شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ميلاد.. يغني!!
ثم غاب القمر.. كان ذلك عنوان مسرحية كتبها من زمن ((جون شتاينيك)).
وكان ينقل انعكاسات ضياء القمر على صفحة مياه النهر، وعلى وجه ((المستنقعات)) القذرة!
وكان ((الحوار)) المستمر النابض.. الذي يعلو تارة ويتأرجح ويخمد تارة أخرى ويترمد.. هو قوائم المسرحية التي وقفت عليها.. لم تكن هناك - بالمعنى الدقيق - أحداث تشد القارئ، وتجعله يلهث، ويعدو خلف سطور الكاتب!
ولا يشدني اليوم ومض فكري، أو حتى عارض ذهني للتحدث عن هذه المسرحية الشهيرة، فهي لكونها معروفة وقديمة.. لا تعطي (المعرفة) لها عوامل الانبهار والشد.. كذلك لم تفعل في نفسي يوم قرأتها إلا بعض الجيشان.. كالذي تناول وجبة لم يستكنهها، وأصيب بالضيق، لكنه لم يستطع أن يتجشأ بعدها!!
لقد ذكرت هذه المسرحية.. وبين يدي أبهر ما كتبته الأديبة السورية ((كوليت سهيل)) بعنوان: كيان!
مسرحية ((شتاينبك)) أعطت لقارئها - المحلي! - انعكاسات توفرت على التقاط زوايا قضية ترتبط بواقع ذلك القارئ، وتشير إلى زمن رفضت فيه الأشياء الثمينة في ((اجتماعية)) الإنسان.. فصور الكاتب لقارئه ضياء القمر، وقد جذبته وجوه مرحلة تطفو على صفحة المستنقعات، وقد يكون لهذا التصوير فلسفة وقتية.. ترتج اليوم في أوار حاضر اعتبر أن ((شتاينبك)) قد مات فعلاً.. وانتصب خلفه معبر آخر لجيل جديد من الكتاب!
ورواية ((كوليت سهيل)) التي اسمها: كيان.. هي ليست أكثر من أسطورة.. كما أصرت الكاتبة، وأثبتت ذلك الإصرار وأكدته عندما كتبت على ورقة ما بعد الغلاف: أسطورة!!
وقد يكون أجمل ما يهدى إلى الأطفال هي الحكايات، والحواديت، والأساطير، لتنويرهم.. لشدهم بما في الأساطير، والحكايات ((المؤلفة)) من غرائب، وأحداث خيالية لا يعترف بها الواقع المادي - بالنظرة المجردة - لكن وراء سطورها معانٍ عميقة نحن نقدمها للأطفال لتهيئتهم، وتطويع خيالهم، وذهنياتهم.
لهذا ربما هدفت الكاتبة إلى ذلك وهي تهدي أسطورتها هذه إلى ابنتها الغالية، وإلى جيلها: أطفال العرب في كل مكان!
إن الرواية ذات أسلوب أسطوري.. تفوقت فيه ((كوليت)) ونسيت ذاتيتها.
بذلك الأسلوب عادت إلى فترة من طفولتها ونشأتها داخل بيت عربي مقدمته: فارس الخوري (!!)
لقد شدت ((كوليت)) عواطفي بكل عنف، وقهر أيضاً!.. يوم قرأت لها روايتها التي شهرتها، وجعلت العيون تحملق في (معطياتها!) الإنسانية.. رواية ((أيام معه)) ومصدر الجودة في التعبير، والتصوير في القصة يأتي من المعاناة الحقة، والرؤية الواضحة في الكاتبة لقضية نفسها، فجادت، وقال يومها الكاتب الصحفي حلمي سلام: إنني لم أقرأ عملاً أدبياً.. بقدر ما قرأت اعترافات جريئة، ومخلصة في العطاء!!
غير أن هذه الرواية (كيان) تختلف عن الرواية ((الأولى))..
لقد كتبت ((كوليت)) نفسها، وإرهاصاتها، وتجربتها، ومخاض شعورها في رواية ((أيام معه)) وصمتت وسط ضجة في الصحافة العربية، وعندما هدأت.. قال جدها فارس الخوري: لقد كتبت كوليت، ومن الآن ستكون صريحة مع تجاربها!
أما في رواية ((كيان)).. فقد كتبت ((كوليت)) قومها: قضيتهم.. عقدهم.. آلامهم.. انفعالهم المخنوق بذهولهم!
فرواية ((كيان)) ليست إلا تصويراً دقيقاً لواقع العالم العربي! .. وإن كنا - كمنتمين إلى هذا المحيط الإنساني - نرفض أن تكون هذه الرواية ((أسطورة)).. لأننا نسعى ما أمكن لتقليص معايبنا، وتذويب أخطائنا، واستشراف ((إفاقة)) تنتعش بها أمانينا كأمة لها تاريخ مضيء بلا شك، وكأمة أحلى ما فينا هي أمانينا، وطموحنا!.. لنتخلص من كبوة أليمة!!
وأول ما لفت نظري في هذه الرواية - الأسطورة - اختيار أسماء أبطالها!
فبطلة القصة اسمها ((كيان))، وحبيبها اسمه: ((صدام)) - بتشديد الدال -، وصديقتها اسمها: ((ريا))، وفتى صديقتها اسمه: ((يزن))!.. والطفل الذي تقص عليه الحكايات، وتنشئه على صوتها المنغم الموسيقي، وغنائها اسمه: ((ميلاد))!!
والدقة في اختيار الأسماء: يتضح جداً عند ربط الأحداث بعضها ببعض، واقتران الأسماء!
وجغرافية الأسطورة.. هي قرية يسكنها فريقان: فريق يعيش في السهل، والآخر يعيش على الهضبة.. فريق السهل يسمع بوضوح.. حتى إذا شدت ((كيان)) الغناء فتحت كل النوافذ.. يسمع جيداً ويميز بسمعه.. لكنه لا يحب الكلام أبداً.. إنه ممثل في شخص ((يزن)) الذي يرسم دائماً على التراب - حتى كلامه - ويمضغ البقلة، ويشخص بنظراته إلى وجه ((ريا)) التي يحبها، ولا يريد أن يبوح لها!
وفريق الهضبة: يتكلم بثرثرة، لكنه لا يسمع أية نأمة.. وهو ممثل في شخص ((صدام)) الذي يشاهد ((كيان)) ويحبها، ويحدثها طويلاً.. لكنه يوم جاءته تطلب ((الياسمين)) للطفل ((ميلاد)) حتى لا يموت، لم يكن يسمع شيئاً مما تقوله!
والطفل ((ميلاد)): كان يعيش على رائحة الياسمين، ويوم اختفى الياسمين من السوق، وجف النهر رقد طريح الفراش، وأشرف على الموت، وارتقت ((كيان)) الهضبة وهي تعاني مرضاً، وحادثت ((صدام)) طويلاً، فلما عجزت عن إيصال صوتها إليه.. هرعت إلى أشجار الياسمين وقطفت منها، وهرولت لتنقذ الطفل ((ميلاد)) من الموت برائحة الياسمين!!
لقد كانت ((كيان)) كما وصفتها المؤلفة: ((مشعة كالكيان.. جريئة كالحرية.. تذكرني.. تذكرني بالإنسان))!!
وهذه العبارة وقعت في مسمعي عنيفة.. عنيفة!!
إن هذه الفتاة تذكر بالإنسان (!).. هذا يعني أن الإنسان أندرج في طيات النسيان.. انغمر في مرهقاتها كلها.. في قضية لم تنته، ولم يعرف من أين بدأت.. اسمها: الانشطار.. بين من يسمع ولا يتكلم، وبين من يتكلم ولا يسمع.. كأنه هو الإنسان العربي اليوم!!
هذه ((كوليت سهيل)) التي ارتقت بتأملاتها أولاً.. أصبح ((الكيان)) في مفهومها ليس إرهاصاً ذاتياً.. ينبري لحظة الانفعال والرغبة، ويبحث عن الانفعال والرغبة في لحظات التيه.. إن ((الكيان)) هو مصير يحمل (التاريخ) كل ما فيه، ولا يتوانى عن الفصح!
إن ((كوليت)) تلتقط دهشتها بعد مسيرة - لا أسميها مسيرة ضياع النفس - بل هي من أجل النفس، وتتبلور الدهشة، وتتضح وتتعمق، وتتحول إلى ((مفهوم)).. مفهوم سيجعل أنيس منصور يعيد التفكير في الرأي الذي كتبه قبل سنوات عن هذه الكاتبة بالذات.. حينما قال: ((لا تعرف الكاتبة ما الذي تريد أن تقوله، ولا كيف تقوله.. ولكنها تضع عبارات واندهاشات وتعبيرات ليس لها معنى واضح.. إنها تصرخ وأنت لا تعرف لماذا تصرخ، فهي تقفل على نفسها الباب وتلعن النوافذ))!
هذه العبارة لم تعد تليق بـ ((كوليت)) اليوم.. فقد كتبت شيئاً عرفته، وعانته، وقاسته قبل أن تنقله على الورق؛ وهي ذات أسلوب مشرق.. يكرس المعاناة والحزن؛ وأنت تبتسم بكل رضا!
وكوليت لم تعد تصرخ اليوم.. فالذي يجلس ((ليفهم)) الأطفال ويهدي إليهم نبراته.. ينشد لهم ويترنم ليفهموه.. ليقتربوا منه، فهو يؤدي عملاً!
إنها لا تخاطب الأطفال الذين شاخوا.. ولكنها تحضن الأطفال بكل ما في نفسها من جمال وأمل حتى لا يشيخوا!
وأنيس منصور كتب هذه العبارة قبل سنوات - ضمن مقال له أودعه في أحد كتبه، وعندما كتبها كانت هناك ((نفرة)) نسائية.. لكاتبات ملأن المجلات والجرائد بالمقالات، والقصص والكتب المطبوعة.
كان هنالك صراخ بالفعل، وزحام، و ((كعبله!)) حتى استقامت أخيراً.. على جادة الأدب - بعض أقلام نسائية.. رسخت وأعطت صدقها، وتجربتها، وعكست وعيها، وثقافتها!
* * *
إن العودة - هنا إلى ((كوليت))..
وبهذه العودة.. التزم بالتوقف عن الكلام.. لأني توقفت عند قفلة الرواية الأسطورية.. القائلة:
ـ ((لا.. لن أموت يا حبيبي.. لن أموت!..
((ميلاد)) يغني.. وسيظل للقرية - كيان - !!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1313  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 359 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.