شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثالث
(1)
* أراد ((زياد)) أن يلتقط أنفاسه قليلاً.. كأنه كان يهرول وراء هذه الذكرى، أو الصورة،
أو التجربة التي لم تأت بها السفن.
ألقى ((ألبوم)) الصور في حِجره، وأرخى ساقيه إلى الأمام، ورأسه يستقر على ((الكنبة))... وهو يتلفّع بأصداء مازالت تعتاده من خمس سنوات كمدِّ البحر وجزره... لا تفارق ذاكرته، ولكنها أيضاً لا تنسجم كثيراً مع كل هذا المخزون من ذكريات وتجارب عمره في ذاكرته.
يعترف الآن أنه في تلك التجربة قد ((احترف)) العشق المهزوم أمام تلك المليحة: ((مشاعر)).. وتبعثر الكثير من العناوين التي كانت بارزة في حياته يومها.
في خطواته اللاحقة لخطوات مشاعر من حديقة الـ ((هايد بارك)) إلى الشارع.. إلى مقر إقامته.. كان هواء تشرين القارص بالبرودة يلفح وجهه، ويرعش جسمه.. لكن لفح البرودة التي قابلته بها ((مشاعر)) وتعاملت بها معه، كان أكثر لفحاً لمشاعره هو... وكانت ارتعاشة أضلعه أشد من رعشة جسمه بالبرد.
في بدء ذلك المساء.. ترك العنان لساقيه يقودانه إلى حيث تريدان، لم يحس بتعب المشي، ولم يفكر في إيقاف سيارة أجرة تقلُّه إلى فندقه... متعته حينذاك تركّزت في هذا المشي الهويني من الحديقة، وهو يحادث نفسه كأنه يحادث هذه المليحة/ مشاعر.. ويشعر بها تمشي بجانبه.
ـ ما هذا... الحب من أول نظرة في مطعم؟!
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه بعد هذا الخاطر/ السؤال.. لا يدري إن كانت: ساخرة، أو مغتبطة؟!
لكنَّ هذه الأنثى المليحة: فجَّرت في وجدانه جنون العشق في عصر السرعة والماديات.
بكل غموضها.. صبَّت في صدره: وضوح الحس.. بل وهيامه بها.
لم يتعرّف عليها بعد... ولم تتعرف عليه، كل ما حدث منه نحوها: مشاكسة أخذت تكبر وتكبر حتى تحوّلت إلى مسلك عاطفيّ متدفق... وكل ما حدث منها نحوه: تمنُّع، ودلال، وحذر شديد.
منذ تلك الليلة في مطعم ((السماء الزرقاء)).. وهو ينسج مع ملاحة وجهها: أبعاد حزنه الذي يفيض من حفافي نفسه في عمق الليل.
وفي الزمن القصير جداً الذي تحدد في نصف ساعة.. حاورها، فكان هو المتكلم وهي المصغية.. وكان هو البوّاب الذي يفتح أمامها المداخل وهي تغلقها في وجهه.. وكان هو الدَرَجْ التي أقامها لتضع قدميها فوقها وتصعده هو: درجة، درجة... ورغم ذلك: أبدت له رفضها بأسلوب الراغب.. وواربت له رغبتها في ضلفة نافذة رفضها!
ومرَّت الليلة الأولى بعد لقائهما في الحديقة... ولم ينعم سمعه برواء صوتها.
وليلة أخرى، وثالثة... أسبوع كامل، مملّ، متعب له بالانتظار، وبالقلق.. وهو يراوح ما بين الحديقة عصراً، لعلها تأتي إلى نفس المكان، وفي نفس الموعد أو قبله بقليل، أو بعده... حتى تتساقط خيوط المساء الأصلي على المدينة الضخمة ذات المباني التي تميل إلى السواد.
فكّر في العودة إلى نفسه التي افتقدها منذ التقى هذه المليحة.. يعود إليها قبل أن يرتعش جسمه، ويلفحه البرد، ليكون الآن في أمسِّ الحاجة للخلوة مع نفسه... للاختباء فيها، أو ليستمد من حميميتها رباطة الجأش... والقفز فوق لحظة الهزيمة.
لقد هزمته ((مشاعر)).. أو أنها جعلته يهزم نفسه.
الهزيمة: خذلان للنفس في البدء... ثم تتساقط الأشياء بعد النفس!
قرّر أن يحزم حقيبته، و.... يعود إلى وطنه.
هناك في ((جِدَّته)).. لا بد أن تحنو عليه وحدته من جديد.. تطعمه الصبر، وترويه من رحيق الأحلام، وتُشكل لوحة حزنه من ألوان الطيف التي لا تدل دائماً على: التفاؤل، أو الفرح.
ـ قال لنفسه: ((هذه الليلة العقيمة لي في لندن.. لنجعل ختامها: ديسكو))!
يسخر من نفسه... فهو لا يفلح في الرقص كما هؤلاء الشباب في كل الدنيا، ولكنه ((حرِّيف فرجة))... وهو لا يحب صخب الديسكو المزعج لهدوئه، ولكنه يميل بين فترة وأخرى إلى التغير.
شيء من ((القرف)) غمره وهو في لندن.
كم تبقّى من إجازته؟!
ـ ((ياه... توّ الناس، بل لم ينصرم منها سوى نصف شهر))!
ها هو يخرج من طقس العشق إلى أي شيء لا يكون فيه طقس.. ربما كانت الوحدة حتى وهو في زحام لندن.. وربما كانت الهزيمة)).
ـ ((هزيمة؟!... إنني لم أضع في اعتباري ولا تقييمي أن تتحوّل هذه المليحة إلى: معركة.. أكسبها أو أخسرها))!
ـ أضاف في حواره مع نفسه هذه الفكرة التي طرأت: ((لماذا أبقى داخل مدينة لندن؟!... خارجها هو الأجمل، مثلاً.... مثلاً، آه.. أذهب إلى ((باث))، هناك حيث المياه الساخنة، والآثار الرومانية القديمة.... ديسكو إيه، وجنان إيه))؟!!
* * *
في الصباح... حمل حقيبة صغيرة، في طريقه إلى محطة القطار.
كأنَّ القطار: تابوت يدخله.. وهو وحده كاليتيم، رغم هذا الحشد من الركاب.
اختار الدرجة الأولى المريحة... نعم هو رجل ((لا يحب الكَلَفة))، لا بد أن يتنعَّم... فمتى يبدأ زمن اللهو؟!
يمدّ نظراته عبر نافذة القطار، ويُهربّها بعيداً عنه في أحضان هذه الخضرة الرائعة.
تراوده أفكار وهواجس عديدة:
ـ لماذا يفرّ الناس في إجازاتهم إلى الصخب.. الشوارع المكتظة.. المحلات التي تبيع ((كل شيء)) الديسكو.. المقاهي؟!
في إحساس تمتعه: أن الإجازة تعني التأمل، والاسترخاء، والهدوء، والحوار مع النفس.
ـ صرخت نفسه من داخله بصوت ممثل كوميدي، ((يا عمي رووووح... كل شهور السنة في جدة وأنا مع نفسي: أحاصرها، ألطِّشها، ألعن سنسفيلها.. أحلم وتُفسد حلمي أشياء كثيرة مما يجري ويكون في يوم الإنسان وتعاملاته وممارساته))!
القطار توقف أمام محطة... غادره أناس، ودخل فيه أناس.
القطار... كأنه هذه الدنيا، لا يتوقف إلاّ عند محطة في زمن قصير، يُفتح بابه ويُغلق ليخرج البعض، ويدخل البعض الآخر... لذلك: شعر وهو يدخل القطار في المحطة الأولى: أنه يدخل إلى تابوت.
فجأة... لم يجد الرجل الذي كان يحتل المقعد المجاور له.. قال:
ـ ((لا بأس... إنه من المغادرين، النازلين، المفارقين)).
فجأة - أخرى - امتلأ المقعد بشيء عكس له المثل الشعبي: ((تبدَّلت غزلانها بقرود))... هذه المرة: تبدِّل قردها بغزالة!
ـ قال لنفسه: ((أيوه يا شيخ... حتى لا يكون الطريق مملاً!!
التفت إلى جارته الجديدة في المقعد المجاور:
ـ ((هاي.. هل تذهبين إلى باث))؟!
* ابتسمت له.. وقالت: ((هاي... هل تعرف باث))؟!
ـ قال: جئتها من عدة سنوات... أحب أن أضيع فيها لمدة يوم واحد))؟!
* قالت: تحب الضياع؟!
ـ قال: ((الضياع اللي بمزاجي... واللي أعود منه وقت ما أريد))!
* قالت: لا فرق... الضياع هو الضياع.
صمت... يفكر في موضوع آخر يواصل به حواره مع هذه البريطانية التي تبدو في الخامسة والعشرين، نحيلة القوام، متوسطة الطول، و..... شعرها شديد السواد.
ـ ((آ..... شعرها الأسود، أهو... موضوع نفتحه))!
* قال لها كالمستأنف لحكم صمتها عليه: ((هل يضايقك أن أسألك عن سواد شعرك برغم أنك شقراء))؟!
ـ ضحكت، وقالت له: ألم يخطر ببالك أنني أصبغه ليتحوّل إلى أسود؟!.. أشياء كثيرة في حياتنا صرنا نصبغها لنحولّها من لونها الأصلي إلى اللون الذي يرضينا أو يخدم مصلحتنا.
* قال: تدرسين الفلسفة؟!
ـ قالت: لا... أنا مهندسة ديكور، وحتى ترتاح.. أخبرك أن لون شعري أصلي، ولا تطلب تفاصيل أكثر.. لأنني سأنزل في هذه المحطة، وتمتع بوقتك في ((باث)).
ودّعها... وهمس: ((يا خسارة... كانت من الصاعدين، فصارت من الهابطين)).
هو.. سيهبط في المحطة القادمة ((باث)).
رحيل دائم... حتى في ما يظنه الإنسان استقراراً، فهو الاستقرار المؤقت، ولكنَّ الأشياء ترحل، والناس يرحلون، والشمس، والقمر، والزهور.
* * *
هذه ((باث))... يحمل لها في صدره ذكرى يتيمة لا يريد أن يبعثها من جديد.
ليست ذكرى مؤلمة... فقد ركض فيها، وقهقه، والتقط صوراً تذكارية.. ما لبث أن مزقها بعد ذلك حتى لا يتذكّر مَنْ شاركته الرحلة قبل عامين إلى ((باث))، ولم يكتشف أنها كانت من الطيور المهاجرة.. تحطُّ حيث الماء الغزير.
امرأة أخرى.. عبرت.
رحلة أخرى.. ستأتي.
وجوه... وجوه كثيرة: تمرُّ بنا باهتة، بدون أن يكون لها: موقف، ولا خفقة، ولا ذكرى.
إجازة... تبدو كما حقنة تخدير لآلامه، ولهمومه، ولمشكلاته.. يحاول فيها أن يتناسى صعوبات الحياة التي يعيشها حتى النقع... من أجل أن يحيا شهراً واحداً، ((ينقع)) فيه نفسه ليغسلها من توتُّرات عصره، ومن ملاحقات المشكلات له.
وفي كل إجازة... يعود، وقد تجمَّع هو في داخله، وتجدَّدت خلاياه وأوكاره.
دائماً... كان يترك على كرسي الطائرة التي تعود به إلى رطوبة ((جدة)): صورة تذكارية جديدة... كأنَّ كرسيّ الطائرة يمثل بالنسبة له: ألبوم صور آخر، غير هذا الذي يحتفظ به في دولاب مكتبته المقفل!!
وانطلق إلى نفس الأماكن في ((باث)): المبنى التاريخي الضخم، بحمامَّه الذي مازالت مياهه التي تميل إلى الخضرة: ساخنة تنفث دخاناً.. وأمام ذلك المبنى: المقهى/ المطعم المعتاد، وقد تناثرت طاولاته أمام مدخليْه لتحتل نصف الشارع.
هناك... ((اصطاد)) طاولة رأى ثلاثة يتركونها، ورمى نفسه على الكرسي، وفتح حقيبته وأخرج ((الكاميرا))... لعل عدستها تلتقط وجهاً لا يكون غريباً بعد ذلك!!
* * *
(2)
أمضى ((زياد)) نهاره كله في ((باث)).. رفيقته: الكاميرا وحدها، ورغبته في الانطلاق.. أي يتحول إلى مياه نافورة: يتبعثر، يدهش، يتأمل، يستريح، يتعب، يجري، يصعد، يهبط.
شيء ما قد حدث فيه.. لا يعرف كنهه!
هل انتحر ذلك الشيء في أعماقه... وما هو؟!
ربما كان الملل، أو الفراغ، أو... ذلك العشق ((الطارئ)) الذي اقتحمه بنظرات ((مشاعر)) التي تسدد إلى عينيه وعمق قلبه!
أسدل الليل ستائر ظلمته على الكون.. لم يعد ((زياد)) يرى الحقول والخضرة من نافذة القطار، بل صارت وجوه من حوله تنعكس على زجاج النافذة.. والقطار ينهب الأرض، والخواطر تنهب نفس ((زياد)):
ـ تراها قد اتصلت به؟!
لا... لم ينتحر عشقه الطارئ في قلبه... مازالت المليحة ((تنغبش)) في صدره.
هذا عشق ديكتاتوري.. فرض حكمه على ((زياد)) بلا انتخاب، ولا ديمقراطية.. تماماً مثلما يجري في أنحاء كثيرة من هذا العالم: الأحزاب هي التي تسيطر على قرارات الشعوب.
ـ زجر نفسه: ((بس خلاص.. خلينا رايقين، منتعشين بالتاريخ القديم، وآيسكريم باث))!
لا بد من العودة إلى ((ميتو مشاعر)) على وزن عنوان الرواية العالمية: ((العودة إلى ميتو شالح)) للكاتب الساخر ((جورج برنارد شو))!!
وكيف يعود إليها... إلاّ بواسطة خياله، وحلمه؟!
توقف القطار... هذه المرة: لا أحد يصعد، الكل يهبط.. المحطة الأخيرة لركض هذا اليوم.
حمل ((زياد)) حقيبته الصغيرة، علَّقها على كتفه، وأشار إلى التاكسي.
كانت سماء لندن ممطرة... يسميه: ((المطر الغاضب))، فهو يتدفق بغزارة شديدة، والبرق ما يلبث أن يضيء السماء والأرض وجدران العمائر الشاهقة السوداء.
ـ قال زياد: أما هذه الليلة المرعدة، الممطرة، المبرقة... اللهم اجعله خيراً!.
دوى صوت الرعد عنيفاً.. حين كان ((زياد)) يهبط من ((التاكسي))، ويهرب مسرعاً إلى بهو الفندق.
تلك الليلة.. استقبلته لندن بالرعود والصواعق... ربنا يستر.
في بهو الفندق... لفت انتباهه تجمُّع كثير من العرب أمام جهاز التلفاز.
اقترب متوجساً، ومازال يردد: ربنا يستر، وعلا صوته يسأل:
ـ ((فيه إيه يا جماعة... خير إن شاء الله، هل هو خبر فرح عربي))؟!
* تسلّقت جسد زياد: نظرات واحد من المتحلقين حول التلفاز، حتى بلغت عينيه.. وقال له كأنه يخاطبه من كرشه المتورم أمامه بشكل ملحوظ:
ـ ((هُوّا فيه خير بعد الآن في وطننا العربي التعيس))؟!
* استطرد شخص آخر يرتدي الثوب والعقال، فقال:
ـ ((مصيبة يا أخي.. صدام حسين اجتاح الكويت))!
* في ذهول زياد.. تصاعد صوته: ((ول.. ول.. متى حدث ذلك))؟!
ـ وقف بجانبه طفل في العاشرة يرتدي إلى الـ ((تيشيرت)) وقال له:
ـ ((من الصباح عمو... والله من الصباح)).
* قال زياد: ((وأنتم من الصباح رابضون أمام التلفاز تتفرجون فقط كأنها مباراة كرة قدم))؟!
ـ قال صاحب الكرش: ((وماذا تريدنا نفعل... فعلها اللعين)).
قال لابس الثوب والعقال: ((الله وكيلك... لم يرسل جيشاً، بل وحوشاً)).
ركض ((زياد)) إلى المصعد، ورمى حقيبته المعلقة على كتفه فوق الأرض وكأنه رمى معها كتفه، وعقله.. وبادر إلى التلفاز يفتحه على القنوات البريطانية وبعض الأوربية.
لغط شديد في الأخبار، والتعليقات، وأخبار مزعجة عن حشود على وطنه، والتهديد بإرسال صواريخ إلى الرياض العاصمة.
أمسك بسماعة الهاتف، وطلب أخته في جدة:
ـ اختلط صوت أخته الفزع بصوته: ((انت فين يا زياد.. تعال يا خويا، الموت مع الجماعة رحمة.. والاّ أقولّك لا تجي)).
* اسمعي يا أختي.. من فضلك خلِّيني أتكلم، إنتم طيبين))؟!
ـ ((طيبين يا زياد.. طيبين حتى الآن، لكنَّ المجرم صدام بدأ يهدد بإرسال صواريخ للرياض، كلَّمت بنت خالي في الرياض.. إطمئن)).
* ((طيب... أشوف لو لقيت مقعد على رحلة بكره)).
ـ ((يا خويا خليك حتى يضرب جيشنا هادا الكلب المسعور.. أخذ الكويت كلها، الله لا يبارك فيه)).
لندن... ازدادت كآبة على كآبتها.
أزاح ستارة نافذة غرفته.. توقف المطر كالعادة، يزخ بغزارة ويتوقف.
الشوارع لامعة.. تنعكس على إسفلتها أضواء السيارات، وخيّل إليه: أن الناس لزموا بيوتهم لمتابعة هذا الحدث الجلل.
ولكن... ماذا يهم الإنجليز في ضرب العربي لأخيه العربي.. ألا يتفق ذلك مع شعار سياستهم التليد: فرّق تسد؟!
الموقف يختلف هنا... الخليج مصدر البترول/ الثروة.
طلب مكتب الخطوط بالهاتف.. لا أحد يرد.
ـ قال: ((الصباح رباح... السهرة الليلة أمام التلفاز لمتابعة آخر حماقات وجنون ديكتاتور مغرور)).
أفزعه رنين هاتفه المصاب بالخرس من وقت طويل.
رفع السماعة:((آلو... مين، مشاعر))؟!
ـ نعم يا زياد... بلدي راح يا زياد، راحوا.. أهلي، عشيرتي.
* ((صلي على النبي... ليه بلدك عزبة؟!.. دا وطن، ومهم كمان.. لا تظني أن العالم سيبقى متفرجاً، مصالحهم عندكم وعندنا)).
ـ ((خالي وأهله هناك... هو بمثابة أبُو لنا، أبونا مات من عامين)).
* ((هوّني على نفسك... المصيبة تبدأ كبيرة، ثم تصغر، وتصغر، حتى تتلاشى)).
ـ ((أية تلاشي يا زياد... الكويت راح، راح)).
صراخ، جنون، حماقة، خوف ورعب، حزن غامر، فجيعة وارتطام.
لا يدري ((زياد)) ماذا يقول لمن عشقها في تلك الليلة: ((مشاعر)).. لا يدري ماذا يقول لنفسه ووطنه مهدد بحماقات هذا الديكتاتور.. لا يدري ماذا يفعل، بماذا ينصحها تفعل ليفعل هو... فَهُم شركاء الآن في المحنة؟!
حيرة، قلق ينزف كالجرح.
كل الأبواب والنوافذ تُغلق أمامه.. يشعر باختناق.
أمسك سماعة الهاتف ليطلب ((مشاعر)).
وضعها ثانية.. تذكر أنها حجبت عنه رقمها، واكتفت هي بالحصول على رقمه.
حيرة... خوف كأنه الموت.
لا جديد في أخبار محطات التلفاز.
سأم.. كأنه اليأس البشع في وحدته هذه.
رنَّ جرس الهاتف.. التقط السماعة، سقطت منه، رفعها:
ـ ((آلو.. أشكرك انك اتصلت، كنت في حيرة وخوف عليك... أريد أن نتحدث معاً، ولا أعرف رقم تليفونك)).
* ((اسمع زياد... سأمرّ بك في الفندق، فكَّر أين نذهب أشعر باختناق يقتلني.. نصف ساعة وأكون أمام باب الفندق، انتظرني من فضلك)).
الآن... لا شيء له طعم ومذاق، حتى الحب.
ها هي ((مشاعر)) تطلب منه أن يلتقيا.
ها هو.. تكبر مشاعره بحجم الوطن... لا شيء قبل الوطن ولا بعده.
ـ (يا سيدي الوطن... حفظك الله من الحاقد، والطامع، والمفسد.
يا سيدي الوطن... عشت عمري فيك: أقبِّل كل ذرَّة من ترابك.. أنت أكبر من دموع خوفنا، ورجفة أضلعنا، وعجزنا وقلة حيلتنا... عشقنا لك يسري مع الدم في الوريد، نحيا بحياتك، ولن تموت.. لأننا نموت دفاعاً عنك).
طفرت دمعة حزينة من حدقتيّ عينيه، لم يحاول مسحها، فهي شاهد عصر يُروِّج لنذالة الضعفاء مهما بلغ جبروتهم.
قام وتوضّأ... واستقبل القبلة حسب ما قدرَّه من جهة نحوها، وصلى ركعتين.
ارتدى ملابسه، وهبط إلى بهو الفندق.
مازال التجمع العربي أمام التلفاز... ناداه صاحب الكرش:
ـ أخُو... بيّض الله وجه أميركا.
* حدّق في وجهه، وبعد صمت قال له: وقبل ذلك.. بيّض الله وجه المملكة، تلقت في صدرها عنفوان هجوم صدام الحاقد بعد اجتياحه للكويت، وردَّت على هجومه بلا تردد... فلا يمكن أن يدخل أصبع قدم إلى أرضنا.
لم ينتظر التعليق.. وقف ينتظر ((مشاعر)) ما بين بوابتي الفندق الزجاجتين متوتراً، جريحاً كصقر.
وقفت عربتها المرسيدس، وركض إليها، وغاب داخلها.. وانطلقت بهما العربة.
لأول مرة يجلس بجانبها، لا... بل بقربها.
مدّت يدها تصافحه، احتضن كفه كفها، وقبَّله.
شاهد الدموع تنساب من عمق بحيرتي عسل عينيها.
أخرج منديله، وأخذ يمسح دموعها على وجنتيها.. وهي مستسلمة له، تمعن النظر في وجهه، وعينيه.
ـ قالت: أشكرك زياد... ما كنت أعرف أنك تفيض بهذا الحنان.
* قال: لا تشكريني... فعندي دموع مثل دموعك تحتاج إلى أصابعك بلا منديل لتجفيفها.
كانت الدموع تجول في عينيه.. وصوته يجهش بشيء كالبكاء، لكنه أكبر من هذا البكاء.. في حجم الطعنة والفجيعة.
ـ قال لها من خلال حشرجة صوته: ما كنت أتوقع هذا اليوم الذي تتجسد فيه: فجيعة عربي في عربي!
ضغطت على يده.. وهمست: إلى أين نذهب؟!
ـ قال: الحزن، والغضب، والفجيعة.. تجمعوا في معدتي الآن، عندما أزعل تبدأ شراهتي للأكل!!
استطرد يقول لها: اضحكي... والله ستعود الكويت، كثير في العالم لن يسمحوا لصدام الخمّام أن يفرد عضلات حقده.. الآن اختاري لنا مطعماً يسد غائلة الجوع، وإلا أقول أنا؟!... إلى السماء الزرقاء!!
* * *
(3)
تلك الليلة: الشبح البغيض الذي تضخَّم فيه فساد حلم الوحدة العربية بعدوان ((صدام العراق)) على جاره.
تلك الليلة: ترتدي وشاح الحقد الأسود... وقد انحسرت عنها الأضواء في الشارع العربي، وتكثَّفت الدموع في العيون العربية: حزناً على تمزق عربي جديد.. لكنه يأتي هذه المرة أكثر خطورة مما سبقه من التمزقات.
لقد نال التمزق من وشائج الدم وأواصر القربى بين العربي والعربي.
استطاع جنون ((صدام)) أن يحدث الانقسام فيما يسمونه: الشارع العربي... بل هو: الوجدان العربي، بما ينذر بنسف تلك الوشائج والأواصر.
ـ قالت مشاعر لزياد في المطعم: أعتذر لك عن هذا التوقيت السيء الذي اضطررت فيه أن أدعوك للعشاء أو تدعوني أنت.
* قال محاولاً أن يسري عنها: لا.. أنا الداعي، هل نسيت أننا عرب، ليس بيننا نساء تدفع، الرجل هو الذي يدفع.... بالتي هي أحسن!
افتر ثغرها عن نصف ابتسامة، ولكنها بدت أمام ((زياد)) مثل تمثال مدام ((توسو)) في متحف الشمع، تنبض بجهاز من داخلها.. أو أن قلبها تحول إلى جهاز يضخ الدم فقط.
ـ قالت له: مازلت مُصرًّا على عرض الزواج؟!
* فغر فاهه.. ربما دهشة، أو خوفاً.. وقال لها: أرجوك لنؤجل الحوار عن هذا الموضوع بالذات إلى وقت آخر.
ـ قالت: هل غيّرت رأيك بهذه السرعة؟!
* قال: بالعكس... زدت تشبُّثاً بك، ولكن... ليس في هذه الليلة.
ـ قالت: بل في هذه الليلة... هي ليلة المآسي والنكبات، ودعني لا أجزِّيء لك الألم، أو كما تقول: الفجيعة.......
* قاطعها: من فضلك... لا تتكلمي، وصلت رسالتك.
ـ قالت: لا... لم تصلك بعد، ولا تفهمها خطأ.. إنني لا أرفضك يا زياد.
صمتت قليلاً كأنه الوجوم.. و((زياد)) تصطكّ ساقاه تحت الطاولة، ويزداد وجيب قلبه.
ـ استطردت تقول: كان من المفروض أن أدخل المستشفى بعد أسبوعين لإجراء عملية في صدري... سيجتزون ثديي الأيمن لأنه......
صرخ، بكى.. اندفع بكل شعوره المجنون يلقي رأسه على صدرها أمام الناس في المطعم دون أن يعي، وهو يجهش قائلاً:
ـ أرجوك... لا تكملي، أعرف حظي.
* غطت يدها شعر رأسه وأصابعها تتخلل سواده، دون أن يحفلا بكل زبائن المطعم، وهمست:
ـ ليس حظك يا زياد... بل قدري، الأطباء أكدوا لي أن الشفاء التام من هذا المرض اللعين كصدام الآن في الكويت، سيتم بعد العملية... أنا التي أرجوك: لا تحزن، لا تلعن حظك.. ألست حظك فكيف تلعنني؟!
* رفع رأسه من عمق صدرها، ودموعه تنساب.. همس: ألعن نفسي... ولن أرضى بغيرك أنثى بديلة، رفيقة لحياتي... معك أيتها المليحة سيستمر الحلم متوهجاً، مشتعلاً بالأمل.
تلك الليلة... ما تفاوتت فيها الأشياء، وإنما تجمّعت، وتمازجت، وتآلفت.
فهل الحزن: هو الأقدر على هذا التجمع، والتمازج، والتآلف؟!
هل الخوف من المصير: يوحِّد المشاعر، ويُقرّب الأبعدين؟!
كانت العبارة: عبارة ((مشاعر)) التي اختلطت بلمعان دموعها في ليل لندن المغسول بالمطر. وكانت كلمات ((زياد)): سطراً احتشدت فيه معاني الانصهار والذوب.. تلك التي تكوّنت من أنفاسهما، ونبضهما، و... رجفتهما.
كأن أجراس الخوف والوحدة القاتلة.. يتعاقب رنينها في ليلة غاب عنها الهمس، وضاع صدى أمواج النفس، وآمن الصمت بينهما بالترقب المتعاقب!
ـ قالت مشاعر: لنذهب.. فقد تأخر بنا الليل، سنذهب في الصباح إلى السفارة لنجتمع، لنتكلم، لنصرخ معاً.
* قال زياد: سألحق بك في الصباح إلى سفارتكم.. كلنا في الهم شرق.
ـ سألته: ألا تنوي السفر، والحجز في الغد على الرحلة القادمة؟!
* أجابها: مازلت أفكر... هل أتركك هنا وحدك؟!
ـ قالت: وأهلك... أنت لم تحدثني عن عائلتك ومجتمعك الأسري، مثلما أنني لم أحدثك... سرقنا الهم والفجيعة.
حملتهما السيارة إلى داخل لندن... زياد تولى قيادة سيارتها.. هي لا تستطيع، فالدموع في عينيها أكثر من الرؤية، والأشياء.. والكويت وطنها يملأ كل عينيها وأرجاء قلبها الموجوع بمحنته.
اخترق صوت ((زياد)) صمتهما المؤلم.. في محاولة منه لامتصاص معاناة ((مشاعر)).
ـ قال لها: صحيح... من أنت كلك، ما هي حكايتك؟!
* سرى صوتها موهناً: الآن... من حقك أن تعرف، ومن حقي عليك أن تحكي.
صمت قليلاً.. إلى أن قالت: أنا من عائلة كبيرة موسرة، من جدي إلى أبي.. والتجارة الناجحة المتطورة: رزقنا، وسعة مستوانا المعيشي.. عرق الجهد والكفاح في أسرتنا: ((وايد))/ واجد.... ومع ذلك العرق كانت أبواب الثروة تُفتح واحداً وراء آخر.
أمي التي رأيتني معها في المطعم.. امرأة عاصرت عرق ذلك الجهد والكفاح مع أبي، واحتملت أسفار التاجر الكثيرة أو المتلاحقة.
كان جدي في البدء: نوخذه.. صارع البحر حتى أضناه، واتجه إلى الهند.. ومن هناك بدأت تجارته.. جذور عائلتي تنبع من عمق الجزيرة العربية، وهكذا نشأ أبي في مناخ التجارة.. علمه جدي، ودفعه إلى التجارب، إلى الخسارة والربح.
وحين بلغت الخامسة والعشرين.. أعادني أبي من أميركا حيث كنت أدرس وأقيم أكثر شهور العام، و.... أبلغني خبره الصاعقة: لا بد أن أتزوج ابن عمي!
وجدت عندي جرأة الفتاة المتعلمة، المتخصصة في الاقتصاد والإدارة.. التي قالت لأبي: لا... آسفة لا أريد ابن عمي.. لكنَّ أبي أصرّ، ويومها قلت لكل أسرتي: لم نعد في ذلك المجتمع القبلي المغلق، وابن عمي أتعامل معه كأخي تماماً، بالإضافة إلى أنه لم يكمل تعليمه الجامعي.. فكيف نتفاهم، وتتوافق آراؤنا؟!
وذهب رفضي وصراخي أدراج الرياح... ودفعني أبي بديكتاتورية الأبوَّة القبلية إلى حضن ابن عمي قسراً.
احتملت العيش معه عاماً كاملاً رضوخاً لأمر أبي، وحرصاً مني على عدم إغضابه.
في سن السادسة والعشرين.. فقدت أبي فجأة، مات أبي حينما كان نائماً في فراشه، سكتة قلبية.. ووجدت أن السبب الذي من أجله احتملت الزواج عاماً كاملاً من شخص لا أحس به زوجاً.. كان سبباً لاغياً، فطلبت الطلاق، واستجاب ابن عمي فوراً، واعتبرته رجلاً بحق.. طالما أنه تأكد من رفضي له زوجاً.. خاصة بعد أن قلت له إثر تشييع جنازة أبي:
ـ إسمع... لنفترق بإحسان بعد أن تعاملنا - على مضض - بمعروف.. صدقني أنت ستبقى لي بمثابة الأخ.
* سألني يومها: إذن صارحيني كأخ بالفعل.. هل في حياتك رجل آخر؟!
ـ أجبته: يستحيل أن يكون في حياتي رجل آخر، وأنت زوجي.. هكذا أدَّبني ديني، وشذّبتني تربية أهلي لي.
ليس لي إخوان أولاد.. هي أخت واحدة فقط التي رأيتها معي في المطعم.. وهذه هي كل أسرتنا، ونحب خالنا جداً.. فهو الذي وقف معنا وساعدنا بعد وفاة أبي.. وهو الذي شد من أزري وعضدي، ووضع في عزيمتي القدرة لأتسلم إدارة شركات أبي، حتى صرت: حاذقة، بنت سوق كما يقولون، شاطرة في التجارة.. ونجحت ولله الحمد في القيادة.. لم يهبط مستوى الربح، بل ازداد.
وهاأنذا... امرأة مطلقة، يتيمة الأب، مديرة شركات قد الدنيا.. في الثلاثين من عمري، و....... بس!!
ساد صمت... بل سكون، حتى قالت ((مشاعر)) مندهشة:
ـ زياد... ويش فيك يا عمري.. وين ها السرحان؟!
* قال بذهول: أنتِ.... كل هذا الذي رويته لي؟!
ـ قالت بدهشة: نعم.. أنا كل هذا، وكل هذه وهاذوكا... خير يا طير؟!
* قال: أنا.... أنا.... أنا شاب بسيط، موظف أعيش على راتبي فقط.. بعد أن أقتطع منه: قيمة الكهرباء التي تضاعفت، والماء، وبنزين السيارة، وقيمة السندويتش الليلي.. وأملك ((فُليْلة محندقة على قد لحافي)).
فقدت أبي في سن مبكرة: سني وسنه، فقد زوجوهما - هو وأمي - في سن صغيرة... لكنه مات، هكذا.. عمره خلص، أو هكذا فلسفوها دون أن يهتموا بأمراض خبيثة!!
أمي فقدتها بعد أن أصرت - مثل أبيك - على تزويجي بمزاجها أو باختيارها.
ـ قاطعته مشاعر: ها....... إنت متزوج؟!
* التفت إليها مبتسماً ويداه تتشبثان بمقود السيارة: أصبري.. بلا لقافه، هل تعتقدي أنني سأزيد واحداً في نسبة الرجال الذين يسميهم نساءهم: خونة؟!
استهدي بالله، واسمعي: مثلك عشت مع زوجتي ((نقاوة أمي)) عاماً كاملاً.. حتى اقتنعت أمي قبلي أنا بتنفيذ الحكم الإسلامي الجميل: ((عاشروهن بمعروف، أو فارقوهن بإحسان))... وكان الإحسان في النهاية، وبقيت عاماً آخر.. فقدت في قفلته أمي الحبيبة التي كانت هي كل شيء في حياتي، أو هي كل حياتي الجميلة والسعيدة والحزينة.. ودخلت إلى عقد الأربعينات.
((أمتلك... ها: أختاً بالرضاع، ولا تسأليني: مين رضّع مين، مثل هذه اللخبطة المؤذية كانت منتشرة في جيل أمي))... وهي أخت تخاف عليّ، هاتفتها البارحة، وكانت تبكي.
ليس عندي أعمام، بل عندي عمة واحدة... يبدو أن أبي رحمه الله، كان ((فاصوخة)) جدي!
أخوالي ثلاثة: مات منهم واحد قبل سنوات، وتبقَّى اثنان.. كنت أصر على مواصلتهما، وزيارتهما، والسؤال عنهما.. وباعدت بيننا المسافات ومشاغل الحياة: الأول يعيش في الظهران، وعلمت أنه كان يأتي إلى جدة ولا يزورني، بل ولا يهاتفني.. والآخر رجل أعمال أبر من الدنيا، يبدو أنه ليس لديه وقت ليسأل عن ابن أخته الموظف الكحيان!!
وصلنا فندقي... خذي مقود السيارة، وأراك غداً في سفارتكم.
* * *
(4)
لم يجد في بهو الفندق أحداً.. طارت الطيور بأرزاقها.
التلفاز مقفل، وعمال التنظيف يؤدون مهمتهم.. سأل موظف الاستعلامات وهو يسترجع مفتاح غرفته:
ـ ((فين الربع.. كانوا هنا يتحلّقون أمام التلفاز لمتابعة الأخبار))؟!
* ((أجابه الموظف: خرجوا مثل كل ليلة.. يسهرون ويعودون بعد الثانية صباحاً.
قلَّب المفتاح في يده وهو يهمس: ((يحيا الوطن))!
في الصباح سيطلب أخته وعمته ليطمئن عليهما.. ما تبقى من محطات تلفازية لا جديد فيه من الأخبار.
رمى جسده على السرير العريض جداً.. وهو يهمس:
ـ تلك الليلة... هذه الليلة: اختلط الفرح بالألم.. الأمل بالخوف.. الحب بالحقد!
لا يدري.. كيف يفلسفها، ولا بماذا يعنونها.. شيء كالأحلام التي تتخللها كوابيس مفزعة.
((مشاعر)): هي الأحلام... وعدوان صدام على الكويت وعلى وطنه: هي الكوابيس.
مَنْ يُصدّق أن عربياً يعتدي على جاره العربي، أو يطمع في ثروة أرضه؟!
هل هي عودة إلى البدائية، وحرب البسوس، وإغارة القبائل بعضها على البعض الآخر... ومتى.. في نهاية القرن العشرين الحضاري، والهبوط فوق سطح القمر.. وفي عصر تفجير المعلومات، والخدمات الفضائية، والتكنلوجيا؟!
خبط ((زياد)) رأسه على حافة السرير دون أن يحس.. آلمه فوضع كلتا يديه على هذا الرأس المثقل بالأفكار، وبالأسئلة الجارحة لتاريخ أهله العرب، وبالصور التي يتخيلها من حصيلة الحرب التي يهدد فيها ((صدام)) باستخدام القنابل الجرثومية، وما يسمونها قنابل الخردل!
هذا المجنون.. ماذا يفعل بأهله العرب؟!
يشغلهم عن قضايا الوطن العربي الكبير.. عن خطط التنمية لأقطارهم وشعوبهم.. ويتسبب الآن في إهدار ثروة الأرض: ميزانية السلاح، وتكلفة للحرب الظالمة.
ـ همس: حقاً... هل نحن في ثمالة القرن العشرين.. أم في ثمالة العقل العربي، والحصافة العربية؟!
انتاب ((زياد)) حزن لا يحتمله الآن وهو وحده في غرفة فندق الغربة.
شعر أن أمعاءه تتقلص.. تتلوى في داخله، هكذا هو عندما يفتك به الزعل والغضب.
ـ قال: الخطورة ليست في هذه الحرب التي سينعكس تأثيرها على خطط التنمية.. بل في آثارها النفسية بعد ذلك.. وفي هذا الانقسام العربي الذي دبّر له ((صدام))، فإذا الإعلام العربي يتبادل الشتائم ضد نفسه!
رنّ جرس الهاتف.. سمع صوت ((مشاعر)):
ـ ألم تنم بعد؟!
* أنام؟!... وهل أبقى، صدام في عيوننا، وصدورنا، وعقولنا: راحة.... وأنت؟!
ـ حاولت الاتصال بخالي في الكويت... يبدو أن الخطوط نسفت في الحرب.. قلقة يا زياد.. على الكويت، وعلى أهلي.... وأنت؟!
* فكّرتُ أن أتصل بأختي وعمتي في الطائف.. الوقت متأخر، سأطمئن عليهما في الصباح.. هل سمعت أخباراً جديدة؟!
ـ نعم... أميركا ستضرب هذا الكلب، وبلدك حييه.. يتلقى حقد صدام مع الكويت وفتح ذراعيه لاحتضان كل أبناء الكويت الذين نجحوا في التسلل من جهنم صدام.
* كلنا إخوة.. ووطن واحد، هذا يوم امتزاج الدم.. لا تخافي، سيندحر الطاغية.
ـ ماذا ستفعل غداً.... عفواً: اليوم، فقد بلغت الساعة الرابعة صباحاً؟!
* سأذهب إلى سفارتنا أولاً، ومن بعدها إلى الخطوط لأحجز في أقرب رحلة.. ثم أوافيك في سفارة الكويت/ بلدك.
ـ إسمع... لو شقَّ عليك الأمر، فلا تكلف نفسك.. المهم أن تخبرني بما ستفعل، ألا تأخذ مني رقم هاتفي؟!
لم ينم ((زياد))... ظل يتقلب فوق سريره، كأنه سرير فقير هندي مغطى بالمسامير.
لم يشق نور النهار كبد السماء... لكنَّ خيوط الفجر أخذت تتسلل من بين قطع السحب الكثيفة.
ـ قال: الله يستر مع المطر.
يعشق المطر، والشتاء... ربما لأنه يعاني طوال السنة من الحرارة والرطوبة، وشح الأمطار في جدة.
لكنه هذه المرة.. لا يميل إلى المطر، لا يتمنى هطولها.
ضغط على زر التلفاز.. يتنقل من محطة إلى أخرى.
محطة الـ (CNN) على الهواء منذ اندلاع جنون صدام.. أمريكا ضربته، وهو كان يريد ضرب منابع البترول في المنطقة الشرقية من المملكة.. وجّه صواريخه إلى هناك، ثم إلى العاصمة الرياض.
صواريخ ((باتريوت)) المضادة لصواريخ صدام: تصطاده في الجو.
لقطة مصورة شاهدها على الشاشة: الناس في شوارع الرياض يتكلمون عن هذا الـ ((باتريوت)) بإعجاب.
في الليلة الثالثة: صعد الناس إلى أسطح المنازل لمشاهدة انطلاقة الـ ((باتريوت)) بأضوائه، ثم وهو يرتطم بصاروخ صدام المعتدي ويفجره.
حطام صاروخ في أرض بجانب مبنى الجوازات الذي هدّم الصاروخ أجزاءً منه... والناس يتواجدون هناك.
يتغير المشهد مع خبر آخر: الصورة من الكويت.. جنود المعتدي ودباباته تدمر كل شيء.. لقطات للخراب.
ـ قال زياد: عجيب.. كيف التقطوا هذه المشاهد؟!... الأقمار الصناعية، طائرات الأواكس.
غمر النوم عينيّ ((زياد)).. أغفى والتلفاز مفتوح.
ساعة، ثلاث ساعات... هب من نومه مفزوعاً كأنه كان يشاهد حلماً مزعجاً.
ـ همس: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
تمتع بحمام دافئ، وارتدى ملابسه على عجل، وهبط إلى بهو الفندق: سكوت، وحشة، لا أحد... مازالوا نائمين.
أوقف التاكسي في طريقه إلى السفارة.
شق طريقه في زحام الناس من أهل بلده المتواجدين في لندن.. لغط، أصوات تتبادل. الأخبار المفزعة والمفرحة.
بعد لحظات.. خرج عليهم السفير في قاعة كبيرة جمّعوهم بداخلها.. طمأنهم، وأبدى كل مساعدة يريدها مواطن يزور بريطانيا الآن.. لخّص لهم واقع الحال.
ـ سأل بصوت مرتفع: هل نستطيع أن نعود إلى وطننا.. أقصد: هل المطارات مفتوحة؟!
* رد المسؤول: طبعاً.. تستطيع العودة، لا شيء يمنعنا عن ممارسة حياتنا الطبيعية في بلد الأمن والأمان... وهذا العدوان إنما هو اختبار لصمودنا... الله معنا.
خرج ((زياد)) من السفارة إلى مكتب الخطوط.. نفس الزحام، لا..... بل أكثر مما شاهده في السفارة، والتعليقات التي سمعها أكثر مبالغة.
وقف في الطابور.. والوقت يمرّ بطيئاً، ولم يصل إلى ((كاونتر)) موظف الحجز.
انسلّ من الطابور.. وفي رؤيته ورؤاه: وجه ((مشاعر))، دموعها، بكاؤها.
استقل سيارة أجرة إلى السفارة الكويتية.
خاض زحاماً آخر.. عيناه في أعلى رأسه، ونظراته مبعثرة يحاول بها اصطياد وجه ((مشاعر)).
نظر إلى ساعة يده: الرابعة بعد الظهر.
ـ قال: لا بأس.. من ساعة أخرى.
فجأة.. حطت يد رقيقة على كتفه، وصوت ((مشاعر)) الحافل بالشجن يقول من وراء ظهره:
ـ كنت أبحث عنك.. قدَّرت أنك ستنتهي من مشاويرك في هذا الوقت.
* قال: منذ ساعة ونصف وصلت، وبحثت عنك.... ها، ما هي الأخبار؟!
ـ قالت: شُكِّلت لجان عدة للإعلام، ولبحث حالة الأسر الموجودة في بريطانيا.. الدموع بلا حدود، والخوف يضج في الصدور، وأنت..... هل وجدت حجزاً؟!
* قال: طابور طويل... فاض صدري وهربت، غداً إن شاء الله من الصباح الباكر أداوم أمام مكتب الخطوط.
ـ قالت: هل أنت مضطر للعودة؟!
* قال: لا... تبقَّى من إجازتي أيام تقارب نصف الشهر.
ـ قالت: وتتركني في هذا الحال؟!
كأنها تترك رسالة من وجدانها إلى قلبه: أريدك.
* قال لها: متى يحين موعد عمليتك؟
كأنه أيقظها من غفوة.. وتدفق حزن اختلط بلونها القمحي، قالت له:
ـ أية عملية الآن يا زياد؟!.. وطني يُذبح.. هو في غرفة عمليات القسوة يحاولون أن يسرقوا منه القلب، والنظر، والنبض.
* قال: وطنك لن يموت.. الأوطان تبقى إذا ما استمرت شعوبها في الكفاح لتحريرها، والتاريخ مليء بالأمثلة والمواقف.. أنت يا ((مشاعر)) لا بد أن تبقي لوطنك.. فالأوطان بدون إنسانها: يباب.. ولا بد أن تجري العملية في موعدها.
كانت تضع ساعديها على صدرها.. أمسك بهما وهو يقول مبتسماً:
ـ لنفض اشتباك القلق والحيرة.. هات يدك في يدي، هل أراك هذا المساء؟!
تشبَّع وجه ((زياد)) بنظرة طويلة عميقة من عينيها.. وخيِّل إليه أن ((مشاعر)) تحاول كبح جماح دموعها التي تغرورق بها عيناها.
* قالت: سأكون في البيت، كلِّمني.
افترقت كفَّاهما في لحظة يزداد التحام خفقانهما معاً.
حمله التاكسي إلى الفندق: منهكاً بعد يوم صعب لن يحسبه من أيام الإجازة، إلاّ اللحظات التي ارتوت فيها نظراته من وجه المليحة... وكأنه في حلم غير متجانس ما بين السعادة، وبين الشقاء.. ما بين الخفقة وبين انقباض الصدر.
ـ سأل نفسه: هل أتركها وحدها... مَنْ لك هناك يا واد يا زياد؟!
أخته بالرضاعة.. مع زوجها وأولادها، وعمته في بيتها.
وطنه لن يضام... الحقد عابر لأنه يقتل نفسه.
ـ أراد أن يغفو قليلاً... لعله يكحل عينيه بوجه ((مشاعر)).. لكنها ساكنة في هاتين العينين، وتحت الجفنين أبداً.
* * *
(5)
ليلة أخرى في السفر... وطنه يتّقي صواريخ المعتدي بالتعامل معها حتى يفجرها في الجو.. ووطن المليحة يكاد يغرق في هوان احتلال ((صدام)) له، وتمزيقه من الداخل.
تلك الليلة... جاءت - أيضاً - مؤلمة، جُنَّ فيها تفكيره، ووهنت ملاحقاته الهاتفية للحبيبة((مشاعر)).
في اللحظة الأخيرة داخل سفارة بلدها.. طلبت منه أن لا يتعجل في سفره.. طلبت منه أيضاً أن يحادثها في الهاتف مساء.
هذا هو المساء.. وهاتفها لا يرد على ندائه:
ـ تراها إلى أين ذهبت.. هل مازالت في السفارة؟!
تلك الليلة... يسترجع ((زياد)) ثوانيها الآن، ومازال يُحدِّق في خلفية الصورة، ووجه ((مشاعر)) في ذلك المطعم: يبدو متموّهاً ما بين الظلال والأضواء.
إنه يتذكر الأحداث بكل تفاصيلها ودقائقها.. ساعة بساعة.. لحظة بلحظة.. همسة بهمسة.. ورغَد كف ((مشاعر)) في دفء كفِّه، وابتسامتها الحزينة كضوء شمعة.
شعر في تلك الليلة أن ((مشاعر)) تضيع منه... وهي التي أقامت جسر التواصل بينهما بعد صدودها الأوليّ عنه.
أعاد الاتصال الهاتفي بها، ربما للمرة العشرين.
أخيراً... استجاب الهاتف، ولكن... هذا ليس صوت المليحة، أصغي:
ـ أنا أمها يا ولدي.. مشاعر نائمة، تعبت في السفارة طوال اليوم وأحست بألم، وأوصى الطبيب لها بدواء تناولته ونامت.
شعر أنه جُنّ.. تردد أن يستأذن أمها في زيارتها، قال بعد صمت:
ـ ولكن.... هل هي بخير الآن؟!
قالت أمها: إدعي لها يا ولدي... الآن هي أفضل.
ـ قال بصوت يكاد يختنق بالعبرة: من فضلك.. لن أخرج من الفندق.. لو استيقظت، دعيها تتصل بنا.
طال به الليل كأنه دهر.. والهاتف أصابه الخرس، برغم أنه اتصل بأخته في جدة، وبعمته في الطائف للاطمئنان عليهما.
ـ قالت له أخته بالرضاع ساخرة: ((صدام اللعين لم يتعب.. هذه هي الوحدة العربية التي كان يخدع العرب بشعاراتها، و...... أمجاد يا عرب أمجاد))!!
قالت له عمته بفزع المرأة الضعيفة التي لم تنل قسطاً من التعليم: ((إلهي يهدُّه البعيد، ويوقِّف نموّه))!
ابتسم في لحظات الهمّ العصيبة.
بقي في غرفته قلقاً، حائراً.. يكاد يختنق في وحدته هذه، وبهواجسه المختلطة.
الساعة الآن شارفت على التاسعة مساء... هل يعيد الاتصال بالمليحة، فقط ليطمئن عليها؟!
لم يحتمل.. فاض صبره، وطلب رقم هاتفها.
هذه المرة.. ردت أختها، اعتذرت له بأنها مازالت نائمة.. ربما هو مفعول الدواء إلى الصباح.
فهم رسالة أختها المهذبة: ((لا تتصل))!
طلب من ((الروم سيرفس)) أنواعاً من المأكولات.. هكذا يفعل عندما يعاني من الزعل، أو القلق، أو الغضب: يأكل بشراهة، ثم.... ينام ((يتخمد))!
وفعل ذلك بسرعة: طلب الأكل، وانتظر إحضاره له أمام التلفاز، وصور وتقارير الـ (CNN)... وطنه صامد، بل مدافع قوي أمام جبروت حقد هذا المحتل الغازي: (الأخ والشقيق)!
ـ في تردّدات صوت أعماقه قال: ((انقلبت الدنيا.. أشياء كثيرة لا بد أن تتغير بعد انقشاع هذه الغمة.. أشياء أكثر تحتاج إلى تحجيم، وهناك أشياء سائبة لم نضع لها عناوين حتى الآن.. لا بد من وضع عناوين لها للتعرف عليها، والتعامل معها في هذه المتغيرات الدولية، والاقتصادية، والاجتماعية!
أكل... شبع... ونام ((مخموداً)) محبطاً كأنه في قاع بئر سحيق!
في الصباح - قبل أن يغسل وجهه - امتدت يده وهو مازال غارقاً في سريره، وطلب المليحة.
ـ جاءه صوت أمها بارداً جداً كصباح لندن.. قالت له: خرجت قبل قليل.
((سألها: هل ذهبت إلى السفارة؟!
ـ أجابته: يمكن... ولديها أشغال أخرى.
خرج من الفندق، وأوقف سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يأخذه إلى مكتب الخطوط.. شعر أن خطواته هذا الصباح تتحرك بآلية، أو أن تفكيره معطل، وتزدحم في رأسه آلاف الأسئلة.
خف الزحام داخل مكتب الخطوط الجوية.. أكد حجز عودته إلى جدة في اليوم التالي.
مهمة صعبة.. قام بها وتنفَّس الصعداء، ولا شيء يفعله بعدها.
عاد إلى الفندق.. ناوله موظف الاستقبال مفتاح غرفته، و.... رسالة!
قلَّب الرسالة بين يديه.. خط نسائي، لا أحد يكتب له هنا، فهل تكون الرسالة من ((مشاعر))، ولماذا.. ماذا فيها؟!
في غرفته.. فض مظروف الرسالة بيد مرتعشة، حريصاً على قراءة التوقيع قبل الرسالة:
((الصادقة معك/ مشاعر))!
اصطكت أضلعه في رجفة كأنها زلزال يخلع قلبه: ما الذي تريد أن تقوله.. وهل كانت مساء البارحة نائمة بحق؟!
انخرط جسمه داخل الكنبة، وأخذ يقرأ:
(الإنسان المميَّز في اعترازي به/ زياد:
صدقني.. إنها لحظة قاتلة بالنسبة لي، وأنا أعتزم كتابة هذه الرسالة لك.
أريدك - في البدء - أن لا تسمح لسوء الظن أن يتلبس أفكارك، ولا حكمك عليّ... فأنا لم أخدعك، ولم أكذب عليك، ولم أتصل بك في لحظة أسوداد الدنيا في وجهي لأتركك للتفكير، بعد أن أفيق، لا يا زياد.... أنا - حقاً - أحببتك.. أحببت: رجولتك.. أحببت: حنانك.. أحببت: مواقفك التي جسدت أمامي أفكارك الحصيفة.
نعم... أحببتك يا زياد، تدفَّقْتَ أمامي كنهر رقراق في شدة ظمئي.. انساب صوتك في سمعي: موسيقى رقرقت كل الأصوات النشاز من حولي... وحين احتضنت كفك كفي في عمق دفئها، شعرت أن الحياة صارت أجمل، وأنك الوحيد الذي يمكنني أن أمنحه: ألفتي، وسكني، وكل عمري.
مازلت أذكر تلك الليلة - لعلها اليتيمة - التي لم أحتج فيها رجلاً من قبل مثلما احتجتك فيها أنت وحدك.. وفي طريق عودتنا من المطعم: كنت ألخص لك حكاية عمري، وأفتح لك بوابات نفسي.. وامتدت يدك إلى شريط سألتني عن مضمونه: مَنْ يغني؟!.. فأجبتك: لا أحد يغني لي سوى ((عبد الكريم عبد القادر))، وقلت لي: أنتِ منقوعة في الحزن، وشامخة بالسمو!
أوه يا زياد... ماذا تظنني أقول لك الآن عن حزني؟!.. وطني، وحبي.. لا أريد أن أفقدكما، ولا أفقد أحداً منكما، ارتبطت أنت بفجيعة عقلي المنتمي إلى حضارة القرن العشرين في كل ما حدث لوطني.. وارتبطت أيضاً بهذا الأمان النفسي والعاطفي الذي سكبته أنت بين ضلوعي... حتى جنّ تفكيري بك وفيك، أردّد كالمهبولة: كيف أتخيّل أن أفقدك، أو....
أخرجك من حياتي عنوة، وبكل قسوة السيّاف الذي يقطع الرأس؟ !!!
نعم يا زياد - يا حبيبي - سأخرجك من حياتي عنوة.. سأقطع رأس قلبي قبل أن أقطع رأسك هذا الذي انزرع في عمق صدري.
أريدك.... والله أريدك، صدّقني.
ولكن... ظروفي تقف لك بالمرصاد، ظروفي الصحية أولاً وآخراً، وظروفي العائلية... البارحة قالت لي أمي عنك: زياد رجل بمعنى هذه الكلمة.. أنتِ وصفته لي، وحدثتني عن فروسيته، فلماذا تظلمينه معك؟!!
هل رأيت.. تحالفت أشياء أخرى أيضاً ضد قلبي وقلبك، أرجوك لا تسألني عنها الآن.. ((ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعد أن عزّ اللقاء)) وأحكي لك.. فإذا لم تجمعنا هذه الأقدار.. أرجوك - يا زياد - بحبنا: أن لا تظلمني، ولا تكرهني.. دعني في صدرك غرسة ذكرى لتلك الليلة الجميلة!
أرجوك... لا تسأل عني، لا تطرد ورائي... لا أريد أن يسقط تعبك في الخيبة.
الصادقة معك/ مشاعر)
سقطت الرسالة من يد ((زياد))، وافترشت بعض سطورها: دمعة سقطت هي الأخرى من عينيه، وقد جلّله السكون كالموت، وسرت في عروقه برودة لا تنتمي أبداً إلى برودة طقس لندن.
هل انتهت الحكاية للأبد؟!
هل سُرقت ((تلك الليلة)) من عمره للأبد أيضاً؟!
هل يستسلم لدافعها الغامض الذي لم تفصح عنه، ويوافقها على قرارها؟!
هل الدافع ينحصر في سرطان ثديها فقط، وهي ستجري عملية لاستئصاله.. أم هناك ثدي آخر في حياتها؟!
تعددت أسئلته البادئة بكلمة: ((هل))... دون أن يجد إجابة على ((هل)) واحدة.
يده تمتد إلى الهاتف وتنحسر كالمد والجزر: هل يتصل بها.. هل تكلمه؟!
رنين هاتفها مستمر، ولا أحد يجيب.
بقيت يده ممدودة إلى الفراغ، معلقة في الفضاء.. ونظراته تفرُّ من عينيه، كأنها تكسر زجاج النافذة، وتختلط بسحب سماء لندن، وتصطدم بجدران أبنيتها العالية السوداء... ثم تسقط هامدة في عمق التايمز!
زنَّره الخوف حتى هزَّته في كل أرجاء جسده.. جالس على الكنبة بهذا الجسد، لكنه مسجَّى القلب، والعقل، والنفس.. مميزاته تكاد تموت أمام ذهوله وفي عمق شروده.
هنا... اختلطت الحقيقة بالحلم.
ـ همس: ما هي الحقيقة.. وما هو الحلم؟!
هل هناك تجانس بين الحقيقة، والحلم... ولو تجانساً نادراً؟!
الحقيقة هي: ((مشاعر)) والحلم هي أيضاً... فكيف تجانسا معاً في واقعه، وعاطفته، وعقله؟!
كانت حلماً ماتعاً مشرعاً على الغد بهدْي ضوء القمر، وعلى دروب الشمس.. بلا خوف، بلا عراقيل، بلا فقد، بلا صدمة...... حتى تحوصّل إلى: مجرد حلم، لا بد أن يفيق منه!
وأصبحت حقيقة - في بدء تكوينها - هي الحقيقة الجميلة التي تشرنق حياته بالسعادة وبالدفء... حتى تبلورت حقيقة الإفاقة من الحلم!
جريح هو... ينزف دماً مختلطاً من الحقيقة والحلم، فهل عجزت ((مشاعر)) عن الاستمرار في الحلم، ومواصلته حتى يصبح حقيقة؟!
هذه الليلة الجديدة.. هي: ليلة الحقيقة القاتلة!
تبلّد كل شيء في ((زياد)).. خفقه، عقله، جنونه... بلغ ذلك الصراط الحاد من تساوي الأمور: لا شيء يفرحه، ولا شيء يحزنه... اللون الرمادي طغى على تفكيره، ونظرته، وسرى في شرايينه يُبدّل لون دمه أيضاً إلى: رمادي!
ترى... هل يستمر الحلم بعد إفساد الحقيقة له؟!
أبواب تُفتح، وأخرى توصد للأبد... وتبقى لحظة ضوئية لا تتكرر: يتوهج فيها الخفق.. ويتعانق فيها الموت مع الحياة!
حزم حقيبته في الصباح، وهبط إلى بهو الفندق، سدد حساب إقامته... وأخذه المجهول إلى المطار. عائداً إلى وطنه: هذا الحضن الذي لا يخون أبداً!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2185  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 145 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج