شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
واحد ((ارتكاري)).. جداً
ـ المكان: انفلاتي.. لا جغرافية له، وقد يكون كل مكان، وقد يكون أي مكان!
ـ الزمان: عصر السرعة.. ثمن باهظ، وقيمة كرتونية!
ـ الإضاءة: مذبذبة.. مزغللة!
ـ الصوت: لسان يتدلى من بين شفتين ثملتين!
ـ المناسبة: لا تخضع للتحديد.. قد تكون بالأمس، قد تصبح الآن، قد تأتي غداً!
ـ الحركة: شيء ما - غير مرئي - يحدث نقراً عى جدار الغرفة.. ربما.. كانت أصابع هذا الشخص، وربما.. كان لسانه من شدة حدته، وكان يراني بظهره.. أما وجهه فهو ينطبع على ((ظل)) شيء يتحرك في تخيله، ويحاول أن يجسده:
ـ قلت له: اصدقني.. من أنت؟!
ـ قال ساخراً: ليس لعيني شكل الجن، وليس في صوتي نبرة صدى الكهوف، وليس في سحنتي قبراً.. لكنني آدمي من هذا النمط المنسرح فوق الأرض.. أشكل زاوية في قاعدة الناس!
ـ قلت: هل تعلم أن القاعدة لا زوايا لها؟!
ـ قال: ممكن أن نجعل نحن زوايا لها من وجهة النظر التي نريده، وبوحي الفكرة التي نتبناها ثم نحارب من أجلها حتى نبلغ حدود الخطأ!
ـ قلت: ولكني لم أقصد بسؤالي من أنت أن تصف لي شكلك وتنفي الملامح والنبرة غير الإنسانية عنك، وإنما أردت معرفة محتواك!
ـ قال: صعب أن أعرف محتواي في هذا الزمان، فهو خليط متلاطم متناقض، فأنت في الصباح تمتلئ بمحتوى ما.. بشيء يندرج في معنى الطموح، أو الأمل، أو القناعة، أو السباق، وأنت في بداية المساء قد تدلق كل ذلك، وتمتلئ ببعض أضداده، أو تمتلئ بالملل، أو بالعدوان، أو التعب، وأنت في الليل تغرق في كل تلك الامتلاءات فتجدها أكثر من بقايا أمواج تدافعت في أعماقك وركضت، ثم تكسرت، وخلفت لك كل ما لفظه ذلك الموج من داخلك!
ـ قلت: هل هذ هو إحساسك؟!
ـ قال: إحساس؟؟.. أين ذلك الإحساس.. ألم يتحول إلى جرح منفي في صدر الإنسان؟!
ـ قلت: دعني إذن أصحح السؤال.. فأقوال: هل هذا هو انطباعك؟!
ـ قال: كل انطباع يتخذ له زاوية معينة!!
ـ قلت: وما صفتك أنت كزاوية؟!
ـ قال: زاوية استطلاعية.. ترفض الانعكاس عليها!
ـ قلت: ولكنها تعكس على الناس ما ترغبه عليها!
ـ قال: يحدث هذا.. ولكنه يتوقف على المحتوى الآتي في الانطباع!
ـ قال: وما هو موضع استطلاعك؟!
ـ قال: كل الناس، وكل الحياة، وكل الأفكار، وكل الإحساس الذي تحوَّل إلى جرح منفي في صدر الإنسان، ومعنى ((كل)) في قوام المجتمع!
ـ قلت: تعني أنك زاوية حادة؟!
ـ قال: خليط متلاحم متناقض، وأحياناً زاوية منفرجة، ولكن طبيعتي من انطباعي.. أن أسجل استطلاعي.
ـ قلت: إذا كان كل الناس هم موضوع استطلاعك، فما هي دوافع ذلك الاستطلاع؟!
ـ قال: شعوري قوي.. يتحول أحياناً إلى شراسة!
ـ قلت: ما هو هذا الشعور؟!
ـ قال: شعور بتصرفات الناس، وتعاملهم من عواطفهم ومن أفكارهم، والرغبة في تسليط الضوء والحرارة عليها!
ـ قلت: بماذا؟!
ـ قال: بلساني، وهو كل ما أملك كظاهرة قوة!
ـ قلت: هذه هي إرادتك الوحيدة؟!
ـ قال: أضعف الإيمان!
ـ قلت: هذه العبارة تستخدم لهدف النصيحة والتقويم!
ـ قال: وما الذي أفعله أنا؟!
ـ قلت: أنت لا تنصح، وإنما ((تهرش))، فأنت تملك لساناً من ((خيش)).. سطحه خشن جداً، أو كأنه ((مبرد))، وليس ((كل)) تصرفات الناس يستحق الهرش بهذه الطريقة.. هناك من يحسن معاملة الاخرين، وهناك من تبقت في صدره عاطفة صادقة، وهناك من يزن أفكاره، وأنت استخدمت صيغة الجمع.. لماذا لا تفرز الناس إلى مصيب ومخطئ؟!
ـ قال: الآن قل لي.. ما هو الخطأ وما هو الصواب في تصرفات الناس.. ما هي قاعدة الصواب، وما هي دلائل الخطأ؟!.. فالذي يرتكب الأخطاء لا يعترف بها ويلوم الذين ينتقدونه، والذي يحرص على الالتزام بالصواب يسمى مغفلاً، أو يوصف بالحماقة، فكيف تستطيع أن تفرز؟!
ـ قلت: ولكن الخطأ يعلن عن نفسه، والمخطئ يفشل أن يستمر في أخطائه لأنها ضد طبيعة الأشياء، والوعي، والعرف الاجتماعي، والفكرة الإنسانية!
ـ قال: أنت تقول كلامك هذا فوق أرض منبسطة منسرحة، فتتعثر رؤيتك.. لكنني أجلس في زاوية تعينني على ترديد الرؤية!
ـ قلت: يبدو لي أنك أنت الجلوس، وأنت الزاوية معاً، ولو كان هنك اختلاف بين زاويتك، وبين ما حولها لأمكنك أن ترى بوضوح!
ـ قال: أنت تعيب عليَّ أن أفضح أخطاء الآخرين؟!
ـ قلت: أبداً.. ولكن من الصعب أن تفضح الأخطاء وتفسرها أيضاً.. فهل نظفت أنت من الأخطاء، وهل تظن أن تفسير أخطاء الآخرين لا يؤدي بك إلى خطأ أفدح؟!
ـ قال: إنني أتجنب الاختلاط بالقاعدة.. إن زاوية واحدة فيها تمنعني!
ـ قلت: فيتم لك ذلك من جانب، وبالاختباء عن الناس من جانب آخر!..
ـ قال: أنت تمنع البعض من شجب أخطاء غيره فتروج لمنطقية الخطأ!
ـ قلت: أبداً.. إنني أطلب منهم الاعتراف بأخطائهم مثلما أفرض ذلك على نفسي، ولكن الكارثة لو أن كل واحد أصبح مثلي.. يعطي لنفسه حق ترصد أخطاء الآخرين وفحصها وتفسيرها دون أن يتذكر أنه قد لا يقل أخطاء عن الناس!!
ـ قال: أنت تناور.. فاشرح لي ما قلت!
ـ قلت: من الصعوبة أن يعترف المعتاد على تعرية الآخرين بعريه هو. فأنت تجلس في زاوية بعيدة عن رؤية الناس لك، وتطلب منهم عنوة أن يتعروا ((كله يقلع!)) ثم يسلموا برؤيتك لهم.. ذلك يمثل دوافع الأنانية، أو الغيبوبة العقلية!
ـ قال: لكنني مثل كل الناس.. لا أرى أخطائي، ومن هو الإنسان إلا نموذج للذي لا يرى أخطاءه هذه الأيام ولا يعترف بها؟!
ـ قلت: هذا لا يعني أنك مغسول من الأخطاء، فالتجارب مزيج من الخطأ ومن الصواب.. فهل أنت إنسان بلا تجارب؟!
ـ قال: حتى لو عايشت تلك التجارب. فليست تجاربي.. فأنا أتحاشى الناس.. غير أني أتفرج.. أرى وأعرف كيف تتم تجارب الآخرين!
ـ قلت: ثم تصور أحكامك على الناس بما يثرثر به لسانك فقط!
ـ قال: وما هو عيب لساني.. أليست هناك ألسنة أكثر رداءة؟!
ـ قلت: ربما.. ولكن لسانك ارتكاري.. إذا لم يهرش لا يستريح!
ـ قال: ماذا تعني؟!
ـ قلت: إنه لسان مصاب.. فإما أن تهرشه باسنانك، وإما أن تهرشه في حياة الناس!
ـ قال: وما هي الجريمة التي صنعتها بلساني؟!
ـ قلت: لسانك صنع منك شخصاً معدياً.. من قابعي الزوايا، ومن مروجي الهمس الذي لا يقوم حواره على حقيقة ثابتة.. إنك تجذ بأسنانك على لسانك لتسكت ((هرشه)) .. فلا تستطيع إلا أن تتكلم كيفما اتفق!
ـ قال: وبعد.. إسمع.. لقد احتملتك كثيراً، ولا يمكن أن أغفر لك هذه الإهانات!
ـ قلت: ليست أفدح من إهانتك لقيمتك كإنسان من المفروض أن تلتفت إلى ما يسمو بك فوق الإحباطات ونهش قيمة الآخرين، ومن المفروض أن تجوِّد عملك، وأن تبدع لتصل بذلك الإبداع إلى إحساس صادق بجمال الحياة وبحميمية التقارب مع الناس، ومن المفروض أن تجمر لسانك بكية واحدة ربما أصابت العلّة وشفتك منها.
ـ قال: لا أشكو مرضاً.. أنتم المرضى!
ـ قلت: الناس كلهم في نظر المريض مرضى مثله مصفرين هزيلين، فالنظرة تكون بقياس الحالة ورد فعلها!
ـ قال: لكن غيرك وصفني بما أشعرني بالمسرة والغبطة!
ـ قلت: إما لأن هذا الغير لا يعرفك، وإما لأنه يعاني مثلك!
ـ قال: تصدق.. إن لسانك أكثر ارتكارية من لساني!
ـ قلت: لكن ليس صفة أو طبعاً.. إنه فقط يجابه شيئاً أقوى أو أكثر ألماً!
ـ قال: سأغيب عن وجهك، ولكنك سوف تصطدم بالكثير من أمثالي!
وأدار لي وجهه، وجعل ظهره ((ظل)) شيء يتحرك في تخيله ويحاول أن يجسده! ولم أستطع التحديق فيه، فقد كان متعدد الوجوه، ومحكوم بالظل.. بظل لسانه، وبظل ما يتحرك في تخيله!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :934  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 379 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج