شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
اغتيال الغزالة!
ـ هو الرجل...
المنشد: الذي كان يغني لنا، ويغنينا.. فنردد أشعاره في خلواتنا وتوحد أرواحنا وحين تكون الفجيعة في واقعنا!
الذكر: الذي أشعل الرجولة عبر صوره الغزلية، فكانت قصائده بمثابة المنشور السري في غرف النوم العربية.. نتغنى بها في ظلال الأمسيات، ونلعنه بها في تفشينا تحت قرص الشمس الحارق!.
الشاعر... الذي قيل عنه يوم بزغ: ((الشاعر الذي دخل غرفة نوم المرأة ولم يخرج منها))، فحمل هذا الوصف على ظهره كالصليب.. كصخرة سيزيف، وعبر بالحروف الخضراء، وبالكلمات الوردية العديد من اقبية ((الانفصام)) في الفهم وفي المشاعر العربية.. فكان لا بد له - كشاعر له وجه واحد - أن يقذف باللعنات جهاراً نهاراً، وأن يؤخذ بالأحضان مساء.. في انحناء ضوء الشموع!
الموال: الذي احتفينا بآهته وبأوجاعه، وعشقنا معه نساءه اللواتي ابتكرهن على الورق.. ثم كنا نبادر إلى طعن قوافيه وتفعيلاته وصوره الشعرية التي ركضنا وراء معانيها.. قافية إثر قافية، ومطلعاً بعد مطلع!
ـ هي المرأة...
الأنثى: التي أحالها إلى قصيدة تتمرد على دواوين الشعر، وبلورت بعطائها إلى أعماقه - حضوره في الحياة.. فأضافت إلى أنفاسه دفء القبلة، وأضافت إلى نبضه حيوية الفرح، وأضافت إلى فرحه بحياتها الحزن الصاهر والواقد.. ذلك أن الحزن هو الفرح - سمة لهذا العصر الذي نحياه - !.
الحبيبة: التي حققت في حياته المسافة ما بينه وبين قمة النشوة.. فكانت مقدار خطوة طفل سعيد!
الرفيقة: التي دعته إلى الخروج من قواميس التعب.. ليكتب في دفاتر الحياة وتحت شهادة ميلاد العمر: أسطورة العشق المكتوبة بقطرة ليس لها بديل أو مثيل.. قطرة الحنان!
الملهمة: التي أتى خلفها كل الغائبين الذين أحبوا الكلمة الساقية واللغة الشاعرة، فاضافت جمالاً إلى بهاء كلماته في نفسه!.
وفي لحظة مباغتة - اندلعت كحريق الغابات - تحولت الجنة إلى جحيم، والحديقة إلى ((قبو))، وتساقطت الأشجار وتهدمت الغابة لتغتال الغزالة العربية.. بعود ثقاب عربي!
في لحظة.. ارتفع موال المنشد في صحراء الليل العربي:
((قتلوك في بيروت مثل أي غزالة
من بعد ما قتلوا الكلام!
بلقيس.. ليست هذه مرثية
لكن.. على العرب السلام))!
إذن.. لقد تحولت القصيدة العربية إلى دمعة. أصبحت هي رثاء الحب العربي، وهي جراح العصر الحديث.
بلقيس - قبل أن تتحول غزالة اغتيلت - كانت أنثى مثل أية نثى معشوقة، جميلة، مثل أية أم منت من غرستها لأرضها العربية: زينب وعمر.. طفلان يتعمشقان ويطلعان ويتحولان إلى فيء للأرض وفوقها، وللإنسان وحوله!
بلقيس.. مليحة عربية، اختطفها شاعر فوق حصانه الأبيض، ومليحات كثر ما زلن يرددن أشعار هذا الفارس بعد اغتيال الغزالة المليحة.
نزار - الرجل - هو الذي أضاء أنوثتها.. هو الذي سكب العطر على شعرها.. هو الذي غزل لها بكلماته ثوب عرسها مع الوعد المعلن على الدنيا.
نزار - الرجل - هو الذي طرز ابتسامتها بالربيع.. فكان لا أنثى مثلها تبتسم في وجهه، وفي وجه حياته. فكان إنشاده عنها ولها هو ((تعمير الأنجم))!
نزار - الرجل - هو الذي كان يقول:
أعبئ جيبي نجوماً، وأبني
على مقعد الشمس لي مقعداً!
ونزار - العاشق المنسكب أنفاساً وشعراً على جيد أنثى واحدة، رأى فيها كل النساء - استقر بعد أن استنبط - حبه منها ولها هذه الصورة التي روت عمره بعد عطشه:
((بلقيس.. يا كنزاً خرافياً.. ويا رمحاً عراقياً، وغابة خيزران..
يا من تحديت الغيوم ترفعا..
من أين جئت بكل هذا العنفوان))؟!
* * *
اغتيال الغزالة.. يعني عند ((نزار)): اغتيال العنفوان.
لقد ندرت الغزالة في الأرض العربية.. بعدما اصبحنا نركض خلفها فريسة: لجلاد!
وقيل الكثير عن نزار - الشاعر الذكر -، ولكن ((نزار)) قال الكثير عن: الذكر الشاعر، فهو لم يكن يمارس الحب بالماديات - ربما كان وصاله المادي هو معاناته! - لكنه كان يمارس الحب بالشعر.. ومن أجل ذلك ربما التصقت به دعاوى أو تهمة: الأدب الإباحي أو العاري، فرد على هذه التهمة يوم قال:
التزامي أنا بوجه حبيبي
أوليس الحب الكبير التزاما!
تهمة الحب.. ولا تزال ورائي
لا رآني ربي أرد اتهاماً!
فكيف يتمجد شاعر.. إذ كانت أكبر تهمة في عصره هي: الحب؟!
وكان ((نزار)).. هو ذلك المنشد الذي ارتفع مواله في غربة العصر، وتغريب الإنسان، فكأنه يبحث عن الحب، ولكن الحب لا يضيع منا.. وإن كان ضياعنا هو بحثاً عن الحب!.
إنها الكتابة في هذا الزمان: نحاول أن نتذكر بها رقة الأنثى وحنانها، وشكل الوردة وعبقها، وغرستها وأشواكها. الكتابة لها ذلك المعنى والشكل والتأثير..! إنها جمال، وعبق، وشوك!
الكتابة.. غازلها رسام قيل عنه إنه قطع أذنه من أجل أنثى، فقال: ((الكتابة قطرة عرق. قطرة دم. قطرة دمع. قطرة راحة)) .. ونحن نغتسل في هذه القطرات كلما انهدت أحلامنا، وأيضاً كلما برق شباب أمانينا. نحن فيها وطن، ونحن فيها وجدان، ونحن فيها إنسان فكرة ومبدأ، ونحن فيها طفولة تصد هموم العمر!
لكن ((نزاراً)) لم يقطع أذنه، وإنما هو حاول أن يخصي الانفصام في الفهم والمشاعر!
لقد تخللت حياة هذا الشاعر ثلاث مراحل:
ـ مرحلة أولى: وهي دخوله بالشعر إلى مخدع نوم الأنثى، أو مخدع الحب!
ـ مرحلة ثانية: وهي دخوله بالشعر إلى مخدع السياسة العربية!
ـ مرحلة ثالثة: وهي دخوله بالشعر إلى مخدع الخوف العربي!.
وكان حين دخوله إلى مخدع الأنثى، أو مخدع الحب يكتب ما شرحه وطرّزه وزرعه في كتابه ((الشعر قنديل أخضر)) وإن جاءت أغلب قصائده في هذه المرحلة الأولى: تحت قنديل أحمر!
وكان حين دخوله إلى مخدع السياسة العربية.. يكتب ما يردد أصداء ((المشي على الحناجر)) في الشوارع العربية.. مع بداية الغرق في الدماء والتجوف من الحميمية، فكان يكتب عن:
ـ ((الذين حولوا حروف الهجاء العربية إلى طلقات رصاص))!
وصار يكتب قائلاً:
ـ ربما كان مطلوباً مني كشاعر أن أجعل مساحة القبح في العالم أقل، ولكن ماذا أفعل عندما تصبح مساحة القبح في العالم العربي إلى كل الذين وقفوا يشاهدون خروجه من مخدع الحب والأنثى إلى مخدع السياسة العربية، وقال لهم يومها:
ـ ((إن القراء العرب الذين عرفوني - موشوماً - لمدة ثلاثين عاماً بشعر الحب، تعودوا على وجهي القديم وألفوه.. بحيث صاروا إذا رأوني ألبس وجهاً غير وجه الحب حسبوني متخفياً، وخابت آمالهم بملامحي الجديدة))!
ولو بقي ((نزار)) آبداً في مخدع الحب.. لاستمرت لعنات القراء العرب له جهاراً بالنهار، ولاستمرت أحضانهم وعاء لشعره في المساء. وعندما انطلق إلى مرحلته الثانية: لعنوه في الأمسيات ودقوا له الزار في النهارات المبتورة.. ذلك أن مشكلة شاعر الحب الذي يتحول إلى شاعر أرض وقضية، هي فضيحة قراءة. وعليه أن يحرر الأرض ويطرد المستعمر، فقال ((نزار)):
ـ ((إنهم يريدون مني أن أرجع إلى الأندلس، ولكن.. أين هي الأندلس؟.. إن الأندلس الأولى مسجلة في الدوائر العقارية باسم الملك خوان كارلوس.. أما بقية الاندلسيات - الضفة الغربية والجولان، وشرم الشيخ، والعريش، وغزة - إلى آخره، فلا تزال مسجلة في الدوائر العقارية باسم مناحم بيجن، ولديه صك تمليك رسمي بها، مصدق لدى موثق العقود في البيت الأبيض))!!
* * *
واغتالوا الغزالة..
وناح المنشد .. ارتفع مواله ينادي النهار والرياح والجبال العربية. تحول إلى جرح يتمنى لو أنه يضيء الزمان المعتم بالحروب وبالهروب، وبالقتل، وبالحقد.. فدخل إلى المرحلة الثالثة: الدخول إلى مخدع الخوف العربي!!
فرغم أنهم اغتالوا الغزالة، ورغم أنهم ((طمروا قمره ما بين الحجارة)).. لكنه قرر: ((لن يقرأ التاريخ بعد اليوم..)) لأن الشاعر دخل إلى مخدع الخوف العربي، فلن يتكلم بعد الآن، ولن يقرأ التاريخ.. لأن الدخول إلى مخدع الخوف العربي يمنعه أن يقول وأن يقرأ، فكأنها مرحلة انتحار لشجاعة!
لقد حاول أن يتكلم ويقرأ.. حاول أن ((يرفع الستارة)) ويقول:
- ((إني أعرف الأسماء والأشياء..
والسجناء، والشهداء، والفقراء والمستضعفين..
وأقول: إني أعرف السياف قاتل زوجتي.. وجوه كل المخبرين.
سأقول في التحقيق: إني قد عرفت القاتلين.
وأقول: إن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين))!!
ولكنه دخل إلى المرحلة الثالثة.. إلى مخدع الخوف العربي، فلم يفصح عن اسم السياف قاتل زوجته، ولم يدل على وجوه المخبرين، ولم يحدد من هم الذين عرفهم قتلة لزوجته بلقيس؟!.
أو كأنه قد ألمح إلى أن القتلة هم ((كل)) العرب.. لكن ((كل)) العرب: تهمة شاملة.. بينما السياف قاتل زوجته معروف لديه، ولدى بقية العرب!!
لكن الدعوة إلى الحياة لا تموت، والطموح في الإنسان لا يقضي نحبه بطعنة.. بل إن الخطوة الأولى في الطموح: أن نخرج من الخوف، وأن نطعن الانهيار، ونجتاز الزجاج المكسور!
* * *
واغتالوا الغزالة..
فهل كانت هي الغزالة الأولى في تاريخ الحضارة والمدنية والثقافة وتوهج الوعي؟!
إن كانت مقتصرة على حياة الشاعر، وفي مساحة فرحه.. فهي الغزالة الحلم التي وصفها يوماً:
حلم مدهش أخاف عليه
فلكم كسروا لنا أحلاماً!
أما إن كانت ((الغزالة)) في تاريخ الحضارة، فقد اغتالوا قبل ((بلقيس)) الغزالة:
ـ الغزالة جان دارك. والغزالة زنوبيا. والغزالة ((سمية)) أم عمار بن ياسر. والغزالة ((بنان)) ابنة شيخنا على الطنطاوي، والغزالة ((دلال المغربي)) الفلسطينية، وكل يوم يغتالون غزالة في فلسطين، ويغتالون غزالة في لبنان. والغزالة ((أشرف)) زوجة مسعود رجوي الإيراني!
أما إن كانت ((الغزالة)) في تاريخنا العربي الطويل، فقد اغتالوا قبل ((بلقيس)) الغزالة - سواء كان الاغتيال بالنصل أو بالضيم - اغتالوا:
ـ الغزلان: بنات الحسين اللواتي ساقوهن بعد مقتل أبيهن إلى الشام مع رأس الحسين كأنهن السبايا...
يومها وقف ((يزيد)) ينكت ثنايا الحسين بالخيزرانة، فقال له النعمان: أتنكت بقضيبك ثنايا الحسين؟..
لكم رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفتيه يقبلهما. وقام علج من أهل الشام ينظر إلى فاطمة بنت الحسين قائلاً ليزيد: هبها لي. فقالت فاطمة بالأنفة العلوية الهاشمية أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟!.. فكان اغتيالهن بالضيم.
ـ والغزالة: زينب بنت علي.. جار عليها ((مروان)) فخافت البقاء في المدينة وهاجرت إلى مصر.. كأنما دار الهجرة قد ضاقت بها فهاجرت منها إلى غيرها.. فكان اغتيالها بالضيم!
ـ والغزالة: نفيسة - حفيدة الحسن وأستاذة الشافعي - تلك التي ضاقت بها الأرض في حجازها وبطحائها فهاجرت إلى مصر.. فكان اغتيالها بالضيم!.
ـ والغزالة: جميلة بوحيرد - الجزائرية المناضلة - التي كتبت بعذابها وهوانها أنصع صفحة في النضال العربي الحديث!!
* * *
واغتالوا الغزالة...
فنزل التشقق في أحداق الشعر.. فكل الصور تبدو ممزقة. صار الشاعر يبيع حزنه للخوف، وللقهر، ويرتمي في القيظ حتى ينهد نوحه!.
أصبحنا الآن، كما قال واحد من الذين يكتبوا قطرة من عرق، وقطرة من دم، وقطرة من دمع:
ـ يجمعنا كل شيء.. ولا يفصل بيننا إلا الحب!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :862  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 360 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الرابع - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج