شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
واحد كومبارس ... جداً
ـ المكان: نهاية خط طويل.. طويل!
ـ الزمان: الآن.. الآن وليس غداً
ـ الإضاءة: باهتة.. تتكثف من حولها الظلال!
ـ الصوت: مدبلج!
ـ المناسبة: إغماءة، و((لمة)).. شخص ملقى على الأرض داخل بيته في حالة إغماء، ومن حوله أهله، وجيرانه، وبعض الأعناق المدلاة من النوافذ يتساءل أصحابها: من هذا؟!!
ـ الحركة: أقدام تروح وتجيء.. وبعض أصحابها يسارعون بكوب ماء. وبعضهم بنو شادر، وبعضهم يقف مذهولاً، كأن حركة قديمة لا تتوقف في مساحة المكان!
ووضعت فمي في أذنه أسأله حينما بدأ الحركة:
ـ هل أنت مغمى عليك بالفعل؟!!
ـ قال: كما ترى.. وكما قال كل هؤلاء من الواقفين.. ألا تصدق؟!!
ـ قلت: بعض المتحلقين حولك يسألون.. ماذا حدث؟!
ـ قال: إنهم يعرفون ولكنهم لا يعترفون!
ـ قلت: وبعض المدلاة أعنقهم من النوافذ لمشاهدتك يسألون.. من أنت؟!
ـ قال: وأيضاً هؤلاء يعرفون، ولكن لا يهمهم من أنا بقدر ما يقلقهم الذي حدث!
ـ قلت: وما الذي حدث؟!
ـ قال: مشهد يصلح للفرجة لا أكثر!
ـ قلت: وموضوع الفرجة؟!
ـ قال: أنا الموضوع والسؤال!
ـ قلت: مْن أنت.. ومن وضع السؤال؟!
ـ قال: أنا واحد ((كومبارس)) في رواية الحياة ذات المشاهد المتعددة.. لذلك فإن الذين سألوا: من أنا؟.. لا بد أنهم مثلي كومبارس، ولكن أية رواية لا بد فيها من كومبارس لتكتمل أحداثها.. أبطال المسرحية وحدهم يعجزون عن آداء دور البطولة إذا لم يكن في المسرحية كومبارس!
ـ قلت: فأنت رغم ما قلت إنسان غير مهم.. إنسان عادي لو مت الآن ربما وضعوا جثمانك في ثلاجة حتى يسأل عنك أحد، أو تدفن بعد ثلاثة أيام، فأنت إذن لست موضوعاً مهماً؟!
ـ قال: صحيح.. لكن دوري في المسرحية ككومبارس لا يقضي أن أسقط مغمى عليَّ.. من أجل ذلك أصبح إغمائي حدثاً، وجاءت ((اللمة))!
ـ قلت: والسؤال؟!
ـ قال: السؤال شفاه المتفرجين، وهو: ماذا حدث؟!! ولم تكن الإجابة هي: مات.. لتصبح في روعة السؤال!
ـ قلت: وما هو الموت في فهمك له؟!
ـ قال: أن يذكرك كل الناس!
ـ قلت: ولكنك لو مت، فلن يذكرك أحد لأنك ((كومبارس)).. شخص من ملايين البشر فوق الكرة الأرضية.. لم تخرج بفكرة جديدة.. لم تقدم عملاً إنسانياً.. لم تبتكر ما يفيد الإنسان!
ـ قال: صحيح أيضاً.. ولكنك حينما تموت وأنت واقف تمثل فلا بد أن هناك متفرجين.. هم الذين يجعلون موتك ذكرى!
ـ قلت: وأبطال المسرحية؟!
ـ قال: إنهم ينسون.. ليحفظوا أدوارهم في مسرحية جديدة يصفق لها المشاهدون!
ـ قلت: إذن.. ما هي الحياة؟!
ـ قال: أن لا تذكر أحداً من الناس!
ـ قلت: ولكن القاعدة الاجتماعية تقول: إن الفرد جزء من الجماعة، فلو اعتزلت الناس أصبحت حياتك فراغاً وهشيماً وأصداء!
ـ قال: لو اعتزلت الناس فلن يسأل عنك أي أحد في هذا العالم الواسع.. المزدحم، تصبح نقطة ضئيلة في محيط.. لأن التراحم والتوادد كان صفة زمن مضى بآبائنا وأجدادنا.. أما اليوم، فكل فرد في جماعة يقول لك: نفسي ومن بعدي الطوفان!
ـ قلت: أنت متشائم وكئيب!
ـ قال: أنا واقعي.. عندما أقول ((آه)) أعرف أين أتألم.. فنحن نعاني الآن من آلامنا المحسوسة أكثر من آلامنا المجسدة كالجروح، والحريق، والبتر للأعضاء.. آلامنا التي تبدو مستعصية هي من نفوسنا.. ألم يقل الأطباء: إن أغلب الأمراض الحديثة، وبالذات تلك التي يستعصى علاجها هي من الصدمات النفسية، أو العاطفية.. أي من إحساس الإنسان!
ـ قلت: ها أنت ((تعرف)) الكثير، وتتكلم بمعرفة.. فلماذا اعتبروك ((كومبارساً))؟
ـ قال: لأنهم لم يروني في صورة مكبرة.. إن صوتي يصل إليهم كما المؤثرات الصوتية، أو يصل إليهم من وراء وجه، أو صورة، أو مشهد.. أي إنه صوت يصل إلى أسماعهم مدبلجاً!
ـ قلت: وما هو حجم صوتك؟!
ـ قال: صدى!!
ـ قلت: وما هو مداه؟!
ـ قال: يتوقف ذلك على رغبة الأذن المتلقية للكلمة التي يرسلها صوتي.. حسب الأذن والرغبة!
ـ قلت: وما هي المسافة بين الأذن والرغبة؟!
ـ قال: لا بد أن تحددها ((أميَّة)) النفس، أو وعيها، وتحددها أيضاً القاعدة التي يقف عليها الإنسان المتلقي لأصوات الآخرين وهي تحمل مفاهيمهم ونواياهم!
ـ قلت: ومن وضعك في نهاية صف المجتمع، أو صف الحياة؟!
ـ قال: هكذا وجدت نفسي!
ـ قلت: ولماذا لا تحاول أن تتقدم إلى الصفوف الأمامية؟!
ـ قال: أسباب عديدة.. ربما قزمية صوتي، أو فشلي في تنكب الأكتفاف، أو عجزي عن صياغة آخر كلام يقال دائماً، أو ربما لقناعتي بمكاني، أو أنني أتساءل: من الذي يبقى في الصفوف الخلفية لو صعدنا نحن الكومبارس؟!
ـ قلت: يأتي كومبارس آخر.. فالحياة يصعدها الإنسان من أول السلم، والمهم أن لا تتوقف في مكانك!
ـ قال: ربما كان مكاني أفضل.. يريحني من أن أتلفت خلفي ويجعل نظراتي ذات اتجاه واحد فقط: إلى الأمام!
ـ قلت: وما هي وظيفتك في الحياة؟!
ـ قال: أنظف طرقات الآخرين، وهنا أبصر نجاحي فقط!
ـ قلت: ولا تفكر في أية لحظة ماذا تريد أن تكون؟!
ـ قال: عندما تكون راضياً عما تفعله.. فأنت بلا شك في المقدمة حتى لو كنت كومبارساً!
ـ قلت: إذن أنت قانع؟!
ـ قال: أنا مرتاح فقط.. فربما كان عدم القناعة في بعض الأفكار أو المواقف هي شدة التعب والقلق!
ـ قلت: تعني أنه ((ليس في الإمكان أبدع مما كان))؟!
ـ قال: الفرق بين الإبداع والعجز.. هو في القدرة!
ـ قلت: وما هي قدراتك لتبدع؟!
ـ قال: الخوف!!
ـ قلت: الخوف تعتبره قدرة؟!
ـ قال: ليتنا نحترم الخوف!
ـ قلت: كيف.. إنك تثيرني؟!
ـ قال: الخوف يا سيدي ليس هو لجبن كما اصطلاح الزمن الجديد، أو المدنية، وإنما الخوف يعني الحياء، والخوف يعني الأخلاق، والخوف يعني إتقان العمل، والخوف يعني الرحمة وإسقاط القسوة!
ـ قلت: ولكن ما قلته هو الثقة، أو هو الإدراك الكامل!
ـ قال: لا.. فعندما نغالي في الثقة، ونغتر بالإدراك.. نفقد الخوف من السفاهة، ونفقد الخوف من الانحلال والتفسّخ، ونفقد الخوف من إهمال العمل واللامبالاة ونفقد الخوف من القسوة في الطباع والتعامل.. فنتحول إلى أناس لا يقيمون وزناً للأواصر، ولا للحب، ولا للتوادد، ولا للصفات الإنسانية.. فكأننا في غابة كثيفة منعدمة الدروب.
ـ قلت: ومن أجل ذلك تخوفت من التقدم إلى الصفوف الأمامية؟!
ـ قال: عندما يكون الإنسان وحده في غرفة مغلقة.. لن يكون هناك إلا خيط رفيع، وهذا الخيط الرفيع هو الذي يضيء النفس، أو يكشفها، فتظهر الحسنات والسيئات، ويلمع الجمال ويتضح القبح، ويبدو أن الناس قد أخذتهم مشاغلهم عن رؤية نفوسهم من الداخل، أو كأن عيونهم إلى الداخل كما عيون تمثيل الإغريق حدقتها من زجاج لا يعكس شيئاً!
ـ قلت: ولكن هناك علماء أشاد بهم التاريخ، خرجوا من الصفوف الخلفية إلى الأمام، وأبدعوا، وأثروا في زمانهم، ألم تسمع مثلاً بموسيقار عظيم كان يغسل الصحون في مطعم مدينته، أو بأديب شهير كان نجاراً، أو برسام موهوب كان أرزقياً ((صائعاً)) يعلك اللبان ويبصق في شوارع روما؟!
ـ قال: إن حدود قراءاتي لم توصلني إلى أخبار هؤلاء المشاهير، ولربما عاد أولئك إلى الصفوف الخلفية ثانية للخلود إلى الراحة مثل عاشق ((سمبسون)) الذي تزوجها مضحياً بإمبراطورية كانت لا تغيب عنها الشمس! ولكن يا سيدي.. لا يمكن أن تشبك ورقتين بمسمار.. كذلك لا يمكن أن تصنع باباً بالدبابيس!
ـ قلت: الدبوس قد يكون مسماراً لو كان الحقل الذي صنع منه في الآلة أوسع بعض الشيء.. ثم إن الدبوس يؤدي وظيفة، ولولاه لضاعت أوراق هامة أو اختلطت، ولكن الصعب أن يتضاءل المسمار فيصبح دبوساً!
ـ قال: أنا ضربت مثالاً، فلا تحصره إلى هذه الدرجة، والدبوس مع هذا لا يصل إلى درجة التأثير على ما هو مكتوب على الورقة!
ـ قلت: قل لي.. ما هو منطقك؟!
ـ قال: هو الرأي الذي لا يصغي إليه الناس!
ـ قلت: كيف؟
ـ قال: ألا تلاحظ؟.. أن الكثير من الناس لا يصغي إلى العقل الآن.. أو أن المنطق في أيامنا هذه لم يعد هو كلام الناس أو رأيهم!
ـ قلت: وما رأيك أنت؟!
ـ قال: كثير من الأشياء التي لا قيمة لها.. أصبحت في عصرنا هي عمل ضروري؟!
ـ قلت: كيف مرة أخرى؟!
ـ قال: لا بأس.. دعني استفزك، ولكني أعطيك مثالاً: ففي الأفلام التي نراها يحتاج المخرج عند تصوير منظر زحام، أو معركة بالأيدي، أو متفرجين.. إلى مجموعة من الناس، فيخرج إلى الشارع، و((يلم)) عدداً منهم، ويدخلهم الاستديو، ويطلب منهم ذلك المشهد، ثم يعطيهم بعض المال القليل، ويكتب النقاد: لقد كان المخرج موهوباً وذكياً، وينجح المخرج، ولا نعرف واحداً من المجموعة التي أدت اللقطة.. كذلك كما قيل عن حلقات ((استيف اوستن)) إن القفزات العالية التي نراها له يؤديها إنسان آخر غير معروف حتى وجهه، ويقبض القليل من الدولارات، ويقبض البطل ستيف آلاف الدولارات وهو جالس يتفرج على بديله يتعرض للموت، وقد مات البديل بالفعل ذات مرة!
ـ قلت: كل واحد يؤدي دوره في الحياة!
ـ قال: لم نختلف، ولكني أفهم فقط، وربما كان هذا الفهم هو راحتي، أو كآبتي أحياناً!
ـ قلت: لقد أفادتك التجارب الكثيرة حتى أصبحت تتفلسف!
ـ قال: قبل التجارب درست: غير أن محاولة إجادة كل الأشياء حتى الخبث قد خلفت عندي نوعاً من التبلد!
ـ قلت: أوضح..
ـ قال: عندما أرى الزحام أهرب منه إلى طريق آخر.. عندما يمتلئ سمعي بالعديد من الأصوات أصمه وأرفض الإصغاء وأهرب إلى مكان بلا صوت، عندما تحوطني النظرات يخيل إلي أنها تشير عليّ.. لا تشير إلي فأهرب إلى الفراغ!
ـ قلت: كل مكان بلا صوت هو موت.. أو هو القبور!
ـ قال: أخطأت.. هناك أصدق الأصوات!
ـ قلت: لكنني أعتقد أنك تعاني من مرض؟!
ـ قال: ليس شرطاً، فأنا لا أحب أن آخذ كثيراً لأنني لا أكره الناس، فالكراهية هي عندما يعتقد الناس أنك قد أخذت أكثر منهم!
ـ قلت: ما هو شعورك؟!
ـ قال: ينبغي أن أحب كل الناس!
ـ قلت: والذين يكرهونك؟!
ـ قال: ليس هؤلاء هم الناس. بل هم الظلام، أو هم أشباح الناس!
ـ قلت: كيف تعطي وتحب دون أن تأخذ شيئاً؟!
قال: إني أحفظ كلمة وجدتها في قصاصة التقطتها ذات يوم من أمام باب البيت.. تقول: ((أعط أكثر مما تأخذ.. في الحب غالباً لن تندم))!!
ـ قلت: ولم تندم؟!
ـ قال: الوجه الآخر لتلك الورقة التي التقطتها.. مكتوب عليه: ((ليس من الضروري أن تنال ما تشتهي.. يكفي أن تكون قادراً على ذلك))!!
ـ قلت: وما الذي حققته بتلك القدرة؟!
ـ قال: إصراري أن محبة الناس ضرورة!
ـ قلت: وماذا تصنع بهذه المحبة؟
ـ قال: أتقدم بها إلى الصف الأول.. رغم أنني أقف في الصف الأخير!
ـ قلت: وإذا لم تجد المحبة عند الناس كلهم؟
ـ قال: لن أندم.. لحظتها أشعر أن مكاني في الخلف يعطيني متعة المشاهدة الشاملة، وبذلك أكون قد كسبت عقلي، وحافظت على عاطفتي، ونجوت من غروري!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :881  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 378 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.