحركة الصهيونية أن تنتقم من العالم كله.. ومن "الإنسان" أياً كان، بعقدة اضطهاد النازية لها.. وأخطر توجُّهات الانتقام يتمثل في:
* تحطيم فكر أمة.
* تقزيم دور مثقفيها من خلال ما بثَّته من تشكيك وتخويف ينصبان على: تأثير المثقف في المجتمع، وتحريضه على التغيير... أي على إحداث الفوضى في دواعي الإستقرار، والأمان، والثقة السائدة داخل كل مجتمع عربي!
* * *
* ونذكر معاصرة هذا القرن/ العصر للحظة التي وقف فيها الزعيم الزنجي المثقف (مارتن لوثر كينج)، ليدافع عن ((لون)) بشرته، وإنسانيته معاً... وقيل عنه آنذاك:
* لقد كان يحلم!!
ويبدو أن أحلامه تلك.. كانت أقسى الإهانات التي وُجّهت إلى صميم العصر!
* كان يحلم كما قال: أن أبناءه الأربعة الصغار سيتمكنون في يوم من الأيام من العيش في أمة، أو في عالم لا يحكمه لون البشرة، وإنما يحكمه لون التفكير، وتحكمه مقومات الشخصية السوية الفاعلة، المنتجة، الواعية، المثقفة.
منتهى القسوة... ومنتهى الحقيقة أيضاً!
لقد سقط ((مارتن لوثر كينج)) يومها: قتيلاً في مدينة ((ممفيس)) بولاية تنيسي الأمريكية.. وكان يومها يدافع عن: حقوق الإنسان الزنجي، أو الأسود.
كان يتحدث عن: ركائز إنسانية يحضُّ عليها عصر العلم، والحضارة، والتكنولوجيا، والاختراعات، وتحطيم الذرّة، وارتياد الفضاء.. عصر: صرخات الحرية، وإصرار الشعوب على استقلالها، وإصرار ((الإنسان)) على كفالة قيمته الأعظم بدوره في الحياة!
وكان يتحدث عن: حق العيش الكريم، وحق المواطن الكامل، وحق العدل.
* وكان ذلك الصوت متلاحماً مع صوت ((أنديرا غاندي)) الذي عبرت به يومها.. فقالت:
ـ ((هذا يوم النكسة.. لمحاولة الإنسان الوصول إلى الضوء))!!
* * *
* الوصول إلى الضوء؟!!
نعم... فقد عم ظلام التفرقة العنصرية، أو التمييز العنصري منذ حوالي عام 1878 م أيام الاستعمار الأوروبي، وبتصريحات ((سيسيل دوز)) ومع ((دانيال فرانسوا مالان)) الذي دفع بالإنسانية يومها إلى خندق.. كان ظلامه أكثر من ذي قبل!
وتعاقب القهر على ((الملونين))... وقد اعتبر العربُ والمسلمون من الملونين في عرف الاستعمار القديم والمتجدد، وأداته: إسرائيل/ الصهيونية، وجنوب إفريقيا العنصرية!
اضطرم القهر في عام 1950م في ((ترانسفال)).. يوم بدأت المحاولة المضنية من الإنسان للوصول إلى الضوء.
مثلما بدأت مقاومة القهر فوق الأراضي العربية المحتلة منذ ذلك الحين.. مع سقوط شهيد جديد في قافلة الشهداء الذين يجندلهم ويغتالهم: قهر الصهيونية فوق الأراضي المحتلة!
وسقط في ذلك التاريخ: المناضلون في "روديسيا" وفي "حي هارلم" بجنوب أميركا... مثلما تساقط أفراد "المقاومة" للاحتلال الصهيوني، منذ عام 1948م.
وانتعشت ظاهرة الاغتيالات للأفراد المميزين، وللفكر المميز.. أي للعقل الواعي، وللثقافة الطامحة إلى انطلاقة التغيير.. حيث يجد (الإنسان) نفسه من خلال: تأكيد قيمته وقيمه، والدفاع عنهما!
وقتل "مالكم إكس" هناك.
وقتل مئات من المسلمين والعرب.. وهم يناضلون لتحرير مقدساتهم، وأراضيهم!
ولاقى رياضي مثل "محمد علي كلاي" - كمسلم وأسود - صنوفاً من الحرب النفسية، والإعلامية بسبب: إسلامه ولونه، وبحثه عن المساواة.. عن الضوء!
وكان من أهم ما جابهه: عدم اعتراف اللجنة الدولية للملاكمة به!!
* * *
* ويبدو - كذلك - أن من أهم أمراض القرن / العصر المستعصية، بجانب السرطان، والإيدز، كمرض جسماني.. هو مرض: التفرقة العنصرية، أو مرض: غزو العقل، وسرقة الثقافة والوعي!
وتطور الداء حتى تجاوز حدود البشرة أو اللون.. فأصبح ينال من أسس هامة جداً، وهي:
* عقيدة الإنسان: (ما يحدث من اليهود ومن الصرب ضد الإسلام).
* ثقافة الإنسان، أو فكره، أو وعيه.
* أرض الإنسان.. أي: حريته، وانتماؤه، وأمانه.
وإذا كان السود قد حققوا انتصارهم في روديسيا... فإن المسلمين ما زالوا يصارعون أحقاد التفرقة في كل مكان... لأن "الإسلام" - وهو دين حياة وآخرة، ودين عزة، وكرامة وحرية - فإنه أيضاً: دين ثقافة، وفكر، ووعي!!
وما جرى فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة.. كان: تجسيداًً كاملاً لأفعال التفرقة العنصرية ولأفعال اضطهاد ((ثقافة)) الشعب العربي، أي تراثه.. بما يتضح من خلال ذلك: إدّعاء الصهيونية الكاذب عن: رغبتها في السلام، أو التعايش السلمي.. بينما يتم التعامل هناك مع كل عربي بالقهر، وباعتباره (مقيم) من الدرجة السفلى!
ويتضح ذلك أيضاً في حالة اليهود الذين نزحوا من أوطانهم العربية إلى: إرض الميعاد الكاذب.. من يهود اليمن، أو المغرب... وفي حالة الفلسطيني المتمسك بالبقاء فوق أرضه!
فاللعبة تتسع وتكبر... وهي تستهدف: عقل وروح ((الإنسان))!
* * *
* ولا بد أن أعنف لطمة توجه إلى وجه عصرنا الحاضر.. أن يقول مثقف:
ـ لازلت أحلم بالعيش في عالم لا يحكمه: لون البشرة.. ولا حقد على دين.. ولا مطامع في أرض وثرواتها... ولا إهانة ((لقيمة)) الإنسان ولحريته التي كفلتها له كل الأديان السماوية.
إن ((الإنسان)) المعاصر - وجد هذا المثقف القلق، الحائر، المقهور - يفتقد طريقة ليصل إلى (الضوء) الذي ينير درب خطواته نحو التكامل الإنساني المطلوب... بإاعة: الحرية، والحق والعدل.
لكن ما يجري في أرجاء العالم كله... يدل على تناقض هذا العالم!
تناقضه في: مفهوم الحرية، وفي العيش، وفي القيم والأهداف، وفي التعامل، وفي... مطلب السلام!
إنها خديعة وهم كبير.. تُسوّق الإنسانية فيها إلى ((التجريد))، كما قال "سارتر" ذات يوم، قبل أن يصبح صهيونياً!!
(3)
* الإنسان: يكتب تاريخ حياته بأعماله.
والشعوب: تكتب تاريخ نهضتها وتفوقها بآدابها وبفكرها، وبفنونها!
ومحتوى هذا التاريخ: تتشكل أهميته من الفكرة المفيدة التي يبدعها الإنسان، والتي تحققها الشعوب... ومن المقارنة الممتثلة بين ما يؤَدَّى من عمل، وما يصدر من سلوك.. وبين ما يؤديه الناجح أمام مجتمعه من عمل، وما يفعله المهذب الواعي تجاه مجتمعه من سلوك!
كما تتشكل أهمية محتوى هذا التاريخ من: الوجدان النظيف والصادق نحو ما يشعر به الإنسان للناس، وما يعلمهم به من: ضمير، وضوء عاطفي يبدد به كل ظلمات العقَد النفسية، وتراكمات البغضاء!
هذا هو الإنسان الحقيقي: المثقف في حزمة شعب ناهض متفوق بحضارة فكره، وبتطور أدبه، وبملامح فنونه التي تدل على التراث أو القيمة التاريخية!
وهو الإنسان الذي يمتلك: قدرة المعايشة، ويستوعب معاني الحياة.. بكل ما تدفعه إليه، وبكل ما تحضه عليه، وما تُرغِّبه فيه، وبكل ما يتعلمه هذا الإنسان من تجاربها.
وكل إنسان يبحث في داخله عن هذا الإنسان: النموذج، أو الراقي، أو المثقف!
* * *
* الإنسان.. يبحث عن الإنسان في عصر: أُمِّية الضمير، وظلال الوجدان التي تكثِّفها ((الأنا)).
الإنسان.. يطفو على سطح النفس، وهو: الغريب، والتائه، والحائر!
وفي خلاصة المعايشة لواقع المثقف العربي... صدمني هذا الواقع في حصيلته، أو - على الأقل - في الانطباع عن شرائح من المجتمع التي تُشكِّل: الوجاهة، أو السوق، أو صوت المجتمع المعاصر... فقال لي:
ـ لا تعتقد أنني أصدمك بهذه الخلاصة، قبل أن تعرف أنني صرت أعاني من الإحباط، والذهول... حين يتكشّف لي في كل يوم، وفي كثير من المجالس: أننا نعايش أفكاراً تافهة، محدودة.. تلوكها عقول مسطحة، أو سطحية... مغرقة في ((الأنا)) تارة، وفي ((مكانك سر)) تارة أخرى، وفي هروب المسؤولية ((الموقف)) وفي الخصام مع الكتاب، أو المعرفة، أو.... الثقافة!
أفلا تخاف على مجتمع كهذا... يعتقد أن التسطيح: حياة مريحة و مستقرة؟!
مجتمع: يخاف أن يطرح فكرة جديدة للحوار... بطريقة: إبقاء الحال على ما هي عليه!!
ونتلفت عن شرائح مطلوبة في مجتمع يعاصر ويعايش مجتمعات من حوله، وفي عصره.. عرف "الإنسان" نفسه، وأخذ يمارس التجربة الجديدة بلا وجل، وبلا تردد، وبلا عُقَد... وصار يحترق بالحب، ويتطهر بالعقاب على الخطأ أو الانحراف بلا مجاملة، وبلا تعمية... ويتفاعل مع رغباته، وأمانيه، وأحلامه دون أن يشعر بالخجل منها، أو اعتبارها: عيباً... ويحس بالاحتراق في داخله، بأن الجوهر فيه يعاني حيناً، ويرتاح حيناً آخر!!
إنها اهتمامات النفس الإنسانية في معايشة الناس داخل مجتمع منفتح على الرأي، والحوار، والتجربة المدعّمة بالثقة في النفس!
* * *
* وفي داخل هذا "الإنسان": تدق الساعات معلنة عن موعد أفراحه.. وتدق منهية لحظات سعادته.. وتدق إيذاناً بموعدٍ لجرحٍ جديد، أو لحب وفيّ لا يخون!
فلا بد أن يخضع الإنسان للتوقيت في قمة المعرفة.. وهذه الضرورة هي: خلاصة لكيفية بحث الإنسان عن الإنسان... والبحث توفره الثقافة، والنضج الاجتماعي، وتجاوز سطحية التفكير أو الفكرة.. للارتقاء إلى: قيمة الحياة، والتوقيت، والفعل، والسلوك!
إنه - إذن - التوقيت، والزمن، والموقف، والثقافة أو مستوى النضج... ثم الحقيقة في النهاية.
إن الإنسان لا يقدر أن يصنع توقيتاً لأفراحه.
وليس في إمكانه أن يحدد موعداً لجراحه وآلامه، فيحياها، ويبددها.
إن الإنسان يخضع لهذا التوقيت، بطموح الثقافة أو المعرفة، من أجل عبارة واحدة، تقول:
* "أريد أن أجعل العالم كله بلا معنى.. من أجل معنى واحد"!
وهي عبارة قيلت... ومضى الناس إليها يفتشونها، فلم يحددوا حتى الآن ملامحها، ولكن... ليس دائماً يصبح البحث عن الملامح هو: المحيِّر، والمضني، والمعذب... ربما بحث الإنسان عن "الأصداء" هو ما يتعبه!
إنه "الموقف" في حياة الإنسان من خلال تفكيره، أو فكرته، أو نضجه.
وهو "الموقف" الذي ينعكس على المجتمع كله من سلوكيات إنسانه، أو أفراده... لتُفرِّغ هذه السلوكيات المجتمع من الثقافة، ومن إبداع الفنون، ولتكثِّف السطحية، والعقد النفسية والعقلية... أو يتزود هذا المجتمع بسلوكيات هذبتها: الثقافة، والمعرفة، وصقلتها الفنون!
* وإذا تلفَّت هذا "الإنسان" حوله: في التاريخ القريب، وفي المؤثرات من جيرانه، وفي وحدة التجربة والمعاناة... فلا بد أن يتأمل هذا التاريخ القريب الذي مضى بلا ملامح... يبحث الإنسان فيه عن أصداء شيء.. عن معنى واحد فقط... عن "قدرة" على اجتياز المحن، والفقر، وكثافة الجهل... من أجل أن يقفز فوق همومه، وفوق صغائر بعض الذين قُدِّر لهم الظهور على سطح الحدث، ليضطهدوا الحوار، والتعبير، وليعتسفوا معطيات الثقافة وتأثيرها على مجتمعاتهم!
هو نفسه الإنسان العربي الذي طحنته: حروب، وانقلابات خادعة، وهزّات عبثت باقتصاديات الوطن العربي من محيطه إلى خليجه... فصار يبحث كذلك عن: التفوق على تمزقه، وشتات "كلمته"، وضياع معنى واحد: بأن يهزم الخلاف، ويُبدد الفرقة.. وأن يقف على قدميه، ويجلو وعيه أو نضجه الفكري وإبداعه الفني.. ليثبت مصيره، من أجل أن يعيد "كتابة" تاريخه بحاضر يتمتع فيه هذا الإنسان بالوعي.. بتأثير الثقافة، ويُسقط (السطحية) التي تمحو شخصيته، وتُقزِّم مواقفه!!
* * *
* وكان موقف آخر أقسى، وأشد خطورة على العقل العربي، والثقافة، والفنون: أن يتمزق الإنسان العربي من الداخل، بعد أن نجحت أطماع الأعداء، وتهاونه في حقوقه، في تمزيقه من الخارج!!
وكان ما حدث في لبنان على سبيل المثال، هو: الانتحار على الطريقة اليابانية.
وما حدث في العراق هو: موت بالطريقة البوذية.. الخروج إلى الشارع، وسكْب الغاز، وإشعال النار بيد الإنسان في نفسه.. قبل أن يشعلها فيما حوله!
وكان لا بد لنا بعد صدمة الاجتياح العراقي للكويت:
* أين أبعاد، وأهداف، وقيمة تلك المهرجانات، والعاليات في المربد، وبغداد: احتفاء بالثقافة وبالفنون... ولِمَ لَمْ تؤثر بنفس تأثير (الثقافة) على الواقع السياسي العراقي، تنعكس على نفسية المعتدي العراقي؟!
إذن... فقد وظّف البعض (اسم) أو شعار الثقافة.. لكنه لم يستخدمها، ولم يُعممها ولم ينشرها ويرقب متغيراتها في العقول، وفي النفوس... مثلما وظّفت الأنظمة السياسة بعض المثقفين لنشر أهدافها إعلامياً، وثقافياً!
فهل (الثقافة) في الواقع العربي المعاصر: كذبة وهم، أم شعار للتوظيف السياسي، أم استعراض (شو) لترف السطحية الطاغي بكل أسف حتى على منهجية التفكير؟!!
ذلك حدث، ومازال يحدث، في ثمالة القرن العشرين، بعد أن صعد "الإنسان" المتقدم عنا إلى سطح القمر، ونجح في زراعة القلوب الجديدة وبقية أعضاء الجسد.. ويجري أبحاثه (المتفائلة) على اكتشاف علاج للأمراض المستعصية والخبيثة.. مما رمى الإنسان بأدوائها بسبب: عُقَده النفسية، وإحباطاته، وتسطح أفكاره وأهدافه!
فإذا الإنسان اليوم: يموت بصحته، ويموت بحضارته، ويموت بشدة وعيه ونضجه الفكري أو الثقافي، ويموت بالتكنولوجيا وأحدث ابتكارات الحروب.. فإنه في جوانب أخرى: يموت بتسطحه الفكري، وبتفاهة حواره أو القضايا التي يطرحها من اهتماماته.. ويموت بجهله، وبشدة تخاذله وجبنه وتقوقعه.. ويموت برفضه للثقافة، وللفنون التي تصقل وجدان الشعوب، وتدل على إبداعاتها ومعطياتها الإنسانية!!
* * *
* إن ما يحدث الآن بالتحديد، وبلا محاولة للتجني، ولكن للتمني بإفاقة الوعي:
* توقيت: لا يدق ساعة الزمن للانتباه، بل يفقد بصيرته!
* زمن: ينكص إلى الوراء.. إلى ما قبل الحضارة، والصعود إلى القمر!
* مواقف: شاذة مولودة من رحم السطحية.. تنفصل عن الخلفيات، ويتصدع بها: الحرص حتى على إيجاد المعنى الواحد!
* حقائق: مخجلة، ومحبطة... تدين الوعي بضمور النمو العقلي أو الثقافي!
إنها الإلتفاتة الموجعة إلى حقيقة: الإنسان يبحث عن الإنسان!!
ولكن... كيف يستطيع الإنسان أن يعثر على نفسه بجوهرها.. ليبور فعل وتأثير الوعي بالثقافة؟!
إذا لم يثمر العلم.
إذا لم نستفد من التطور الحضاري من حولنا.
إذا لم يذكر التاريخ بحقائقه... وليس بالتزوير فيه!
إذا لم نهتم بإنجازاتنا، وبنائنا للحياة وللإنسان من خلال شجاعة الحوار.
فنحن نفشل - إذن - في مهمة: التطوير، والتحسين، والتغيير... مثلما نفشل في أن يعثر كل "إنسان" منا على نفسه!
إن كل الحوافز في داخلنا - بتنمية الثقافة والفنون، وقبل تنمية المال - قادرة أن تمنحنا: قدرة العمل والإرادة.. لنجعل الواقع مضيئاً متنفساً، خالياً من العُقد، زمن الإحباطات... مفيداً للمجتمع الإنساني!
وتلك هي: أهم حقيقة لا بد من تأكيدها... ممثلة في معالجة (تفشي) السطحية في عقول، وفي أفكار، وفي حوافز شرائح تعتقد أنها الصفوة في مجتمعات منشغلة بالتفكير في الوعي!
* * *
* مطلوب - بالثقافة، وبالفنون - أن نحول الرصاصة إلى: زهرة... فالزهرة طلقة حضارية تُوجَّه إلى: العدو المتربص بالأرض وبالثروة، وطلقة إلى: السطحية إذا ما عششت في العقول، وطلقة إلى: العُقد النفسية التي تُمرض النفوس وتمنع عنها الضوء!
* مطلوب - بالحوار، وبالمواجهة - أن تكون لكلماتنا: معانٍ.. وأن تكون لمعانينا: أفعال وأهداف.. تتحد في معنى واحد، يؤكد (الانتماء) إلى عصر: الثقافة، والعلم، والوعي!!
(4)
* مازالت الأسئلة تتمطى برتابة!!
ومازالت الأجوبة: خجلاً يرهق الأذهان، ويذوب في الحوافز كلما تشكّلت!
وتخبو الأسئلة أحياناً.. لتلوح وهي شيء كأفعى وهِنَة!
وتظهر الأجوبة حيناً - على استحياء - في تأكيد: ثقافة مجتمع، أو... وعيه!
إن الحاضر ينتظر الكثير من: المتعلمين، والمتخصصين، والمثقفين، والعلماء المتفوقين بالثقة في الحياة، وليس المنهزمين بالخوف من الحياة!
* فأين هم: المثقفون؟!
* وأين هو: موقعهم في حاضر طموح جداً، واحتياجي، وقاهر ظالم، ومستزيد؟!
* وهؤلاء الذين نالوا أرقى الشهادات، وتحصّلوا على نسب عالية من التقديرات... وتسلموا بطاقة دخولهم إلى الحياة العملية مساهمين في بناء الإنسان بالوطن: هل أسهموا حقاً في العطاء.. أم اكتفوا بكرسي الأستاذية في الجامعة، وبالشهرة على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام من خلال ما ينظِّرون به؟!
* هل تمركزوا في مواقع تخصصاتهم؟!
* هل أعدوا جيلاً رديفاً.. يكمل مشوارهم فيما بعد؟!
* وماذا حققوا من الفائدة، والإنجاز.. ومن الفكرة الجديدة المطوِّرة، ومن الإبداع المضيء؟!!
* * *
* ربما كانت الأسئلة: مفاجئة، وصريحة، ومباشرة... لكنها تبقى أسئلة تترادف، وتتكرر، وتتعثر.. حتى كاد الوهن والتبلد أن يصيبها، وأضحت: أسئلة رتيبة تتثاءب!!
وقد تلوح أجوبة متعاقبة خلف كل سؤال من تلك الأسئلة، في معنى الكلام الشعبي (إللي يدوِّر عن أعذار.. يلاقي) - من الأدب الشعبي!! -
لكنها أجوبة لا تعطي وضوح: القدرة بالعقل، ولا فاعلية الثقافة وتأثيرها... ولا تنهض بالدواعي الجيدة أبداً!
* فما هو "الإسهام" الحقيقي من الأكاديميين، والمثقفين، والمتخصصين، في ترشيد المجتمع، ونشر المعرفة التي تضيء عقول الأجيال بالوعي، وبالرؤية اللصيقة؟!
* وما هي أبعاد: العطاء، والتطلع لدى (الشباب) من خلال تأثير المثقفين، والأكاديميين على كسرهم للطوق، والصعود إلى مرحلة الرجولة، والمسؤولية، والفعل؟!
إن الأسئلة المطروحة قد تبدو ساخنة، وارتفاع درجة حرارتها يتأتّى من الاطمئنان على كل ما يمور في أدمغتهم، وما تعتمل به صدورهم، وما تعطيه أفكارهم الجديدة!
وهناك بعض الحقائق الذي يسمح لنفسه بالبروز قبل غيره، ويتخطى الانتظار الرتيب إلى مساحات مقفرة ومحتاجة.
* حقيقة تقول: إن مجتمع المثقفين منشغل بنفسه، أو بتكثيف الإضاءة على أسماء، وتعتيمها ضد أسماء.. فمازالت الشللية تسيطر!
وهذا الانشغال جرّ بعض المثقفين أيضاً إلى طرح موضوع، ولا نقول قضايا.. ليمتد (الإشكال) حولها وعنها، ويستعرض البعض عضلات قراءاته، أو ملاحقته لمدارس الغرب النقدية (البايتة) التي أكل الدهر، وأنِف أن يشرب... وقد شغلونا، مثلما شغلوا مجتمعنا، واشغلوا صفحات الجرائد (بمطوّلات) من البحوث المنتمية إلى تلك المدارس والكتب.. دون أن يفهم الكثير - لو قرؤوها - شيئاً من مصطلحاتها، وتنظيرها، و..... (إشكالاتها)، لأنها في مضمونها هي: المشكل، أو المشكلة التي تعيق انطلاقة الثقافة، وتعرقل دور المثقف نحو مجتمعه!!
* وحقيقة تقول: إن كل أكاديمي متخرِّج.. يطرح أول سؤال بعد عودته:
ـ كم سيتقاضى شهرياً، والحوافز، وحجم العمل، وساعاته، وخارج الوقت؟!!
ويركض إلى الصحف.. يكتب التعليقات السياسية، والتحليلات الاقتصادية... وينسى أن يتحدث عن فكرة تسهم في تطوير خدمات وعطاء وطنه!
وليس في هذه الصورة تجنٍ... لكنها دوافع الحوار الصريح، المنطلق من عشقنا جميعاً للوطن، ومن تطلعنا للاستفادة من هذه العناصر الأكاديمية، والمثقفة... بدلاً من هذا (الإهدار) الملحوظ للعلم، وللثقافة!!
* وبمناسبة (الزحام) في المسابقات الثقافية التي تقدمها صحافتنا المحلية في شهر رمضان المبارك، لحثّ القارئ على القراءة والمطالعة... نكتشف بكل حزن وأسى حقيقة مخجلة جداً، تقول:
* إن أهم شريحتين في المجتمع.. لا يشتركان في هذه المسابقات، ولا يعيرانها التفاتاً، وهما:
* شريحة الشباب في نسبتهم الأكبر، والقلة العاشقة للقراءة وللاستزادة من المعرفة هي التي تشترك.. والكثرة (تستهلك) ليالي شهر رمضان في الركض بالشوارع، وبالأسواق التجارية، ونهارها نوم متصل!
* وشريحة المثقفين، والجامعيين أو الأكاديميين.. لأن هؤلاء يعتقدون أن دخول الواحد منهم في مسابقة كهذه: انتقاص من شأنه، وتقليل من أستاذيته، وثقافته... وأنه صار (أكبر) فلا مجال لإلتفاتته إلى مثل هذه الأسئلة الثقافية، والعلمية، والدينية عليه... وهو يعجز في الحقيقة عن معرفة أجوبتها، وربما عن معرفة المصدر من الكتب!
والبعض من هؤلاء يصعب عليه حل أسئلة المسابقات، ليس لأنها صعبة، بل لأنه يترفع أن يراجع، ويبحث، وهو يفرض فوزه لو أراد!
ولعل الهدف من هذه المسابقات: جذب الشباب إلى القراءة، والتقصِّي عن المعلومة، والبحث في المراجع والمصادر، واحتساب وقت مفيد، بدلاً من ألوان العبث الذي يهين قيمة الإنسان في إهدار لوقته.
والهدف أيضاً: أن يتعاطف المثقفون، ليبرز وجه مشرق، مشرِّف.. يعلن عن: أحقية المثقف في نشر الوعي والمعرفة بين أهله ووطنه، وريادته لهذه الأحقِّية!
ونعرف أنهم هناك في الخارج... يخاطبون بمثل هذه المسابقات التي تنظمها هيئات ومؤسسات علمية وثقافية: المثقفين، والحاصلين على شهادات عليا، والشباب الطموح العاشق للمعرفة.. لمنحهم فرصة تقديم خدمة جيدة لمجتمعهم، وخدمة للبحث!
* فلماذا يخذل المثقفون مجتمعهم، ووطنهم؟!!
ونعرف - كذلك - أن: المؤسسات الثقافية في العالم المتقدم... ترصد مبالغ ضخمة لتنشيط الحركة الثقافية، والحث على القراءة، وعلى الإبداع!
* * *
* وبعد هذا... نتساءل عن: وجود أو تواجد المثقفين، والأكاديميين الحقيقي، والمؤثر، والمنتج، والفعال.. ودورهم المطلوب في تحريك ركود الأندية الأدبية الذي صار ركوداً آسناً، وصارت برامجه الثقافية المحدودة مملة، ولا جديد فيها!
ودورهم أيضاً في ترشيد (الشباب)، ومحاولة سرقتهم من جنون كرة القدم، ومن (السياحة) في الأسواق التجارية، ومن عبثهم بالسيارات مع هذا الحديد الذي اختطف زهرات من شبابنا المؤمل عليهم!
ودورهم في توجيه دفة (النقد) من الاستغراق، أو (النقع) في نقل المدارس الغربية المطوية مع زمانها الآفل.. إلى واقع يتطلب الخروج من قوقعة ما أطلقوا عليها (حداثة) وهي: حداثة في نقلهم الأفكار، ونظريات قديمة لم تعد صالحة، أو ليست في مجال الفهم المنطلق اليوم نحو ما هو مطلوب من دور أهم، وأعظم، وأكثر إيجابية.. لا بد أن ينهض به المثقفون، وأن يعترفوا بأن "معزوفتهم" قد استنفدت (أغراضها)، ولم تعد تجذب، ولا تقنع!!
* * *
* إن لدى مجتمع المثقفين قضايا مهمة جداً.. على رأسها:
* أولاً: المتغيرات التي حدثت في العالم - سياسية، واقتصاداً، وعنفاً أو إرهاباً - وهي المتغيرات من المخجل أن يستهين بها المثقفون، أو يتعامل معها البعض منهم بسطحية، ويتحدث عنها إنشائياً، وعبثياً، وتجهيلاً، أو... نفاقاً!!
* ثانياً: إهمال المؤسسات الثقافية، أو على الأقل... تنويمها، مثلما نلاحظ على (منظمة الثقافة، والتربية، والعلوم) التابعة للجامعة العربية... وقد سُجِّيَتْ على ظهرها، وغطّوها، دون أن نعرف: هل ماتت، أم هي في انتظار طبيب نطاسي بارع، بعد أن كان لهذه المنظمة صوت، ودور مميزين، وفاعلين في تنشيط الحركة الثقافية العربية، وحتى الحركة التعليمية.
* ثالثاً: تجمُّد المناهج التعليمية - وهي حالة عامة في الأقطار العربية كلها - دون أن يكون هناك تطوير، وتحديث لها.. يتلاءمان مع مسيرة التقدم العالمي!
* رابعاً: منظمة الثقافة العالمية (اليونيسكو)... قتلتها القوى العظمى، بعد أن كان لها دور، وصوت في العالم، في حدود قدراتها المالية، لأن العالم لم يكن من سنوات يعترف بواجب دعم هذه المنظمة... لأنها ليست منظمة بيع سلاح، ولا منظمة مافيا... وسجِّيَتْ هي الأخرى، وغطوها مع منظمة حقوق الإنسان!
* * *
* وأخيراً.. تنتصب أسئلة جديدة:
* لماذا يترك المتخرِّج من الجامعة مجال تخصصه، ويهرب إلى الوظيفة (إن وجدها)؟!
* لماذا يعمد المثقفون إلى تسطيح دورهم ومسؤولياتهم؟!
* لماذا نضيق بالحوار... وهو أول ركائز الثقافة والنضج؟!
* لماذا صار مجتمع المثقفين.. أكثر المجتمعات: شقاقاً، وبغضاً، وحسداً، ونفاقاً، ونرجسية؟!!
ليت حواراً "نظيفاً" وهادفاً.. ينبض بيننا، لنسقط الصغائر، ونستنهض فينا: الفكرة المنتجة، والرأي المخلص الحصيف!
لتتمخض عن كل هذا: حصيلة.. نرى من خلالها الأخطاء، ونعرف بعدها: كيف نكون، وإلى أين نخطو، وماذا نريد؟!!
(5)
* صادمني سؤال... أطل عليّ يوماً من بين سطور رسالة "قارئة" تسألني:
ـ هل يقرأ الشباب.. أم أن لدينا أزمة قراءة بالفعل؟!
وإذا كانت هناك فتيات مميّزات من الشباب تعشق القراءة... فماذا تقرأ؟!
من خلال عملي الصحافي، وتواصلي مع القرّاء - الشباب... وبالذات هنا في الجزيرة العربية وفي أقطار الخليج العربي!
استطاعت المرأة أن تملأ فراغ وقتها بالقراءة.. لأن الساعات الأطول هي في البيت، بعكس الرجل... وأحسب أن المرأة قد سئمت من "الفيديو"، ولم تجد الجديد في التلفاز - حتى بعد الدش! - وتفوقت على جلسات الرغي الحريمي... وقد شاهدت فتيات في الطائرات يمسكن بكتاب طوال زمن الرحلة.
ولست أحمل هنا على الشباب، أو الرجال... لكنّ ظروف انطلاقهم خارج البيت: أوفر، وأوسع من ظروف الفتاة، أو المرأة... فالشباب/ الرجل يستطيع أن يسافر وحده، ويرتاد ملاعب كرة القدم، ويقود سيارته، ولا يجد في مميزاتها سوى التفحيط بها، أو التجول على الأسواق... ولعله لم يحاول تنظيم وقته، فيحرص على اقتطاع ساعة جادة للقراءة، ولتثقيف نفسه!
ويمكننا أن نقول هنا: إن شبابنا منشغل بالرفاهية... للقادر منهم!
أما غير القادر فإنه: منشغل بكدح العيش، والتعب، ولا سيارة لديه، أو.... الانشغال بالفراغ... وكلها أسباب ترمي الشباب في نتائج الحالة نفسها، أو الواقع.. بينما المجتمع كله منشغل عن الالتفات إلى الشباب - فتياناً وفتيات - وذلك بأمور وصلنا بها إلى (مُسَلَّمات)، أو قاعدة... ولا يمكن تنظيم الحياة بالإرغام، أو بعنف التوجيه!!
* * *
* وهناك سؤال آخر نطرحه.. استطراداً للحوار، وهو:
ـ هل أصبحنا نعيش زمن ثقافة: التلفاز، و "الدش"؟!
* والإجابة: نعم... لكنها حالة مؤقتة، وقد رأينا كيف انحسرت جاذبية (الفيديو)!
لكن... هناك: كرة القدم بكل جنونها، أو (تجنيها)، والسفر، والتجوّل في الشوارع والأسواق!
فيسمى هذا الفعل: حرية!
ولعله بكل هذه الإيجابيات، والسلبيات.. يبحث عن المعرفة التي تنقصه باعتباره المخلوق الذي أعزّه الخالق عز وجل بالعقل، دون سائر مخلوقاته!
ولعله يكتشف شيئاً لم يكن يعرفه... فيفكر فيه، ويتأمله، أو... يدافع عنه!
وفي كل هذه المحاولات، وبها... تتم التربية، والترشيد والتهذيب!
* بمعنى: أن الطفل يكبر، ويفهم، وينضج.. من خلال مراحل النشوء هذه.
فهل نقول: إن الطفل الحديث اليوم.. يفتقد مثل هذا التوجيه، والترشيد والتهذيب... وأنه مهمل من التفات الأبوين إليه، ومن واجب التربية قبل التعليم في مدرسته، ومن معلميه؟!!
* * *
* في مرحلة النشوء الأولى.. لا نحسب - أيضاً - أن الطفل فقد العناية به من أمه بالذات: تكلأه، وإن كان الأب - في التقدير الأشمل - لم يعد لديه الوقت ليجلس إلى هذه الأشياء الصغيرة في طفله.. وهي الأشياء التي ثؤثر على سلوكه فيما بعد، وتؤثر على تصرفاته، ورغباته.
لكننا نناقش الأهم.. أمام الوسائل التوعوية الحديثة والمباشرة:
* إن ذلك الطفل الذي نقلت وكالات الأنباء حكاية لصوصيَّته، حاول أن يمارس فعل رجال العصابات، ويقلد هجوميتهم وشراستهم وإجرامهم، فقام بعملية سطو مسلح لبنك في نيويورك، بعد أن سرق "زلاجة" جليد، هدد صاحبها بسكين!
وعندما كان في التاسعة من عمره: شَهَر مسدساً - لعبة! - في وجه صرّاف بنك... فابتزَّ منه مبلغ (118) دولاراً حصيلة الخزنة يومها!
وهذا لا يعني أن البنوك الأمريكية قد أفلست... بل لعل البنك قد صرف الكثير يومها، وكان الطفل يحتاج إلى: ثمن تذكرة سينما، وبطاطس مقلية، وساعة منبِّه... والسينما رخيصة في أميركا، والبطاطس: في الشوارع تمشي أحياناً(!!).. والمنبّه مفقود في ذلك المجتمع... ولذلك: سرق ذلك الطفل!
* وقال محاميه مبرراً الفعلة: لقد تأثر الطفل بأفلام التلفاز التي يُدمن مشاهدتها... فأراد أن يطبّق لعبة: الشرطي واللص!
ونحسب أن الشرطي هنا، هي: التربية.. والاهتمام بترشيد الطفل منذ مرحلة نشوئه!
أما اللص... فلا نعتقد أنه التلفاز ببرامجه السخيفة، ولا السينما!
إن مثل هذه الأفلام البوليسية تُنتج للكبار، وللصوص الكبار.. وتُعرض في وقت ينام فيه الأطفال، ويستمتع فيه اللصوص!
وهذا الطفل لم يكن ينام في موعده.. لأنه لم يجد العناية والرعاية حتى لتنظيم وقته.. وبالتالي: لتنظيم، وتهذيب أفكاره ومكتسباته.. ولأنه افتقد من يوجِّه إلى قراءة الكتاب المفيد والجاذب لاهتمامه!!
(6)
* كنت أزور "تونس" في زوراتي التي كانت دائمة لها.
وكلما زرت هذا القطر العربي الشقيق.. لابد لي أن ألتقي هناك من أسمّيه: (عرِّيف) الثقافة فيها، كان بعد خُلوِّه من مهام وزارة الثقافة، واكتفائه اليوم "بالظل"... وهو: الأستاذ "البشير بن سلامة".
كان - في الاعتبار الأول - يمثّل هذه النافذة المضاءة التي تطل دائماً - قبل احتجابها - بوجه تونسي، وبفكر عربي، وبعقيدة إسلامية، واتخذت اسمها من "الفكر".
وكان - في الاعتبار الحميم - صديق قديم.. يملؤني كلما التقيته بمعاني صداقة الكلمة.. وبذلك التواصل الذي يرتفع بقيمة الوشائج، وبعطاء الفهم والرؤية لهموم الثقافة العربية!
حتى عندما سقطت حكومة "مزالي" التي شغل فيها منصب وزير الثقافة، وتربعت إدارة سياسية جديدة لحكم تونس، وقُدِّم بعض الوزراء للمساءلة.. فإن "البشير بن سلامة" لم يكن واحداً من أولئك، بل تجاوزته المساءلة، وبقي: قيمة ثقافية باهرة.. ولو حاول البعض أن يصمه بصداقته للرئيس "محمد مزالي" ولكنه لم ينكرها.. وقد كانا معاً رفقاء مشوار على درب الفكر والثقافة!!
* * *
* وفي مكتبه القديم بوزارة الثقافة، وفي منزله الصغير الهادئ.. كثيراً ما تحدثنا وناقشنا هموم المثقفين العرب، وكنت ألمح حبوره وسعادته وهو يحدثني في كل لقاء عن: أهمية بناء الجسور الثقافية بين الأقطار العربية.
ومن حواراتنا معاً.. ما حدثني به في واحد من تلك اللقاءات، فقال:
ـ نحن هنا في تونس جاهدنا كثيراً، دفاعاً عن عقيدتنا، ولغتنا.. حاربنا الاستعمار الفرنسي، وانتصرت العقيدة واللغة والأرض بإنسانها... لأن دفاعنا كان حقاً، وكان من أجل العقيدة والانتماء والجذور والحرية... وواجهنا بعد ذلك: الحرب الأخرى.. التي بدت لنا أكثر خطورة وشراسة، لأنها كانت تستهدف: عقيدتنا، وتعادي لغتنا وعروبتنا!
وتصدينا لتلك الحرب الشرسة بمخططات التعريب، وترسيخ الثقافة العربية بكل ما حفلت به من تراث عظيم ومبهر.
وأضاف: إن هذه الأرض.. نمت فوقها حضارة قديمة، وكافحت وناضلت ضد ثقافات غريبة ومقتحمة ووافدة: لوبيّة، وجونيَّة، ورومانية، وبيزنطية... ثم كان الاستعمار الذي أراد أن يربطنا بلغته، وبثقافته.. ليُحوِّل مسار التاريخ!
قلت له: في حوارنا نتثبّت بأهمية الثقافة ودورها المرتبط بالتنمية.. ولابد أن تتحقق للإنسان العربي تلك الرابطة التي لا تفصله عن ماضيه، والتي تحميه من أن يسقط في غربة!
ـ قال: تحدثت في "البحرين" في إحدى زياراتي، عن: السياسة الثقافية في تونس، وكان لابد لي أيضاً أن أركز على: (لإثبات الذات وتجذير الشخصية).
* سألته: تقصد "الذات" الوطنية؟!
ـ قال: إن آدمية الفرد وإنسانيته المتميزة - كما قلت لهم - تتحقق بواسطة تكوين الشخصية الأصيلة ذات الجذور.. وهي التي تتكون من حلقات ثلاث: "الأنا الماضي، والأنا الحاضر، والأنا المستقبل"... ومن الخطورة أن يحدث تشقق في هذه الحلقات الثلاث.
* قلت له يومها: لكننا نواجه خطورة الغزو الثقافي.. الذي يقابله في عالمنا العربي: الإهمال الملحوظ لتنشط الحركة الثقافية ودعم المثقفين؟!
ـ قال: هذا صحيح، وأوافقك عليه بكل أسف... لكنَّ ثبات الشخصية الواعية في إطار تلك الحلقات الثلاث، يجعلنا أكثر قدرة على التصدّي لكل محاولات هذا الغزو وهذا التسلط على فكرنا ومبادئنا... وهناك أيضاً ما نلحُّ من ضرورة إقامة الجسور الثقافية بين الأقطار العربية بخطط مستمرة ومتواصلة.
* قلت: وقد تأتي ردود فعل أخرى.. يتمثل بعضها وأهمها في الذهاب إلى الاتجاه الآخر، مما يصفه البعض بأنه: دفاع عن الذات الدينية والوطنية.. وذلك بالاستغراق في المغالاة، والرفض لكل فكر، ولكل فكرة مفيدة!
ـ قال: ينبغي علينا أن نتلمس بعناية دور "الثقافة" في تواصل الأمم... وأن نعلن: "ضرورة المطالبة بتفجير المكاسب التراثية العربية، والنهوض من خلالها للالتحاق بركب الحضارة"!
قلت: إن الثقافة هي البَلْورة الحقيقية والإيجابية لهاجس إرساء التنمية الذاتية الوطنية، من واقع الانتماء وتعمُّقاً مع الجذور الأصيلة، واستنهاضاً للسعي نحو التطور الحضاري!
* * *
* وفي تونس أيضاً: كنت أشارك بعضويتي في مجلس أمناء "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" قبل عدة سنوات... وكان الاجتماع الأول قد خصصه الأمناء للتحدث عن: الوسائل والسبل التي تخدم أهداف نشر اللغة العربية، والثقافة العربية الإسلامية خارج العالم العربي.
وقد انطلق الحوار - يومها - من قاعدة هامة ذات خصائص مميزة، ركَّزت على أن "اللغة العربية خُلقت لتكون لغة عالمية"!!!
لكنّ هذه اللغة العظيمة.. لابد لها أن تستلهم دورها الموصول، وتتفاعل مع الدور الحضاري لها، وتتصدى لمخططات الغزو الثقافي في هجمتها على: (قضية الهوية الثقافية العربية)!
وكانت "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" قد طرحت برنامجاً هاماً، في أيام نشاطها، وارتفاع صوتها... زمن خلال المؤتمر العام للمنظمة في دورته التي عقدت في تونس/ شهر ديسمبر 1984م، وشارك الأمين العام لجامعة الدول العربية بكلمة... شدد فيها على: معطيات الوحدة العربية، وعمق دور العمل الثقافي العربي الذي يتزامن وينسجم مع العمل الاقتصادي.
يومها أيضاً: احتفل "الشاذلي القليبي" - الأمين العام - بهاجس (قضية الهوية الثقافية للعرب)، وأشار إلى الأخطار التي تحيط بهذه الهوية... ومما قاله:
* "إن هذه القضية تستوجب على العرب أن: يهتمُّوا بضرورة دعم العمل الثقافي العربي، وتأهيله، وحماية أريحية الثقافة العربية، حتى لا نصبح ذيلاً للثقافات الغربية - كما نحن الآن!! - وأن يعالج العرب: تشتيت الجهود العربية، وعدم التنسيق بين المؤسسات التي تُعنى بالتعليم، وبالتثقيف... لأننا أمة واحدة، ولكنها موزّعة عبر اثنين وعشرين قطراً"!!
* أما المدير العام "للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم"/ الدكتور محيي الدين صابر.. فقد ركّز على ضرورة بناء الإنسان العربي، وتأهيل قدراته وقيمه.. وخصوصاً أننا نواجه مناً أُوْجد لنا أعداؤنا، لاستنزاف تلك القدرات، ولطمس تلك القيمة والقيم!
وكنت في ذلك الاجتماع الأول قد طالبت: بحماية اللغة العربية داخل الأقطار العربية أولاً.. وكانت ملاحظتي تنصبُّ على: واقع اللغة العربية داخل بعض الأقطار العربية التي مازالت إلى اليوم تكتب مذكراتها الرسمية وخطاباتها بلغة أجنبية (الفرنسية بالذات)!!!
ولقد ضحكت يومها عندما طرحت ملاحظتي على السادة الأمناء في اجتماعهم الأول عن حماية اللغة العربية... وسبب ضحكي: أنني وجدت بعض الأعضاء في الجلسات (يستعينون) باللغة الأجنبية - فرنسية وإنجليزية - لتوضيح فكرتهم التي يطرحونها لنشر اللغة العربية في الخارج... وقد كان الاجتماع مخصصاً لحماية اللغة العربية ونشرها(!!).
وقد اهتم المدير العام للمنظمة يومها "الدكتور محيي الدين صابر" بتلك الملاحظة التي أبديتها... لكنه أوضح يقول:
* "إن تنمية اللغة في الداخل: مهمة قومية خارجة عن نطاق هذا الجهاز... وهي تأتي ضمن مسؤولية القطر العربي داخلياً، ولابد من الاهتمام بهذه الملاحظة... ومنظمة "الالكسو" لم تهمل هذا الجانب في خططها العديدة، ولديها مشروع ضخم يُسمى: الرصيد اللغوي... وتشتغل المنظمة أيضاً بتعريب العلوم، والتعليم العالي... وهذه المهمة ترجع إلى ظروف كل بلد، وإن كنا نعتقد: أن التعريب يأخذ طريقه مع الوعي ووسائل الإعلام"!!
كان ذلك النشاط، وتلك المشاريع في الثمانينات، يوم كان هذا الرجل العالِمُ التربوي، الشاعر، المؤرخ "محيي الدين صابر" رئيساً لمنظمة التربية والثقافة والعلوم... فأين هو: صوت، ونشاط، ومشاريع المنظمة، منذ تركها الدكتور "محيي الدين صابر" وحتى اليوم؟!!
من حقنا - كمواطنين وكمثقفين من الوطن العربي - أن نوجّه هذا السؤال الهام إلى: الأمين العام لجامعة الدول العربية، طالما أن المدير العام للألكسو لا يجيب، ولعله لا يسمع!!!
أحسب أن "ظاهرة" التخلي عن اللغة العربية الأم داخل الأقطار العربية: تستوجب العناية من الحكومات العربية.. ولا بد لها من: جهة ركيزة في القطر العربي الذي يعاني من سيادة اللغة الأجنبية على لغته العربية الأصلية والأصيلة!!
(7)
* أصعب ما يواجه الطفل اليوم في مرحلته الابتدائية/ التأسيسية... يتمثل في هذا (التحشيد) للمواد أو للمناهج، وذلك بنسبة تتجاوز حدود قدرته على الاستيعاب، وعلى الفهم.
وهذا (التحشيد) في ذات الوقت... يدفع المدرّس بدوره إلى: السرعة في صبّ المعلومة أو المنهج.. حتى يستطيع أن يُنهي المقرر في الوقت المحدّد له/ مُدة العام الدراسي... لئلا تطاله المسؤولية، ودون النظر إلى: إمكانية مجاراة الطفل لهذا (التحشيد) في المواد، والإسراع في الوقت!
وهناك بعض المدرسين الذين لا يهتمون بالتحضير لمادة اليوم التالي..
وهناك البعض الآخر الذي يقف مستوى استيعابه هو نفسه عند حدّ معين من القدرة على إيصال المعلومة إلى إدراك وذهن الطفل... مما يشير إلى تدني المدّ الثقافي في شرائح المجتمع، خصوصاً هذه التي نضع على عاتقها: مسؤولية إعداد، وتعليم الأجيال، وتهيئتها وتقديمها إلى (التثقيف) الذي يتطلع إليه كل مجتمع في أفراده، وجماعاته!
وكثيراً ما يكتشف "الأب" وهو يطالع كُرَّاس طفله أو طفلته: أن مدرّس أو مدرَّسة المادة قد وضعا في كُرَّاس طفله أو طفلته: تقديرات عالية، وكلمات: أحسنت، ممتاز... بينما يكون الطفل، أو الطفلة قد دوَّنا في كراستيهما: معلومة خاطئة!!
لذلك... فإن مستوى بعض مدرّسي المرحلة الابتدائية/ التأسيسية، يبدو متواضعاً جداً، ويعكس حقيقة (التراجع) الثقافي والمعرفي في هذا الوسط على وجه الخصوص، وفي المجتمع عامة!
وقد حاورت يوماً مربياً فاضلاً، مسؤولاً حول: تدنِّي مستوى (المعلّم) في مدارسنا، وابتعاده عن مناخ التثقيف حتى له... فأجابني يومها:
وما حيلتي.. إذا كان النقص يتصاعد في الأعداد المطلوبة من مدرسي الابتدائية؟!
وإذا كان هذا هو مستوى المدرِّس الذي يوُجِّه للتدريس (حتى على المستوى الجامعي اليوم بكل أسف) فإننا نضطر إلى قبول هذا المستوى بدون اشتراط، في قمة خوفنا على إعداد الجيل الصاعد... والأكثر ألماً: أن تجد مدرساً "محاضراً" في الجامعة، يخطئ في "الإملاء"، وفي النحو، فكيف تستنبت جيلاً (مثقفاً)، وحتى تستنبت (الثقافة) وتوجّه المجتمع إليها؟!
يُضاف إلى هذا الواقع... واقع آخر لا يقل خطورة، ويتمثل أيضاً في هذه "الظاهرة" التي تفشت في مجتمعنا، إن لم يكن على مستوى الوطن العربي الكبير... وهي ظاهرة: إلهاء الجيل الجديد عن (القراءة)، وعن تثقيف عقله ووعيه.. وذلك بواسطة تكثيف (الحض) والاندفاع إلى كرة القدم.. وإهمال تربيته، وتوعية مداركه، ليبدو: جيلاً أقرب إلى التفاهة من خلال ما نراه اليوم من ممارسات أقل ما توصف به: أنها طائشة أو غير مسؤولة... ترتبط بالتربية أولاً، وبالتوعية، وبالترشيد إلى القراءة!
وبكل أسف.. فإن وسائل الإعلام التي تحتفي بمباريات كرة القدم: تُهمل تماماً إبراز الأنشطة الثقافية، ومتابعتها، وحتى لو قدَّمتها.. فإن تقديمها ينحصر في (الإعلام) أو الخبر الموجز... بينما قامت رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم على كلمة: (اقرأ)... فالقراءة: خروج من الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التفاهة إلى القيمة!!
* * *
* قلت لهذا المربِّي الفاضل: إن المرحلة الإبتدائية أخطر مما يليها.. فهي: الغرسة، والنواة، والتشكيل، والإعداد... فكيف نُسقطها في اللامبالاة؟!!
ـ قال: إن الإقبال على كليات التربية أيضاً لا يتفق ونسبة الاحتياج إلى الخرِّجين من المعلمين والمعلمات... وبالتالي: فإن المدرِّس المتمكن والملم بمادته يُعتبر عملة نادرة وثمينة.
* قلت: لعلك تعرف أن المعلم للابتدائي في بريطانيا مثلاً.. لا يمكن أن يسمح له بتدريس الأطفال إلا بشرطين:
ـ أن يكون صاحب خبرة في طريقة التدريس للأطفال، وصاحب دراية في إلمامه التام.
ـ أن يدرس هو ضمن مجموعة لمدة ستة شهور: علم التربية، وكيفية معاملة الطفل، والتحدث معه، و"تفهيمه"... فلماذا لا نبدأ نحن؟!
* قال: ليست مسؤوليتي... لكنني أنبه إلى خطورة اللامبالاة (بالتثقيف).. وهناك فرق شاسع بين "الإعلام"، و "التعليم".. بين "النصيحة"، و "التوعية"... بين نسج الأحلام، وبين تحقيقها.
مسؤوليتنا خطيرة وإلزامية نحو "الجيل" من الطفولة مروراً بالشباب الطامح.. حتى النضوج/ رجلاً وامرأة... فإذا لم يكونا قد نهلا من الثقافة، فإن مجتمعهما سيبقى:
مكانك سر في التطور، وفي التنمية.. لأن "الاقتصاد" لا يمكن أن يكون فوق ثقافة "العقل"، وتهذيب الروح.
وإذن.. الاهتمام بـ (الطفل)، ورعايته منذ قدومه إلى الدنيا.. يُعتبر: أولى الخطوات الإيجابية على درب (الثقافة) التي تطمح إليها الشعوب، وتُفاخر بعد ذلك (بعقول) شبابها، وعلمائها، ومبدعيها، وفنَّانيها.. إذا ما آمن كل شعب بفعل (الثقافة) المؤثر على: تطوره، وتنميته، والارتقاء بقيمة الإنسان فيه!
* * *
* قلت: نعود إلى ما بدأنا منه... كثرة المواد والمناهج التي تُقرر على الأطفال أولاً في المرحلة الإبتدائية، وتتراكم... فلا يقدر الطفل أن يستوعبها، ولا يُلم بها، ولا.... ينجح فيها؟!
ـ قال المربِّي الفاضل: تحتاج العودة إلى المواد والمناهج في نسبتها وأهميتها أيضاً، وحتى في مضمونها الذي ينبغي أن يتماشى ونهضة البلد في حقوله المتعددة.. والعودة إلى مستوى المناهج وكمّيتها تتطلب: تكليف خبراء في التربية والتعليم، ليقرروا في وقت أقصر.. قبل أن يتردى مستوى (الطفل) التعليمي وهو في بدايته.
وهناك جانب آخر يخص الآباء والأمهات لرعاية أطفال في عمر الورود، نلاحظ أنهم يفقدون تدريجاً: رعاية واهتمام الأب بالذات الذي يكون مشغولاً أو منشغلاً بعمله، وبمهمّاته الوظيفية، وذات الطموح الشخصي.
إن هذا الطفل يحتاج إلى مزيد من: الرعاية والعناية بتنشئته، وإلى المزيد من التنوير والتوعية، وفق منهج الدراسة الذي ينبغي أن يكون متلازماً مع التربية... بما يجعل الطفل منذ نشوئه أكثر التصاقاً بعقيدته، وبانتمائه الوطني، وبروابطه الاجتماعية، وبإصراره في نضجه على (قيمة) الإنسان فيه وفي الآخرين!
إن هذا الطفل إذا اكتشف: أن البيت من الداخل يتعرض للبعثرة، ولإهمال الأب، ولتسيب الأم... فلا بد له أن ينساق وراء ما يجذبه، ويدخل - وهو ينشأ - في الضياع لا ينتهي!
إن "المدرسة": تُغذِّي بالعلم وبالمعرفة، وتصقل الشخصية بالتربية وبالتوجيه... لكن هذه المكاسب كلها يخسرها الطفل... إما في بيت غير مترابط، أو في البحث عن (وجود) الأب... وإما في مدرسة تضم معلِّمين غير أكفاء، وليسوا ملمِّين بالتربية والتوجيه، أو منشغلون بمصالح خارج أسوار المدرسة... وإما أن الطفل يخسر هذه المكاسب في الفراغ، واللعب غير المنظَّم، وفي حقيقة الإهمال لرعايته.
إن "المسؤولية" هنا تتركز على البيت.. وعلى: غياب "التربية" في المدرسة.
ولو أن كل أب لهؤلاء الأطفال، وكل معلم في المدرسة.. كانا على مستوى مسؤولية (التربية)، والرعاية...
ولو أن كل "أم" بنفس مستوى المسؤولية... لما ينحدر أي مجتمع بجيل الغد إلى: أخطار تُضخِّم انفصام العلاقة بين: الأب والابن.. وبين التلميذ والمعلِّم.. وبالتالي إلى: انفصام المجتمع في تضاعيفه.
وإذن... فإن تركيز ولاة الأمر على التمسك بهدْي العقيدة، وترسُّم صوى التربية الإسلامية الصحيحة... يتبلور هدفه من: الرغبة في توفير (العناية) التامة بتنشئة جيل قوي، متماسك، ناضج الرؤية، مسلح بالثقافة، ملتحم بأسرته في بدء الحياة، ثم هو ملتحم بمجتمعه طوال الحياة!
* إن الاهتمام بالطفل.. هو: حفاظ عملي على ركائز أساسية هامة تأتي في مقدمتها:
* الأسرة المترابطة: التي يشد بعضُها بعضاً.
المجتمع: الذي يبني إنجازاته، ويحقق أحلامه بشباب تحصَّن بالتربية الرفيعة، وتشذّب بالعلم، وتخصص في مجالات عديدة.. يتحقق التطور بواسطتها.
الثقافة: التي تبلور ملامح الأمة، ومواهبها، وعطاءها، وإبداعاتها!!!
ولعلّنا لم ننسَ بعد (حصيلة) رائد الفضاء المسلم، العربي، السعودي الأول: (سلطان بن سلمان) الذي أعلن: حصوله على قدر هائل من المعلومات الفنية والتقنية يوم صعوده إلى سطح القمر، وعودته.. وقد منح مجتمعه بطاقة انتماء للعالم المتقدم، والطموح إلى الغد (الثقافي)... ومنح (الشباب) في وطنه: فرصة أن يُقبلوا على العلم والبحث، والدراسات، والتخصصات.. ليكون لكل شاب في هذا الوطن شأن عظيم، مثلما حقق الشاب (سلطان بن سلمان) لبلده يومها ذلك الاعتزاز الذي فاخرت به العالم من خلال (عقل) شبابها الذي تمثل في (سلطان بن سلمان)، ومن شاركه البحث والدراسات من زملائه الشباب السعودي المميَّز!
أفلا يطمح كل "شاب" سعودي إلى مثل تلك القيمة لعقله، ولوعيه.. وقد استمد القيمة من (الثقافة) التي نهل من معينها.. فصاغته إنساناً منْتجاً، وفعّالاً، وعَالِماً، ومثمراً للوطن؟!!
أحسب أن شبابنا يطمحون، ويأملون، ويحملون... فلنحسن أساليب (التربية) وتواجدها في البيت والمدرسة... ولنركِّز اهتمامنا على (مضمون) هذه المواد أو المناهج الدراسية التي أكل عليها الزمن، وشرب، و(تكرّع)، أو تجشَّأ، وتمدد بنا، و... نمنا معاً!!
ومازلت أحتفظ بكلمة صفقت لها طويلاً.. حين أطلقها رائد الفضاء (سلطان بن سلمان) بعد عودته من رحلة الفضاء... فقال ملخصاً، وصادقاً، ومحتفياً بالمستقبل:
* "آمل أن تفتح الرحلة الفضائية آفاقاً جديدة للشباب في بلدي، وفي العالم العربي... وتثبت لهم أن هناك ما هو أهم من كرة القدم، والفيديو، والنفط"!!
وهذه العبارة: مخلصة لتربية عقول ونفوس الشباب، ولإنضاج وعيهم.
ولكن... من أجل فَتْح تلك الأفاق الجديدة للشباب: ينبغي علينا أن نترسم هذا الدرب:
* أن نعيد النظرة في المواد والمناهج الدراسية التي أصابها الوهن، والتراكم والتجمُّد.
* أن نلتفت إلى (التربية) باعتبارها القطب الآخر في معادلة (التعليم).
* أن نعتني (بالكتاب)، وبالمكتبة... ويستيقظ الإعلام للعناية بهذا المطلب الهام، تماماً مثل عنايته بكرة القدم.
* أن تكون (الثقافة) هي: مرتكز محور الشباب الذي يقف على قاعدة (القيمة) للإنسان... هذه التي نؤكد عليها دائماً!!
(8)
مزاج العالَم: منطفئ، ومُتْعب، ومسكون بالخوف!
وهكذا... لم يعد (للثقافة) ولا للفنون: أي دور يمكن أن يخرج بإنسان هذه المرحلة من الانطفاء، والتعب، والخوف!
وفي أصداء كل هذه: المهرجانات، والندوات، والأمسيات، واللجان الثقافية... لم ينبثق "ضوء" ينير للإنسان: درب الحقيقة، ومواقف العدل، و.... قيمة الإنسان!
* وهكذا - ثانية - ينطرح مزاج العالم فوق مشكلاته، وتناقضاته، ومضحكاته المبكيات.
صار ما "يريده".. لابد أن يحققه بالعنف، وغالباً لا تتحقق الأماني، ولا الأفكار السويَّة.. بل تربّع مكانها: الانحراف، والرغبة في العنف، والانفصام في السلوكيات.
* وهكذا - ثالثاً - غاب دور وفعل: الثقافة والفنون عن التأثير في (مفاهيم) هذا الجيل، وفي قناعاته، وفي قلقه الذي صار يهيمن على عواطفه... فيندفع بها إلى مزالق من انعدام الرؤية، وإلى ضباب من إحباط الرؤى!!
أصبح "ما يريده" الإنسان اليوم.. يجلبه بالاستحلاب، وربما يتعامل به عبر إسقاطاته واستهجانه بعدالة التحكيم أمام قيمته كإنسان!
* * *
* ومزاج القطط هذه الأيام: التوقف عن (الخربشة).. لأنها قطط (مثقفة)!
بمعنى: أن الحيوانات كادت أن تعقل... وفرّط الإنسان الذي كرّمه الله عز وجل فوق سائر مخلوقاته بالعقل، فأهان عقله، وفهمه، وتأثير التعليم والتثقيف فيه!
صار البشر يفعلون ما تُعبِّر عنه (الخربشة) القططية بأسلوب العنف... إنهم يخربون بالقنابل، وبالرشاشات.. ويهدِّمون بناء العلم والحضارة بدعوى: تنظيف صدور الناس مما علق بها من منكر، وزيغ (فكري)... بينما يستكنّ المزاج القططي في هذه (القرفصة)، وتفرج على البشر: المنطفئين بقلقهم، والمُتعبين بحيرتهم، والمسكونين بالخوف من اللحظة القادمة.. لأن مساحة الأمان في النفوس: عتّمتها قسوة الإنسان على فرحه، وعلى ابتسامته!!
حتى الموسيقى الراقصة، والموسيقى الهادئة الحالمة.. فقدت مزاجها، طالما أن كل سفاح صار يدّعي (الثقافة) في برنامجه الهادف إلى: تجهيل شعبه.. وهو يحتفل بسلطته وبتسلّطه على صوت موسيقاه المفضّلة: القنابل، والرصاص، والرشاشات.. ويشرب نخب ذلك في جمجمة إنسان، ومن دماء الناس البسطاء.
ومازال العرب يدّعون انتعاش المزاج... في الوقت الذي تحوّلت فيه أغانيهم إلى نواح متواصل، أو إلى ألحان (تنخع) أجسام الشباب بدون أن ترقِّصها.. ولكنه (النخع) الذي يشير إلى ضياع الإجابة عن السؤال الدائم: ما الذي نريده.. وماذا نفعل؟!!
والموسيقى: ثقافة... وما زلنا هنا في عالمنا العربي نبحث عن (فيروز) بديلة، وعن (أم كلثوم) أخرى تُجمِّع العرب، وعن (عبد الحليم) جديد... يُذكِّر الناس بالحب الحالم، وليس بـ (الحلم الحاقد) باعتبار أن: الحقد عاطفة!!
ونسترجع صوت (فيروز): من الزمن القديم، عندما كان المزاج: متوهجاً، شجياً راكضاً... يغزل صوتها الشباب والحب:
"بيغزلوا، ويروحوا يِلَمْلِموا أعياد"!
* فهل ما زال صوت (فيروز): يغزل الحلم، ويلملم في نفوسنا تلك اللحظة/ العمر؟!!
* ومن بقي ليلملم الأعياد القادمة... إن كل شيء قادم من خلف هذا الغبار، والدخان، والضباب؟!!
* وماذا تبقّى من أعياد العالم العربي، ومن "مزاجاته"؟!
* وماذا سيعطي العالم الأممي / الحضاري لمحنة العرب، ومزاجهم المفقود؟!
إنهم يحاولون اللجوء إلى صفحات كتاب، وإلى أجواء موسيقى... فيجدون الكتب قد غرقت في موجة: التشريحية، والتفكيكية.. المعادة من زمن انطوى!!
* هل قلت لكم: العالم الأممي / الحضاري؟!
فلتلتفُّوا - إذن - نحو هذا العالم المنقذ:
* في طوكيو: قامت مظاهرة ذات يوم من هذه المرحلة، تضم أكثر من ألف شخص من محبي (الكلاب).. وذلك للإعراب، وللاحتجاج الصارخ على (اعتقاد) بريطاني قديم
يقول:
ـ إن الإنجليز يتهمون اليابانيين بإساءة معاملة الكلاب!
إذن.. فهذه هي: ثقافتهم التراثية، أو تراثهم الثقافي المتجدد!
وفي طوكيو: وُصِفت تلك المظاهرة يومها باصطلاح: (وان.. وان)، باعتبار أن الكلاب اليابانية بالذات حينما تنبح تقول: (وان.. وان)... وألّف أحد الموسيقيين لديهم مقطوعة سمّاها: "وان.. وان"... فقد كان ذلك يدل على: ثقافتهم الحديثة، أو حداثة ثقافة العالم!
لكن اليابانيين عتبوا يومها على الإنجليز، للتقليل من قيمة تلك المظاهرة (الثقافية/ الفنية)... لأنهم أرادوا بها مشاركة: الإنسان العربي في التعبير عن احتجاجهم على القتل الذي يمارسه اليهود - إلى اليوم والغد - في العرب... بواسطة: كلاب العرب(!!) من أمثال: صدام حسين، الذي احتفى في عام 1991م بنشيده الياباني المفضل: (وان.. وان)، وأدخل مهرجانات بغداد المسرحية الثقافية، ومهرجان (الأمة الشعري): إلى عصر جديد، يُكرم المثقفين بسجنهم وتعذيبهم.. ويحتفي بالثقافة (الفردية)!!
* * *
* وفي أوروبا: اكتشفوا أن الكلاب هنالك تقول: (باو.. باو)!!
وذلك هو الفرق - فيما يلوح - بين الثقافتين.. وهو سبب الاحتجاج الياباني (الباو.. باو) الإنجليزي.
وهكذا.. ضاعت القضية العربية بين: "وان.. وان". و "باو.. باو"!!
وذلك هو: منتهى المزاج الحضاري الأممي.. الذي يعكس لنا: كيفية، ومضمون (الاهتمام) الحضاري الأممي بحرِّية الإنسان، وبعدالة قضاياه.. خصوصاً: الإنسان العربي، والإنسان المسلم.. بدليل تعامل: "وان.. وان"، و "باو.. باو" مع أزمة الضمير العالمي مع مأساة شعب البوسنة المسلم!
* ونذكر من عام 1985م: أن صحيفة عربية، نقلت خبراً من الولايات المتحدة الأميركية، يعلن عن: "ترمومتر" جديد للعلاقات الإنسانية.. أو لعله كان "يبشر" بعودة عقلانية ووجدانية إلى: الروابط الاجتماعية، وإلى الحب.. عبر (الإبداع) الفكري، والفني، والثقافي!
وقالت الصحيفة: إن هذا العام - 1985م - سيكون: عام العودة إلى الرومانسية!!
وباعتباري (متهم) بالرومانسية.. فقد اغتبطت جداً لتلك البشرى القادمة من الولايات المتحدة الأميركية بالذات... ولم أدْر: أنها دعوة خاصة موجهة للعالم العربي.. ليغرق في الرومانسية، ويترك (الغرب) كله يرسم: واقعية العالم... حتى الثقافية!!!
ولكن.. كيف كان عام (85) رومانسياً؟!
أشاروا لنا إلى ما وصفوه بالدلائل من عدة متغيرات حدثت حينذاك، ومن أهمها:
* أولاً: طلع الموسم السينمائي والتلفازي بطرح جديد في مضمون ومحتوى المعالجات السينمائية والتلفازية.. كان يختلف تماماً عن موجة السبعينات، وبداية الثمانينات، التي شهدت هجمة من أفلام العنف، والإثارة، والجنس!
وقدم ذلك الطرح لعام (85): معالجات اعتمدت على (الرومانسية)، والعلاقات العاطفية المستقرة.. وقد قصدوا بها: الأسرة، والأطفال، والزواج!
وبهذه المناسبة: نعود إلى "محاولة" حدثت في السبعينات لكسر نطاق أفلام العنف، والجنس، والجريمة.. عندما أنتجوا قصة "إريك سيجال" التي ذاعت، وعُرفت باسم: (قصة حب)، ونجحت موسيقى ذلك الفيلم نجاحاً باهراً... فكانت تلك المحاولة: استفتاء لما يريده الناس، أو لما يتعطّشون إليه... وحقق الاستفتاء تصاعداً مذهلاً بالإقبال على الفيلم.
لكنَّ تلك المحاولة بقيت يتيمة.. ما لبثت أفلام العري والإثارة أن طغت عليها، وبددتها!
* ثانياً: تحدث المسئوولون عن شبكات التلفزة في أميركا.. فأكدوا: أن الاتجاه إلى إنتاج الأفلام العاطفية، أو الرومانسية (بعكس الرغبة السائدة عند مشاهدي التلفاز والسينما - يومها - لرغبتهم في عودة المجتمع الأميركي إلى تقديس العلاقات الأسرية الثابتة)!!
وقد أكد ذلك الاستفتاء على: المدى الذي بلغه الشعب الأميركي بالذات، وكل الغرب.. في تصاعد الخلخلة داخل المجتمع أسرياً وعاطفياً، حتى شمل "القرف" نفوس الناس من: الاستغراق في الجنس، وفي العنف والجريمة، وفي المخدرات.. وهو ما لا ينسجم مطلقاً مع تطلعات ومستوى أي شعب حقق قدراً هائلاً من الانتصارات العلمية، ومن الحضارة والتقدم!!
* ثالثاً: أثبتت إحصائيات المركز القومي للصحة بالولايات المتحدة الأميركية، المعلومة التالية:
ـ "هناك تيار انتقالي هادئ، يعوزه الحماس للعودة إلى الاتجاه التقليدي المحافظ على القديم، وعلى القيم... فقد ارتفعت معدلات الزواج، وولادة الأطفال الشرعيين، بينما انخفضت حالات الطلاق"!
ويعني ذلك: أن تجربة التسيب الاجتماعي، والانحلال الخُلُقي.. كانت سبباً في غربة المجتمع داخلياً، وسبباً أهم يؤدي إلى تفتيت وحدة الأمة على المدى الطويل... بينما تفخر الولايات المتحدة بالذات: أنها قدّمت للتاريخ الحديث تجربة فريدة ومتفوقة لوحدة وطن، أو لإقامة وطن تكوّن من فئات متباينة.. فإذا استمر الفساد الأخلاقي، والفساد (العاطفي).. فلا بد أن ينشأ تبعاً لذلك: الفساد العقلي، أو الفساد في الثقافة!!
* رابعاً: في تلاحق موجات الفكر، عبر انحراف العاطفة والسلوكيات.. نجح (المتطرفون) مع المنادين بالثقافة المضادة في: تهديم العلاقة العاطفية الإنسانية... فقد كانوا يسخرون من القيم الاجتماعية التقليدية: من الزواج، والأمومة، والرومانسية... وجاء المتطرفون ليهدموا كل ما نشأ عن المنادين بالثقافة المضادة، وهم يطلبون بلا عودة إلى بدائية الحياة، والعزلة، والتحريم لكل شيء متطور، حتى التحريم للرومانسية أيضاً(!!) باعتبار أن: هذه الصفة (الرومانسية) تطوح الإنسان في الخيال، والتأمل، والعاطفة الرقيقة.. وهم اتفقوا - المتطرفون والمنادون بالثقافة المضادة - على فرض عصر مشاكس، ومضطرب، وراكض، وعنيف، ودموي، وهجومي، وتحطيمي.. أي العصر المادي الذي لا يقوم على: القيم، والمُثُل، والروح.. ولا على الروابط الإنسانية والعاطفية الحالمة.. بل هو عصر: خذ ما استطعت، ولا تُعْط إن أمكنك ذلك!!
* * *
* وها هي نداءات جديدة تتصاعد، مطالبة بالعودة إلى الاستقرار الاجتماعي والعاطفي... ومطالبة بمقاطعة ثقافة الـ (بلاي بوي)، والأفكار والشعارات التي تنادي بالعنف، وباغتصاب كل شيء جميل، وبسيط، وعفوي.. في حياتنا!!
(9)
* في عام 1982م... اختارت مجلة "التايم" الأميركية: الكمبيوتر.. ليكون هو رجل ذلك العام!!
وبذلك... فقد أقدم العالم على "تعميد" الآلة، لتكون هي المستقبل، وهي سيقان الحاضر إلى الغد!
بل - أكثر من ذلك -: لتكون الآلة هي (العقل) الذي يفكر عن الإنسان، والذي يسود ويتحكم، ويفعل ويطور، و... يكتب الشعر!
بمعنى: أن هذه الآلة (الكمبيوتر) ستكون هي ثقافة العصر، أو: المؤثر الثقافي على عقل وتفكير الإنسان.. ومن لا يعرف كيف يتعامل معها، فهو: أمّي!!
وبذلك - أيضاً - تمّ إدخال العالم إلى عصر الآلة.. دخولاً تاماً.
وتمّ ربط العالم، ومقوماته، وثقافته، وحضارته، وفكره.. بفعل الآلة!
وقال العالم في ذلك العام / 1982م: إننا سنستقبل الجيل الجديد الذي يبتكر اسمه وصفاته من هذه الآلة.. وليكون: جيل الكمبيوتر، وثقافة الآلة!
وليكون: جيلاً إلكترونياً.. في الحرب، وفي السلام... في الثقافة، وفي الوجدان!!
وكنت قبل عدة سنوات: أضحك أمام "إبداع" أحد الرسّامين المصريين الكبار... الذي كان يطلع على القارئ كل أسبوع بصفحتين للكاريكاتير.. جعل عنوانها الساخر والطريف: (جيل تلفزيونجي)... وكان أستاذي "الزيدان" يرحمه الله يضحك معي، ويقول لي مصححاً:
ـ بل لنقُل: جيل تلفازي!!
فقد كان التلفاز يومها جديداً، وباهراً، وسريع التأثير، و.... مشوقاً غير مملّ مثلما هو الآن(!!).. كأن تلك الصفات فيه قد بردت، أو أصبحت شيئاً عادياً.. مكروراً، وسخيفاً، وممجوجاً!!
لكنّ رسّام الكاريكاتير يومها.. كان يركّز في خطوطه ونكتة الرسم: على وجه الطفل، وحركاته الجديدة، وشقاوته المبتكرة والمقلِّدة لمواد التلفاز.. خصوصاً الكرتون (غير المدبلج)!!
ويبدو أن حركة التطور: أكثر سعة من تلفُّت الإنسان، ومن متابعاته.. فنحن في ركض دائم لا يتوقف، والآلة تتقدم نحونا، أو تقتحمنا وتلفُّنا، وتسحبنا، وتأخذنا إلى عوالم جديدة، ومنطلقات متعددة.. وتنطلق بنا إلى (ثقافة) الآلة، حتى انعكس تأثير ذلك كله على الإنسان نفسه.. في تصرفاته، وفي طموحاته، وفي تعامله.. وحتى في عواطفه، وحميمياته، وروابطه!
* * *
* لكن "الكمبيوتر" - أو الحاسوب مُعرباً - هو هذا الشأن العظيم.. وهو هذا التقدم المثير بلا جدل.
ولا مجال هنا - في هذه المساحة - أن نُعدِّد حسناته، وقد صارت شائعة في معرفة الناس.. لأن حسناته هذه هي التي أصبحت تشكل: ثقافة العصر.
ولا مجال أن نقدم تعريفاً علمياً شاملاً ومستفيضاً بوظائفه، وبمهامه، وبإنجازاته، وبتنظيمه، وبتوحيد الوقت فيه.
يكفي أن يكون "الكمبيوتر"/الحاسوب: هو رجل العام، وكل عام.. المهاب، المرغوب، القائد، المنظِّم... وقد تمَّ الاعتراف بدولته، وبهيمنته منذ سنوات قريبة (1982) م.
وفي هذا الاعتراف العالمي والعملي.. أصبح لزاماً علينا: أن نُجسد، ونبلور الاعتراف في شكل تعامل فعلي.. طالما أن العالم الحضاري قد اعتمد "الكمبيوتر": ثقافته الجديدة، واستخدمه في كل شيء.. حتى في (قلي البيض)، وفي التعامل بعمل الخاطبة واختيار عروس أو عريس(!!).. وطالما أننا نتطلع إلى مزيد من التقدم، ونستنهض كل الوسائل الحضارية لمواكبة مسيرة الحضارة، والمدنية، وإثراء العقل الإنساني بالثقافة!
والتعامل الفعلي.. يلح علينا - بإصرار، وبمنطق - أن نضع "الكمبيوتر" كمادة رئيسية ضمن مواد الدراسة.. فهو منهج أساسي نستفيد منه حين نغذيه، بل ونوظفه لتوعية الطفل الذي يجد (أماً) تتردد في تغذية فهم طفلها بالمعلومة التي يأتي في مقدمتها سؤال الطفل: من أين جئت؟!.. فيكون "الكمبيوتر" أكثر جرأة في الإجابة!
وهكذا.. أخذت (الثقافة) تدخل إلينا من كل جانب، أو تدخل على من يريدها، ويخطبها: من الباب، والنافذة، والهواء... والثقافة: أثمن وأعظم عضو يضاف إلى كل أسرة... و "الكمبيوتر" صار ضرورياً ليكون عضواً هاماً أيضاً في كل أسرة، بشرط أن نحترس في "تغذيته"!!
* * *
* وفي الجانب الآخر: توقفت عند خبر قادم من اليابان، يقول:
ـ أصبح اليابانيون يقرؤون للتسلية..... فقط!!
وقد أضحكني هذا الخبر أيضاً، بقدر ما هو مؤلم لأي شعب يهين القراءة / وعاء الثقافة إلى درجة استخدامها: تسلية!
وضحكي كان بسبب: هذه الحصيلة المكتسبة من الركض وراء زهو نجاح سياسة التصنيع.. واليابانيون احتفوا بهذه الآلة (الكمبيوتر) إلى أبعاد أخطر.. جعلت الكتاب في حياتهم لمجرد التسلية!
وضحكي كان أيضاً بسبب: تمثّل في انحسار الزمن، وتقليص الوقت الذي لم يعد يكفي المواطن الياباني ليجد فيه ساعة واحدة يقرأ فيها الكتاب الجاد، أو قصيدة الشعر!
مثلما تماماً - مع الفارق - أننا لم نعد نجد الوقت الكافي، حتى ولو ساعة واحدة، لقراءة كتاب... لأننا مشغولون بالفلوس، وبالركض بسياراتنا الفارهة أحدث موديل، وبالترصيد لنجاحات الآخرين، وبالسفر!
ولماذا أضحك بعد ذلك كله؟!
* قيل عن اليابانيين: إنهم برعوا بشكل ملحوظ في إجادة سرقة الصناعات من أميركا - وهذه ثقافة عملية! - ثم تطورت براعتهم حتى تمكنوا من سرقة التقنية كلها من العالم... فإذا هم اليوم يتميزون - منفردين تقريباً - بالصناعات الخفيفة، وبالتخصص في ابتكار وتطوير صناعة "الترانزستور".. وهذه ثقافة اقتصادية!!
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية، وما كان يُسمى بالاتحاد السوفييتي، قد سبقا إلى: توظيف "الزر" الصغير لتفجير قنبلة من مسافات تكاد تكون خيالية... فإن اليابان قد توصلت إلى توظيف "الزر" نفسه، وربما بحجم أصغر وبتكلفة أقل، لتفجير ضحكات الناس بالتسلية والترفيه.. ولتفجير مغالق العقل الإنسان في مجال توفير الأدوات الصغيرة جداً التي تقوم بأعمال عظيمة وهامة... وذلك هو فخر اليابان، وانتشاؤها، منذ نفضت عنها بقايا غبار القنبلة الذرية على "هيروشيما" و "ناجازاكي". وانبعثت من ذلك الموت لتصنيع حياة مبهرة.. ينبغي على كل شعب أن يسعى إلى ذلك الانبعاث من الدعة، والخمول، والتسيب، واللامبالاة، والاستغراق في تفاهات الجهل.. للحفاوة بالثقافة في أشكالها المعاصرة والحديثة!
وهكذا... لم تعد اليابان اليوم في حاجة لأن تسرق من أميركا أي اختراع، أو ابتكار، أو فكرة... لأنها أصبحت تُصدِّر إلى أميركا ما يعينها على احتمال إيقاع السرعة والزحام فيها!
* فما هو شعور المواطن الياباني في غمرة هذا الفخار التقني والصناعي، والتقدم الاقتصادي الهائل!!
أصبح الياباني مثقلاً بهذه الجدية في المسيرة الاقتصادية، والصناعية، والحضارية.
أصبح - كذلك - مرهقاً (بنظام) الساعة القاتل.. حتى سرى هذا النظام فشمل: الترفيه، والتداخل في عواطفه!
ولا ينبغي للثقافة أن تنفصم عن وجدان الإنسان.. حتى لا نستغرق في (ثقافة الآلة) التي تكاد أن تسود العالم اليوم بدعم مؤزر من التوجُّه المادي!
إن أحلام الإنسان الياباني اليوم.. هي أحلام (مضبوطة) على توقيت محدد، كعقربيّ الساعة.. ومن أجل ذلك: بدأت أسئلة معينة تطرح نفسها على واقع الياباني.. وأهمها هذا السؤال الذي رددته الصحافة قبل فترة، كخلفية لخبر له دلالة:
* "هل هناك صلة ما بين التقدم العلمي الرهيب - وهو ثقافة - وبين ظاهرة تراجع الأدب الجاد في البلدان المتقدمة صناعياً، وقد كان الأدب ثقافة الأجيال الماضية"؟!!
إن الظاهرة المجسّدة في أبعاد هذا السؤال عن الشعب الياباني، وهو النموذج الأعلى للبلد المتقدم صناعياً.. لا بد أن تتضح في (ندرة الأعمال الإبداعية الكبرى في مجالات الآداب والفنون)!!
* لماذا؟!!
لأن اليابانيين اليوم - بحسب رواية الخبر - يطالعون أكثر من مليار كتاب؟!
نعم.. أكثر من مليار كتاب، ولكن...... ما نوع تلك الكتب؟!!
إنها كتب: فكاهية، وكتب تسلية.
ولديهم مجلة أسبوعية فكاهية، اسمها (مانجا).. كانت توزع أكثر من ثلاثة ملايين نسخة.. ومجلة (القطة الآلية) وتوزع خمسة ملايين نسخة!
ولا أدري.. هل ما زالت تصدر هذه المجلات... أم أضيفت إليها مجلات جديدة مثلها؟!
* * *
* ذلك يعني في الخلاصة: أن الحضارة الصناعية أعطت تأثيرها العكسي الخطير على (ثقافة) ونفسية الشعب الياباني.. فملأتهما بالصدأ. وهرع اليابانيون إلى الفكاهة والنكتة، ليعوّضوا ما يفقدونه من روح المرح والألفة!
* وهناك أمثلة مختلفة ومتضادة لشعوب تستخدم النكتة في أكثر الأوقات: معاناة وقهراً، ونحتاً في الصخر، لبناء تنميتها.. وعقل إنسانها!
* وهناك شعوب سلمت من القراءة الجادة، وبرد استقبالها للطرفة وللفكاهة.. فكأن إحساسها بالزمن، وبالتطور، وبالإبداع.. قد ترمّد وتكلّس، وأصبحت تعيش اعتيادياً مثل تروس الآلة.
* وهناك شعوب لم تعد تقرأ الجاد، ولا الطريف.. لأنها انشغلت بالوقت، بسبب استغراقها في ماديات الحياة!
* فأين نحن... أو مَنْ نحن في هذه الشعوب؟!!
والسؤال الضروري... لنتلفَّت، ونستيقظ، و... نحتفي بالثقافة!
وربما كان التقدم العلمي الكبير سبباً في تراجع الأدب الجاد، وفي انكفاء الثقافة الإنسانية الشاملة!
وربما - أيضاً - يكون التأخر سبباً لذلك.. مثلما تكون الكآبة، والإحباط من الأسباب!!
(10)
* في حوارنا المتصل عن: "الثقافة ما هي... والمجتمع"، لا بد لنا أن نناقش مرتكزاً هاماً في قاعدة التثقيف، والتوعية، والتطور الحضاري.. وهو مرتكز: (المتلقِّي).
المتلقِّي: هو "القارئ" الذي يتلقف ما تصدره المطابع من مؤلفات، ومطبوعات...
وهو: ليس (الناقد) المتخصص، الدارس لهذا الفن... بل هو: المتأثر المباشر بما يتلقاه من: فكر، وفكرة، ورأي، ورؤية.. من عطاء: المفكر، والفيلسوف، والكاتب، والمبدع.
وهو - أيضاً - المؤثِّر في عطاء المثقف هذا، وفي تحريض دوره على: استشراف الوعي، والتنوير.
وفي المصطلحات الفكرية: مصطلح مُجيَّر من ثلاثينات هذا القرن.. كان قد أطلقه علماء الاجتماع في بريطانيا تحت اسم: (الاتصال الثقافي Culture Contact)، وعرَّفوه بقولهم:
* (إن مصطلح: الاتصال الثقافي، هو للإشارة إلى عملية اكتساب الفرد أو الجماعة - أو حتى المجتمع بأسره - الخصائص الثقافية لجماعة، أو لمجتمع آخر من خلال الاتصال والتداخل).
وجاء في ما نشر ضمن تعريفات المصطلحات الفكرية: هذه المتابعة التاريخية لتطور الفكر العالمي... فقد خرج علماء الاجتماع في أميركا على المصطلح الذي أعلنه علماء الاجتماع في بريطانيا، وجاؤوا برؤية أخرى، ومصطلح سمُّوه: (التفاعل الثقافي Acculturation)، وقالوا:
* (إن تعبير - الاتصال - بالمعنى البريطاني يعني: تأثر الطرف الأضعف بثقافة الطرف الأقوى.. لذلك نرى أن مفهوم - التفاعل - بدلاً من: الاتصال... يعني تبادل التأثر بين مختلف الجماعات أو المجتمعات!
وقد تؤدي عملية التفاعل إلى: صراع ثقافي بين قيم ومؤسسات وأساليب عتيقة، وإن كانت أصيلة، وبين الأخرى الجديدة المكتسبة). انتهى النص، كما نشر في صحيفة "الأهرام".
وهكذا يتأكد لنا: أن أميركا أرادت إحداث "الصراع" حتى في الثقافة، وبين المثقفين.. وذلك من بدء دخولها في وحدة "الولايات"!
* * *
* ذلك على مستوى الطرح الفكري والإبداعي..
ثم... ندخل إلى محيط الكتابة اليومية، والأسبوعية.. مما يؤثر في (المتلقِّي) مباشرة، أو يؤثر في المجتمع: تطوره، أو تقهقره... طموحاته، أو إحباطاته.
وإذا كتب الكاتب فكرته... فلا يعني أنه: يكرس معاناته الخاصة ولا تعبه الملاصق، ولا مشكلاته الملامسة لظروف حياته... ليدلقها على القارئ / المتلقّي، ويستريح!
الكاتب: ورقة كربون للناس - يختلف كل واحد عن الآخر في درجة جودة ورقة الكربون واستهلاكها - إنه يطبع كل ما يمر عليه، وما يُحفر فيه، وما يتأثر به، وما يشاهده، وما يعانيه أيضاً... باعتباره جزءاً من شريحة في هذا المجتمع.
والكاتب اليومي: لا بد أن يكون التصاقه - هو بالذات - حميمياً، ومتضامناً، وتأثرياً.. ومرآة عاكسة بدون شروخ ولا أضلاع!
ولعل بعض القراء / المتلقِّين - الذين يشدهم أسلوب كاتب ما، وطريقة طرحه - يرفعونه في تقييمهم له إلى مصاف الحكماء الذين لا يخطئون وهو بشر... لكنها الثقة من القارئ للكاتب الذي لا بد له حينذاك أن يكون: في مستوى هذه الثقة، وتلك القناعة (بتأثيره)، وبمعنى: التفاعل الثقافي بين الكاتب والمتلقّي!
ومن الجور أن يحكم بعض المتلقِّين على كاتب بتهمة: مخاطبة ذاته، والاهتمام بالتعبير عن مشاعره الخاصة في كل ما يكتبه... فإذا كان المتلقِّي / القارئ: لا يتابع كاتباً، ثم يحكم على ما يكتبه بالسطحية، أو بالغموض... فذلك حكم غير اعتباري!
إن مشكلات البشر تتشابه، وتعاملاتهم في الحياة اليومية تتلاقح وتترابط...
إن معاناة هؤلاء البشر... تلتقي في خطوط رئيسية، اسمها: الإحساس، وملامحها: المناخ الاجتماعي والثقافي أيضاً أو التوعوي.. ونسبتها إلى: الارتباط الإنساني.
* * *
* وهناك أمثلة على ذلك (الفهم) في شرائح تتأثر بالعكس، وترفض التأثر بالمضمون في كل أبعاده الإنسانية.
ومن هذه الشريحة: قارئة / متلقِّية.. قررت يوماً أن تلوم كاتباً على ما يكتبه من حوار نفسي ووجداني... فكتبت إليه مهتاجة فيما لاح من سطورها:
* "لماذا نفرض على القراء جميعاً أن يقرؤوا مشاعرك الخاصة.. فلعلّهم نفسياً: غير مهيئين لقراءة رومانسياتك وحميمياتك في عصر شديد الواقعية والمادية.. لأنه يطفح بالهموم اليومية المضَعْضِعة"؟!!
ولم يغضب ذلك الكاتب من تهيُّج الحوار لدى قارئة / متلقِّية.. حصرت فهمها بما يكتبه في (المباشرة) للكلام، وألغت: التفاعل الذي يعني: (تبادل التأثر بين مختلف الجماعات)!!
* ورد عليها يقول: سعدت بغضبتك / الأنثوية في إلغائك لشعور الأنثى الإنسان، لأنك ارتبطت - صادقة - بعصرك المادي، الواقعي، الطافح بالهموم وبالمعاناة.. وبذلك احترمت صدقك جداً، وأضيف لك:
ـ ليس شرطاً أن يكتب الكاتب إبداعه، أو يلوّن فنّه بتوجُّه خاص وذاتي، وإن كان هذا "اللا شرط" لن يكون عيباً، ولا منقصة، ولا تهويماً، ولا ابتزازاً لمشاعر الناس أو إثارتها.. فالكاتب ينضح بوجه من مشاعر ذات ارتباط وثيق بالناس، وللناس!!
* ربما استخلصت فكرة، أو صورة العبارة الموصوفة بالرومانسية منك.. من رسالة قارئ أو قارئة، لم ينفصلا عن أحاسيسهما بمثل ما فعلْتِ أنت!
* وربما "هضمت" وتأثرت ببوح إنسان، في لون من التفاعل الثقافي ضمن دور الكاتب، ومسؤولية المثقف، وانتمائه العاطفي!
* وربما أنني - ككاتب - أردت الوقوف أمام قارئ / المتلقِّي مني: إنساناً يحب، ويعشق.. و..... يبوح، والبوح ليس سُبَّة، ولا مرضاً، ولا عاهة!
إن قصائد الشعراء.. هي خلاصة تجربة إنسانية، ومعاناة.. وهي قطرات إحساس، وعاطفة، وتأثُّر بالناس وحكاياتهم المتشابهة!
وكذلك: القصص، والخواطر الوجدانية، والإبداع بالكلمة.. وبمختلف ألوان الفنون!
* * *
* وهكذا نجد: أن الكاتب يتناول كل يوم، أو فيما يكتبه... زاوية جديدة في قاعدة الناس في زحامهم... ويلقي عليها الضوء، وقد يكون هو: أحد الجالسين في تلك الزاوية، أو المقصورة!
وقد يكون هو: أحد المندسّين في زحام الناس والحياة.
وقد يكون: أحد المرتبطين بالموضوع الذي تناوله.. أو أحد المعانين في الفكرة التي طرحها!
* ومن قديم، قال (طاغور): نحن نكتب، والقراء يضعون المعاني.
والقراء - دائماً - يضعون المعنى الذي يبدو قريباً من فهمهم، أو مخاطباً لمشاعرهم، أو ملتصقاً بمعاناتهم، أو مزركشاً بأحلامهم وأمانيهم.. وذلك من خلال استخلاص معنى عبارة واحدة، قد لا يكون الكاتب قصد بها ما فهموه، أو ما لامس وجدانهم، أو ما كوى ضمائرهم!!
وكثيراً ما كتبنا... وجاء من يُفسر المعنى وَفْق هواه أو فهمه، أو... حتى أمانيه!
* وقد أشار "يوجين أونيسكو" إلى مثل هذه الصورة، أو إلى مثل هذا المتلقِّي... عندما جاءه قارئ، شاهد إحدى مسرحياته ولم يفهمها، أو لم يفهم شيئاً ولو بسيطاً منها، كما أفاد... فقال له "أونيسكو":
إما أنك دخلت المسرح هرباً من سأم لازمك، فغفوت في الظلام.. وإما أنك منشغل بالتفكير في همٍّ يخصك، فلم تسمع ولم تر شيئاً من المسرحية!
* قال القارئ / المشاهد للكاتب المسرحي:
ـ لكني أعرف: أن الكاتب ينتشل القارئ أو المشاهد من همومه.. فإما يرفِّه عنه، أو يشدُّه إلى معاناة لما يمرُّ به!!
* أجاب "أونيسكو": لا أختلف معك في هذه الرؤية لعطاء الكاتب... ولكن لا تنسَ ما هو مطلوب منك كمتلقِّ، وأوله: الاستعداد لأن تقرأ، أو ترى، وتتفاعل... بمعنى: أنك جئت إلى مسرحيتي لتستفيد، أو لترفِّه عن نفسك، وليس مجيئك بغرض الانفصال عن العمل المسرحي، والنوم على الكرسي الوثير!!
إن المتابعة في "المتلقّي" لما نقرأ، ونشاهد.. لا بد أن تُطوّع استيعاب المتلقِّي، إذا سمح لمشاعره أن تتحول إلى وردة تتفتح، وتبعدها عن شجب البوح الإنساني... وإذا سمح لعقله أن يصغي قليلاً، ويتأمل، ويفكر في ما تلقَّاه!
(11)
* في استطراد حوارنا عن: دور "المتلقي" المؤثر... أتوقف بكم عند رسالة من قارئ/متلقٍّ، تدلّى من بين سطورها لسان ساخر.. وحفلت بتعبيرات غريبة، ولا أقول جديدة... كتبها هذا القارئ / المتلقي - الذي لم يخرج من البيضة إلى فضاء الكتابة الرحب - بحسب توصيفه لنفسه... وأحسب أنه لو كسر جدار البيضة من الداخل، فقد يُسلق، أو "يُطجَّن" كما هو واقع بعض من ظنوا بلوغهم وطن الإبداع الكتابي!
وهذا هو: كل خوف القارئ / المتلقي، صاحب هذه الرسالة.. مما حدا به إلى حجب اسمه!
ولكني لا أحب الإنسان "المسلوق"، ولا الأفكار "المطجَّنة"... بل أفرح كثيراً بحوار كل قارئ ناضج، فاهم، موضوعي... لا يندفع بسبب ذاتي، كما هي تهمة الصحافة اليوم... ولا تتوسط الفهم: مشاعره الخالية من التفكير!
* * *
* في البدء... يطرح هذا القارئ / المتلقي سؤالاً في رسالته، بعبارات سريعة ومباشرة... فيسألني، أو يشرِّح عطاء الكتابة، فيقول:
ـ أعلم أن من ينتقد، ويدلي برأي أو فكرة.. لا بد له أن يتابع، ولكني أشعر ببعض الكُتَّاب: يجري وراء القارئ ويتعقّبه لتضيع منه الفكرة، أو يتخلخل الرأي... وليقول لي هذا البعض من الكُتّاب: عيب.. لا تفعل هذا، وليقول مرة أخرى: هذا أفضل، ومرة ثالثة: أخطأت، ومرة رابعة: أحسنت... كأنّ هذا الكاتب: ضمير، أو كاميرا خفية!
حقاً... لا نختلف في هذه النقطة، فالكاتب: ضمير، وكاميرا خفية تلتقط أدق حركة وسلوك من داخل النفس البشرية، ولكن... أي كاتب؟!
كقارئ متلقٍّ.. لا بد أن يقنعني كاتب حر، ونظيف، ومتفوق على عنعنات النفس!
* * *
* في الالتفاتة الأخرى، التي أخصُّك بها ككاتب... يخيَّل لي أحياناً أنك: تقذفني بالطوب أنا القارئ / المتلقي... هكذا (شطراً بطراً)، ربما لأنك كأي كاتب يومي، يحاصرك الملل، أو تكون خالي الوفاض من الفكرة التي لا بد أن تفيد بها هذا القارئ / المتلقي!
وأحياناً أخرى: أجدك متدفق العاطفة.. حنوناً، مواسياً، قريباً إلى نفسي أنا هذا المتلقي / القارئ... فأحتضن كلماتك، وأسترخي.. كأنها خطاب غرامي.. وتكون فيها تعالج مشكلة نقص المياه في جدة مثلاً!!
ولكن... رغم ذلك كله، فإن القارئ / المتلقي، وليس لكم غيره: يطالبكم أيها الكُتَّاب بالكتابة المفيدة التي تعرضون فيها مشكلاتنا، وهمومنا، وأمانينا.. وتنغِّمون لنا أحلامنا!
لا نرفض بالطبع: كلمات التأمل، والوجدانيات التي نتلقَّاها كالنغم بعد الصخب... لكننا نرجوكم أيها الكُتَّاب: كُفُّوا عن هذا (الرغي).. فإننا نجد في كثير مما صرنا نقرأه اليوم: تنظيراً، "وهلوسة" كتابية، وادّعاء بالعلم وبالمعرفة، وبالمعلومات - خاصة في أمور السياسة والاقتصاد - فنحن نعرف أن عالمهما: شائك وعميق الغور.. وأن "كواليسهما" ثقيلة وداكنة غير شفافة.. ولا يمكن لكاتب صحافي في كثافة هذا الوجع والمتغيرات المحبِطَة: أن يخترقها.. وهو قابع خلف مكتبه الأنيق!
وكنا في الماضي نسمع عن: المراسل الحربي... صحيح أن الحرب لا تحتاج إلى مراسل الآن، ولكن أكثر الكُتَّاب في الصحف والمجلات العربية... أصبحوا "يتعاطون" الكتابة السياسية، بينما خلفياتهم المعرفية عن قضاياها، وعن كلماتها المتقاطعة: محدودة جداً!
لا تغضب مني، انتصاراً لزملائك أو أترابك، ولكني أقول رأيي - كقارئ / متلقٍّ لكل ما ترموننا به كل صباح.. وإن كان ما أقوله مجرد "فش خلق" فقط... احتملني لتكون أنت الكاتب في هذه المرة: القارئ / المتلقي، ولو لمرة واحدة!!
* هناك أيضاً لون آخر من الكُتَّاب ممن يشعرون أن نفوسهم تؤلمهم، فيصبُّون على القارئ / المتلقي سوط عذاب من ألم نفوسهم، أو من فشلهم الشخصي!!
لكننا - يا سيدي - قد مللنا من السفسطة والهامشية، ومن نُواح الكلمة العربية، ومن تقريعها للاستعمار، والامبريالية، والانبطاحية.. دون أن يشير الكاتب العربي منكم إلى نقطة الجرح التي تنزف: خوفاً، أو تطلباً للسلامة، أو.... ليس هذا دوره(!!).
ولو كانت الحرب بالكلام.. لانتصر العرب، كما قال "تشرشل"!
ألا يمكن لكاتب عربي أن يكتب لنا اليوم في هذا الاختناق النفسي عن: القدرة، والإرادة، والأمل... بأسلوب يشحذ عزائم الرجال، أو يفتش عنها في هذا التيه، ويعالج نفوس الشباب الذين باتوا يفتقدون القدوة الحسنة؟!
قولوا لنا: إلى أين وصل بنا السباق على الأرض، قبل أن تصفوا لنا السباق في الفضاء وإليه؟!
* * *
* انتهت سطور الرسالة العنيفة، الطريفة من قارئ / متلقٍّ غاضب، ولكنّ أصداءها لم تنته عندي... فقد أعجبت بصراحتها، وبعفوية كلماتها، وبسخريتها.. ورغم أني لم أفقد الثقة في القارئ / المتلقي، إلا أن "احتراف الكتابة فيما نقرؤه حتى لغير المتفرغين لها، أو المبدعين فيها... يصبح هو الدوامة التي تلف هذا الكاتب العربي المُتْعَب الذي يتصبب عرقاً، وأحياناً: خجلاً وهو في زمهرير المعايشة!
ولا بد أن تكون هذه الرسالة بمثابة: (حادثة النصف ورقة) في أعماقي.. وقد أفقت بعدها بدقائق لأتناول فنجان قهوة مضبوطاً، وأتأمل، وأقول لنفسي بدون فلسفة، ولا سفسطة:
ـ بمقدار ما تكثر الحوادث على وجه الأرض، وفي أعماق البحار.. كذلك لا بد أن تتنوع الحوادث في أعماق النفس البشرية!
هناك حادثة: "النصف متر". وهناك حادثة: "النصف عقل".
وهناك حوادث: "المتر كله.. في غياب العقل كله!!
* * *
* وتخرج إلينا فتاة من بين سطور رسالة تَعْقب رسالة القارئ أعلاه، وقد وقّعتها باسم: "شهرزاد".. كصوت يقابل صوت الرجل من المرأة.. لكنها لا تحكي في رسالتها حكاية من ألف ليلة وليلة، ولا أحد سيقطع رأسها مع انبلاج نور الصباح.. فالرؤوس المقطوعة في هذا العصر هي التي تدّعي العلم بأبعاد الحقيقة، وهي جاهلة!
ـ قالت هذه القارئة / المتلقية: لا بد أن نعترف بدءاً بأن لدى الفتاة مشكلة اسمها: الفراغ في مجتمع لا يستثمر عقل المرأة وثقافتها.. ومثلي مَنْ تقبع خلف جدران أربعة، قد تؤدي إلى نشوء حالة نفسية!
قد تتهمني بالمبالغة، فتقول: لا أحد يقبع اليوم خلف الجدران الأربعة، خاصة بعد تفشي ظاهرة (السائقين) المستقدمين شتى!!
هناك بعض الأسر ممن يسافر مع بدء العطلة الدراسية، ولكني لا أنظر إلى هذه المشكلة برؤية محدودة، فأحصر حلّها في السفر.. ولكني أطرح مثالاً، وأنتم ككتّاب سادرون عن مناقشة ما يطرأ ويُغيّر في المجتمع، وفي التربية.. حتى التأثير على السلوك!!!
* والمثال: لفتاة تحاول أن تملأ فراغها بالالتحاق بإحدى دورات الجمعيات أو المعاهد، مثل الكمبيوتر: ثقافة العصر الجديد!!
ولكن.. دعني أذكّرك بالنكتة التي صارت مشهورة جداً، وربما قديمة: من مشكلة إلى مشكلة أخرى، فتتفرع إلى مشكلتين!!
* بمعنى: أن المشكلة لم تعد في إطارها.. بل تنشق إلى مشكلتين، والمشكلتين إلى ثلاث، وهكذا!!
* وأسأل كقارئة متلقية لكل ما تنشره الصحافة المنشغلة عن معالجة أهم المتغيرات والمشكلات:
* لماذا لا تفتح المعاهد، والمدارس، والجامعات أبوابها خلال العطلة الصيفية للنشاطات، وتُنظِّم دورات، وأنشطة ثقافية واجتماعية، وندوات أدبية، وفنية، ودورات لتعليم الخياطة، وللرسم، وللرياضة، ولتعليم اللغتين الإنجليزية والفرنسية، والكمبيوتر... وذلك بمبالغ رمزية؟!
* لماذا لا توسع الجمعيات نشاطاتها طوال العطلة الصيفية، بدلاً من تعطيل نشاطاتها في الفترة الهامة جداً، نظراً لسفر المسؤولات فيها؟!
إن مثل هذه الجمعيات بفتح أبوابها.. إنما تستوعب: مواهب، وأشغال، وأنشطة الفتيات، بدلاً من جولات الأسواق.. ومَلْء وقت فراغهن بإقامة: دورات، وندوات،
وأنشطة متعددة؟!
انتهت رسالة الفتاة: القارئة / المتلقية!
* * *
* وتبرز هنا نقطة.. نود أن نتطرق إليها، وهي تتركز في: ضعف مستوى الثقافة العامة لدى الطالب أو الطالبة الجامعيين!!
والملاحظ: أن هؤلاء الطلبة والطالبات - الجامعيين والجامعات - لا يعرف أغلبهم سوى تخصصاتهم.. أما بقية العلوم والمعرفة، فلا يعرفونها.. لأنهم خلّفوها وراءهم عند فترة الدراسة الثانوية!
ولا بد أن تأخذنا الدهشة والمفاجأة عندما يتعرض شاب لسؤال، فلا يعرف إجابته التي غالباً ما تكون بسيطة!
ونحن لا نهدف إلى: التقليل من قدرات وتفوق طلبة وطالبات برزوا في مجال الثقافة.. ولكننا نتحدث عن (المستوى) العام لثقافة شبابنا!
* فما هي الوسيلة - إذن - لرفع مستوى الثقافة العامة لدى الشباب الجامعي.. بما يليق بمستواه العلمي؟!
قد نقترح: تدريس مادة (ثقافة عامة) تشمل:
* أهم القوانين الفيزيائية، والكيميائية، والجبرية، والهندسية، والجغرافية.
* أهم المعارك في التاريخ.. والمتغيرات التي حدثت سياسياً واقتصادياً.
* أهم الأعمال في الأدب، والفكر، والفن.. وأهم الشخصيات.
وقد لا يكون الاقتراح منسجماً مع أفكار الذين يضعون برامج التعليم.. ولكنه: (فكرة) نحاول بها أن نعثر على وسيلة لرفع مستوى الثقافة العامة، وبالمضمون الثقافي لدى الشباب... وأن نهتم بهذا الوقت المهدر!
والشباب - كما نردد دائماً دون ملل - هم: ثروة كل أمة... وليست هناك أمة طموحة تهدر ثروتها الأهم، وإنما: تحرسها، وتواكبها، وتطوِّرها، وتنمّيها بالعلم، والثقافة!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1199  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 462 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .