شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثاني
(1)
* صوت الطائرات فوق ((فيلته)) يتردد بين فينة وأخرى.. بيته كالمحور: يودع الطائرات التي أقلعت، ويستقبل الطائرات التي ستهبط.. لقد تعوّد على هذا: الإقلاع والهبوط!
القمر يتوسط السماء: بدراً... يتموّج ضوؤه كبحيرة فِضَّة.
وفي رأس ((زياد)): زحام من الأفكار، والأشياء، والوجوه.. كلها تقرع عدة بوابات في رأسه، وفي صدره... بعضها مشرع على مصراعيه، والبعض الآخر: مغلقاً على أسراره.
يريد أن يتخلص من هذا الزحام المتراكم.. أن يُصفِّي الذهن والصدر.
يريد أن يهتف لشيء ما محدد.. لشخص ما يختلط في النفس مع الدم!!
ما هي - إذن - فلسفة: أن يتعذّب الإنسان بشيء، أو بفكرة، أو بخفقة.. وأن يفرح بهؤلاء جميعاً؟!
الفلسفة تكمن في: تحديد ذلك الشيء، أو تلك الفكرة.. والتأكد من تلك الخفقة كإحساس صادق لا يتأثر برغبة عارضة.
أضاء غرفة نومه التي ضربت الفوضى أطنابها فيها:
السرير: غير مرتَّب، والغطاء نصفه على السرير ونصفه الآخر على الأرض: (عزوبية ليست مغرية كثيراً)!
زجاجة ماء صحي فارغة، وعلبة بيبسي.. على الكوميدينو.
الغرفة تحتاج إلى كنس وتنظيف... فعل ذلك فوراً كيفما اتفق.
توقف أمام جهاز التلفاز يتطلع إلى صورة ((أمه)) التي اختار سطح التلفاز مكاناً دائماً لها... قبّل الصورة، وهمس: وحشتيني.
ألقى بجسمه الممتلئ قليلاً في داخل ((الكنبة)) المواجهة للتلفاز، ليست لديه رغبة في رؤية العالم عبر هذه الشاشة... الدماء صارت تغطيها من خلال الأفلام والأخبار!
استدار بجسمه إلى دولاب الكتب خلف ظهر ((الكنبة))، وأخرج منه ((ألبوماً)) كبيراً يضم صور رحلاته المتعددة.. ومازال في ذهنه السؤال الذي يحيره: إلى أين يذهب ويمضي إجازته؟!
حاجته الآن إلى السفر تلكز انتظاره.. والرغبة منحصرة في الانطلاق فقط.. في استمتاعه بالحرية الشخصية: ينام وقت ما يحلو له، ويصحو متى أراد.. يخرج، يبقى... انطلاق يشعر فيه بحرية قراره، وبتجرده من التزامات الوقت.
مِنْ تراكم الوحدة عليه، وعلى وقته الطويل الطافح بالسأم.. صار يخاف أن تنبت له أنياب كالوحوش من هذه الوحشة.
ها هو جرَّب هذه الليلة: أن يخرج، ويسهر، وينضم إلى رفاق وزملاء.. فما الذي كسبه من هذه السهرة؟!
لا شيء... لا، بل خسر الوقت، كأنه كان يدور حول نفسه، وأصوات الصارخين تدور حوله.. وهو يحاول - بجهد مرهق - أن يتلمَّس في هذه الأصوات: ماذا يريد أصحابها؟!
الكل يشكو من أشياء.. ويفعل أشياء أخرى يشكو منها الآخرون.
ومَنْ الذي يُصلِح.. ومَنْ الجدير بالتنبيه؟!
لا بد أن لجدار غرفته آذاناً تسمع حواراته الخافتة مع نفسه... فهي إما حجارة صماء بالفعل، أو حجارة أصابتها عدوى الشكوى والملل كالبشر، أو حجارة ((تعوّدت)) على زياد، مثلما تعوّد هو على خرسها!
ليفتح ((ألبوم)) الصور، ويسترجع منها أصداء الذكريات، والأشواق التي تبدَّلت... فسقط بعضها في النسيان، وبقي بعضها في الحنين.
* * *
* لو كان معه في غرفته شخص يراقب حركاته وسكناته.. تعبيرات وجهه.. عضلات هذا الوجه: تنكمش تارة، وتنبسط تارة أخرى.
إن ((زياد)) يقلص ذلك الماضي، وتلك الذكريات في صورة، مثلما تتقلص عضلات وجهه.. ويبسط وجوه أشخاص لم يكونوا عادين في مواقف العمر، مثلما تنبسط عضلات وجهه تارة أخرى.
تلفَّت حوله.. كمن شعر أن بجانبه أو خلفه من يتابع حركاته وتعبيرات وجهه.
نعم... هذه الصور تشكل سرية في حياته، لا يمكن أن يسمح لأي أحد الاطلاع عليها إلاّ إذا رغب هو، وذلك إلى ((أي أحد)) يختاره ((زياد)) بعناية دافعها الثقة.
الصور لا تضم مناظر مخلة بالسلوك... لكنها أجزاء من شريط عمره الغالي عليه.
شعوره وهو يتأمل هذه الصور: شاعري دافئ.. كأنه يحاور نفسه عن بداية حكاية، وانتهائها.. عن فلسفة اللا نهائية في ((شخصيات)) تستبطن أعماقه، وأعماق كل إنسان: احتفى مثل ((زياد)) بفلسفة: القرب والبعد بين الناس.. القمر الذي يضيء ظلمة الليل، والشمس التي تسطع في النهار بكل هذه الشواظ التي ترسلها.. المطر الذي يفتقده ((زياد)) في نفسه كصحراء بلاده، فيبقى ظمآناً.. والصواعق التي تزلزل أعماقه التي تتحوّل أحياناً إلى ليلة شتائية تهزها الصواعق، ويخلخلها البرق والرعد... فلا يجد ((الحميم)) إلى جانبه، ولا الرفيقة!
ساقاه: قاعدة لتمثال رجل.. هو نفسه كأنه لا يمشي، ولا يتنقل.. بل ثابت فوق قاعدته، لكنَّ رأسه يتحرك، ويضج بالتفكير، ويضيق ويتسع.. وصدره يعتمل بشتى المشاعر التي ترتفع بخيالاته إلى أجواز الفضاء، وتهوي بأحلامه بعد ذلك إلى وهاد النفس والفراغ العاطفي المميت!
هذا التمثال المكوّن من ساقيه/ القاعدة، وجسمه: الرأس والصدر.. يصدُّ عن نقطة وقوفه: قوافل الرمال التي تتراكم حوله حتى تكاد تغطيه، ثم تَسْفيها الرياح.. في دورة المدّ والجزر.
كانت هذه هي ((حصيلة)) الرؤية للصورة الأولى التي طالعته على أول ورقة في ((الألبوم)).. وكانت تجمعه مع مجموعة من زملاء الدراسة الثانوية، وقد مات منهم ثلاثة إلى رحمة الله، وانتقل اثنان منهم إلى مدينة بعيدة للعمل والاستقرار الاجتماعي والأسري... وأهمهم: الثلاثة الآخرون الذين يقطنون معه نفس المدينة، ولكنَّ التواصل بينهم: نسفه انشغالهم بطموحاتهم في الحياة، وركضهم وراء أحلامهم.. فلم يعد أي واحد من هؤلاء ((الفرسان)) الثلاثة يعرف عن ((زياد)) شيئاً، لكنه هو يعرف عن كل واحد منهم: أخباره... العامة على الأقل:
* الأول: تسنَّم مركزاً مرموقاً وكبيراً، وصارت صوره في الجرائد تظهر شبه يومية... وقد التقاه ((زياد)) مرة في حفل رسمي، فبادر راكضاً للسلام عليه، ربما يستعيدان معاً: ذكريات الدراسة، ومرحلة الفَتْوَنة والشباب... ومدّ يده إلى مَنْ كان زميل دراسة فأصبح مسؤولاً له شأن، وشعر ((زياد)) ببرودة يد الرجل ((الآخر)) الآن وهو يصافحه.. ويقول له بترفع:
ـ أهلاً.
حتى كاد ((زياد)) أن يقيس كلمة ((أهلاً)) على شفتي هذا المرموق بالمسطرة!
* الثاني: صار رجل أعمال ناجح.. ((يلعلع)) اسمه في السوق، وفي كل الغرف التجارية داخلياً وخارجياً... ودفعت الصدفة ((زياد)) للذهاب إلى مؤسسة ذلك الرجل/ زميله القديم في الثانوية، فقال لنفسه وهو يدخل مصعد الشركة:
ـ ((لأ... عيب يا واد يا زياد، مهما كان فهو زميل دراسة قديم، ولا بد من السلام عليه، حتى لو لم يسأل عنك كل هذه السنين)).
دخل المكتب الضخم.. وطلب من السكرتير إبلاغ ((زميله القديم)) بحضوره، ومعه بطاقة باسمه.
فُتح باب غرفة رجل الأعمال الناجح، فإذا هو وجهاً لوجه أمام جاره في مقاعد الدراسة، وحسب ((زياد)) أنه يركض بخطواته نحو الرجل.. الذي قال له بابتسامة سوق:
ـ ((أهلاً أخ زياد.. سعدت بزيارتك لمكتبي، وأعتذر لك الآن.. فلا بد أن أخرج لحضور اجتماع هام... شكرا لك، مع السلامة)).
وانطلق يجري... كأنه خائف من أن يلحق به ((زياد))!
* الثالث: عمل في شركة الزيت سنوات، وكانت تبعث به كثيراً إلى أميركا... فاختصر المشوار، واستقر هناك، حتى خيِّل ((لزياد)): أن زميله لم يعد يعرف اللغة العربية!
ـ ((ياه يا زياد... ما أوسع طموحات الإنسان، وما أصغر الدنيا، وما أقصر العمر))!
هتف لنفسه بهذه العبارة من أعماقه التي تترسب فيها أصداء الذكريات... كأنها أصداء من أرجاء ((مقبرة)).. الأحياء فيها: شواهد القبور فقط.. حتى أحياء البشر الذين يدبُّون على الأرض، تحوّلوا أيضاً إلى: شواهد قبور تمشي على أقدام... ولا أحد يتّعظ!
وكأنّ أصواتاً عديدة، وغير متجانسة.. تملأ غرفة نومه الآن.
يتلفّت حوله، وينظر إلى الجدار، وسقف الغرفة، ونحو ظلال ((الأباجورة)) المضيئة في الزاوية.... لا أحد معه في الغرفة!
لعلها أصوات السنين... هذه التي تنبعث من ذاكرته، ومن شجونه!
فهل يقدر أي إنسان على التخلص من كل هذه الأصوات في حياته؟!
بعض هذه الأصوات: يهدهده، وينعشه بعبق الذكريات الجميلة.
وبعضها: يُقرِّعه، ويؤلمه بحثالة ما استقر في أعماقه من مواقف، أو أخطاء.
وبعضها: يُمزِّقه، وينهش في محاولات إسعاد نفسه... حتى يحيله إلى شخص له ساقان من حجر، وعينين من زجاج، وصدر من قش!
* * *
* قَلَب صفحة ((الألبوم)) الأولى بصورتها التي أحرقت في نفسه: عشرات الصور المنسوخة منها!
ظلال الإضاءة في غرفة نومه.. تتشكل منها: ألوان على شكل وجوه، مثلما جدار الغرفة - كما خُيِّل إليه - كانت تصدر أصواتاً لأصحاب هذه الوجوه.
الصورة الثانية: لم يتوقف عندها طويلاً.. بسرعة قلب صفحتها.
لا يريد أن يتذكّر... إنها لا أكثر من ((رعاف)) في بدء حياته كرجل.
إنها صورة زفافه... هو وتلك المرأة: الجميلة، الفارعة، الميعسبة، ذات العينين الواسعتين، والفم الأكثر اتساعاً على الصراخ في وجهه.
ـ ترى... لماذا يحتفظ بها إلى الآن؟!
موقف في حياته.. لا أكثر، وهو عندما يطالعها الآن.. لا تشكل عنده أي حنين، ولا ذكريات، بل تضخم في سمعه صوتها الشرس، وكلماتها الأكثر شراسة وسخرية منه، وعبارتها الدائمة له: ((في بيت أهلي كنت حرة وأميرة))!
و... طالما أنها ماتت في حياته، فلماذا يبقيها في ((ألبومه)) الخاص؟!
عاد إلى الورقة الثانية، وتأمل ((الصورة)).. وكأنه يراها لأول مرة.
انتزعها من ((الألبوم))، ومزقها قطعاً صغيرة جداً... بعثرها بعد ذلك في أنحاء الغرفة، وهو يتفرج، متابعاً انتشار قطع الصورة ومدارها حتى تستقر على الأرض فتاتاً.
تنهَّد ((زياد))... وهو لا يعرف: هل هي تنهيدة الراحة، أم.... الشجن؟!
أياً كانت/ التنهيدة... فهو لن يعيدها ثانية.
قَلَب الصفحة التي صارت فارغة بعد تمزيق الصورة التي احتلتها وقتاً طويلاً.
الصفحة الثالثة: طفلة جميلة.. ضاحكة كفرحة الحياة.
حضن الصورة.. كأنه يحتضن الطفلة مجسدة أمامه.
يحب الأطفال.. يشعر معهم بعفويته، وصفاء نفسه، ونقاء الإنسان بداخله.
وهذه الطفلة التي صارت تتكلم الآن، وارتفعت قامتها قليلاً، تناديه: ((خالو)).. فهي ابنة أخته بالرضاعة/ ابنة عمه ((اللمضة)) التي تتحوَّل أحياناً إلى ضميره، وأحياناً إلى شيء كالرشد حين تفكر معه وله، و((تلعن سنسفيل حضرته))، إذا عرفت أنه أخطأ.
أحب طفلتها أكثر... ورغم عشرته الطويلة مع الوحدة والصمت، إلاّ أن هذه الطفلة تجذبه باشتياقه إليها، فيجد نفسه يقرع جرس بيتها ومعه الحلوى والألعاب.
أخرج الصورة من ((الألبوم))، وأخذ يتأملها.
ـ ((عجيب... كيف لم يفعل ذلك))؟!
وضع ((الألبوم)) على الطاولة بجواره، وتناول الهاتف يطلب رقم أخته:
* ((وداد... كيفك أنت وزوجك، وقمرك الجميل/ البنت الحلوة؟!
ـ أهلاً زياد... إيه اللي حصل، يهودي أسلم، والاّ جاتك هبقة في عقلك علشان تتذكرنا معاليك؟!
* اسمعي... بلاش أسلوبك الاستفزازي هادا، أبغى أحدث صورة التقطتيها في استديو للبنت الحلوة/ رانية... علشان أكبرها.
ـ عندك عريس يا خويا.... بعدين إنت فين مختفي؟!
* معليش... سأمرّ في الغد، آخذ الصورة، وأودّعك لأني مسافر.
ـ بالسلامة... لندن برضو؟!
* ها.... والله ما قررت، إنما فكرة.
ـ فكرة يا أخويا اللي أعرفه... والا ذكرى))؟!
وضع سماعة الهاتف، واستغرق في أبعاد كلام أخته، ولمزها له.
آه....... لندن!!
(2)
* جوفه يتّقد.. كأنّ حريقاً هائلاً اندلع فيه.
يختلج.. رعشة قوية تهزّ جسمه، وكأنه يسمع ضلوعه في صدره تصطفق.
دولاب مكتبته.. كأنه يتطوّح مع جسمه، وخيّل إليه أن الكتب ستسقط على رأسه.
كل صورة من هذا ((الألبوم)) الذي يضعه في حِجْره.. تُطلق عشرات العيون والوجوه، بعضها: يصافحه، وبعضها: يُقبّله، وثالثها: يصفعه.
كلها: وجوه وعيون من طين...... وردد بيتَ شعر ((إيليا أبو ماضي)):
ـ ((نسي الإنسان ساعة أنه طين فصال تيها.... وعَرْبد))!!
حتى نار العشق... تنتهي إلى: طين!
ابتسم ((زياد)) لهذه الخاطرة، يحاول أن يتخلص بهذه الابتسامة من الرعشة، والاختلاج، والاصطفاق.
شوق مكثّف يتفجر من صدره.. يشعر هذه اللحظة بحزن يختلط بالرعشة، والخلجة.
يتمنى لو يرى شخوص هذه الصورة بالذات، على الصفحة الثالثة من ((الألبوم))... يقومون الآن من الصورة، ويتحلّقون حوله، وتتعالى ضحكاتهم، وتتواصل قفشاتهم ونكاتهم.
وكيف للنسيان أن يتغلّب على بعض ذكرياتنا، مما شعرنا في دفئه بالحياة وبالحب.. بالحيوية وبالتجدّد؟!
يتأمل الصورة... وتمتد أصابعه تتلمس كل وجه، وطاولة، وزهرة، ووعاء.
ومن البعيد.. تناهى إليه صوت ((ناي)) مشروخ الصدى، ينسكب هو الآخر مختلطاً برعشته، وخلجته، واصطفاق ضلوعه.
ثم... يضيق عنده التنفس كأنه يختنق.
يلقي برأسه إلى ظهر ((الكنبة))، ويغمض عينيه قليلاً ليستعيد أنفاسه التي ضاقت الآن ربما بسبب كثافة لهاثه منذ طالعته هذه الصورة!
لم ينس كل وجه في هذه الصورة، ولا حتى هذا المنظر الخلفي في الصورة.
يحدق في المنظر الخلفي.. كأنه يتفرّس وجهاً معيناً، أو يستجليه دون أن يظهر!
وميض يشع من عينيه.. كلما طال تحديقه في الصورة.
حتى انبعث هذا الوميض من صدره، من نبضه، مع أنفاسه ورعشته!
شيء ما - غير مرئي - في هذه الصورة.. يتشكّل كالوشم الذي حفرته الذكرى في ذاكرته... لا، بل في وجدانه وبين ضلوعه.
تحوّلت هذه الصورة إلى بحر ممتد لا نهائي.. تذرعه ذاكرته ذهاباً وإياباً، في المدّ والجزر.. في الموج والعمق.
تصطدم يده بيده... كأنه يصافح أفراد هذه الصورة.
تهرب نظراته من وجوه الجالسين أمامه في الصورة.. إلى خلفية الصورة، مما يراه خفقة، وهو أكبر من مجرد نظرة تُحدّق!
الوجوه في الصورة.. كأنها تتجه نحوه، تحضنه، تقهقه من خلالها الأصوات.
اختلاط آخر من: السفر، والتعارف، والغربة، وبساطة إحساس الإنسان قبل أن يرتطم، أو يشكو من وجع ما.
تزداد نظراته دفئاً... وهي تتشرد في تفاصيل هذه الصورة، كأنها: تلملم الكلمات من أفواه فرسان الصورة.. وتلملم لحظات تلك الليلة الماتعة التي أمطرت: دهشة، ومفاجأة، و.... حباً.
ـ (الآن... يشرع ((زياد)) ذاكرته السرية التي لا يفتح بوّابتها أمام أحد، ولا يحكيها في سمع أحد.. فهي ذاكرة خاصة جداً.
ماذا.. لو لم يسافر في ذلك الوقت الذي مضت عليه خمسة أعوام؟
ماذا.. لو لم يذهب إلى لندن، و((يغرق في دافئات المنى))، كما غنت فيروز؟!
ماذا.. لو حشد تلك الليلة بكل أبعادها في زجاجة حملها معه إلى وطنه، وأودعها عمق البحر الأحمر؟!
أي بحر يصير... وأية زجاجة تكون؟!
قد يجد الزجاجة ذات يوم، ولا يجد البحر.
قد يجد البحر ويسأله عن الزجاجة... فيكتشف أن البحر - هو الآخر - فقد ذاكرته!
لحظتها... إلى مَنْ يرجع؟!
إلى تلك الليلة التي خبّأها قي زجاجة،. ضنَ البحر بها عليه بعد سنوات، فادّعى فقدان الذاكرة؟!
أم يرجع إلى ذاكرته السرية... وقد نُحوِّل جوانب من ذاكرتنا إلى وثن؟!
أم يفكر في الانسلاخ من ذاكرته السرية... فتبقى الزجاجة في قاع البحر الغريب هو الآخر مثله)؟!
هو الآن لا يطرح الأسئلة، لكنه ينوس بين أصداء عمر قصير: خطفه قرصان في عرض البحر، وخطف البحر والزجاجة معه!
عمر قصير.. امتد حتى طال، وهو يحاول فتح ذاكرته السرية تارة، ويتردد على شاطئ البحر.. هل يقذف بنفسه فيه ويغوص بحثاً عن الزجاجة؟!
عمر قصير... وهو يذهب ويؤوب. ولا شيء إلا: الصمت، والوحدة، وشهر في العام.. هو كل ما صارت الذاكرة السرية تأخذه إلى أعماقها وتقفل عليه.
* * *
* امتدت يده إلى جبهته.. تزيح العرق الذي تفصَّد عليها.
ـ قال لنفسه: ((لماذا نعمد دائماً إلى إقامة سور عال نحيط به أحلامنا، وخفقة قلوبنا... هل الحلم: عيباً.. هل الخفقة: ميكروباً.. هل الخوف صار هو: العقل، والحكمة. والاستقامة))؟!
لكنه مازال خائفاً!!
بمعنى: أنه مازال يحلم، ويخفق قلبه... ويتمسك بالعقل، ويدَّعي الحكمة، ويفر إلى الاستقامة لتحميه من إدانة السور العالي لحريته الشخصية، ولذاكرته السرية!
كان يريد أن يتزوجها: خلفية هذه الصورة التي تبدو الآن في الصورة مثل ((كاسبر)) في الفيلم الذي أثار ضجة!
هل هناك مَنْ طلب منا أن نحوّل: الحب، والحلم، والخفقة، إلى ((كاسبر))... ذلك الشبح البريء الجميل، الذي لا يراه أي واحد، وهو يرى كل الناس.. حتى الذين لا يحبونه؟!
لكنه خاف من البحر، ومن العقل.. مثلما خاف على إدانة استقامته.
قرأ مرة في إحدى الروايات التي جذبته لغادة السمان.. وصفاً عجيباً للبحر، قالت: ((البحر هنا.. مجرد امتداد إسفلتي للشوارع، وإن كان ماءً))!
ـ قال: ((وَلْ... حتى البحر سوّدناه، أسفلْتتناه.. فكيف نذرع البحر الآن.. بالسيارة، أم بالبسكليته))؟!
استخدم البحر هنا رمزاً للحب.... فما أعمقه، وأكثره غرقاً!!
ولكنه يريد حصته من البحر... مَنْ يطالب إذن؟!
عاد يحدق في ((الصورة))، وعادت أصابعه تتلمس الوجوه، والأشياء، والخلفية الكاسبرية، والظلال.
كأنه يجري الآن القهقرى... يعود إلى تاريخ هذه الصورة: 1/1/1990 م.
ـ يهمس: ((ياه.. لقد جريت مسافات طويلة من تاريخ هذه الصورة إلى الآن... ومن الآن مرتداً إلى ذلك التاريخ... إلى تلك الليلة))!!
ما هذه الصورة التي استوقفته، بل جمّدته في لحظة نسفت ما قبلها، ولم يأت بعدها؟!
توقف أمامها كالمتبتّل.. ألغى ما بعدها من صور، وسكنت نظراته فيها.
كأنه الآن يستنشق من خلالها: رائحة الليل في لندن، وعطر الصحاب الذين جمعتهم هذه المائدة في مطعم.. يأكل فيه رواده على ضوء الشموع، ويسود الهمس إلاّ من قهقهات تفلت أحياناً، وما تلبث أن تخجل من الهمس فتذوب في الليل مع هذه الشموع.
ما أقصر الوقت في زمن هذه الصورة... وما أطوله وأبرده بعد زمان هذه الصورة.
يتذكّر حتى الموعد.. الساعة التي دخل فيها إلى هذا المطعم.
لا... إنه يتذكّر حتى الدقائق، والثواني.... نعم: الساعة التاسعة والدقيقة الواحدة، عندما وقف مستأذناً ضيوفه، رفقاء السهرة.. في التقاط صورة تذكارية.
في التاسعة والدقيقة الواحدة، وهو يضع أصبعه على زر التصوير.. قال له ضيف الشرف لهذه الدعوة/ سمير:
* هل تلتقط الصورة لنا.. أم للطاولة التي خلفنا؟!
ضحك زياد لحظتها، وعينه اليمنى في فتحة الكاميرا يضبط المنظر، وقال لصديقه:
ـ لكم وللطاولة... هل رأيت طاولة ممشوقة، شعرها أسود فاحماً؟!
* ((سأله سمير بعد التقاط الصورة: ((بجد.. هل صوّرت خلفيتنا.. أقصد الطاولة المميزة))؟!
ـ قال زياد: ((عيب... لازم أستأذن، فهذه الطاولة من عائلة))!
* قال سمير: ((دعنا نبدّل المواقع أو المقاعد))!
ـ رد زياد: ((يا راجل... زوجتك في المستشفى)).
غامت عينا ((سمير))، وسقطت دمعة من حدقيته.. وقال:
* ((أدعو لها يا زياد... أدعو لها جميعكم)).
ندم ((زياد)) على مشاكسته لصديقه، فهو لم يقصد إيذاء مشاعره، أو تذكيره بزوجته المنوّمة في المستشفى.. أراد المزاح فقط، فقلبت إلى غمّ.
ـ قال زياد: أعتذر يا سمير.. لم أقصد، ربنا يشفيها، وهذه دعوة مفتوحة لها بعد انتهاء كورس العلاج.. سأدعوها في هذا المطعم الأنيق: ضيفة شرف.
* قال سمير: ((كّتّر خيرك يا زياد.. قولّلي ماذا ترى خلف ظهري))؟!
ضحك الصحب.. المكوّن من أصدقاء زياد:
* سمير: أستاذ في الجامعة، متخصص في النقد.. يهتم كثيراً بالجوانب الإبداعية في فنون الأدب، لكنه حريص على إخفاء انتمائه الفكري.. لا يعلن عن رأي يعتقده، ولكنه متمكن جداً من الاستطراد في التحليل.. وهو الآن في العقد الرابع من العمر.
* عاطف: ثلاثيني... منذ صغره وهو يحلم بمخاطبة الناس، عندما كان في المدرسة.. اشترك في الحفلات المدرسية بصوته الإذاعي، وفي الجامعة كان يقرأ الصحف بصوت مرتفع، كأنه يقرأ نشرة الأخبار.
ليس له انتماء فكري... فقط: يقرأ الصحف والمجلات، ويبحث عن الكتب المتخصصة في الإعلام، خاصة المسموع... وعندما انتقل إلى لندن للدراسات العليا، انضم إلى إذاعة لندن في قسمها العربي، وهدّد بالاستقالة أكثر من مرة مع أحداث عربية تقف الإذاعة منها موقفاً مشبوهاً... وهذا هو انتماؤه الشامل!
في عمله بالإذاعة.. التقى بزميلة له مذيعة.. تجانسا، تقاربا، تحابّا.. كل ذلك في وقت قصير جداً.. طلبها للزواج، وكونّا بيتاً وأسرة منهما ومن بنت في السادسة، وابن في الرابعة.
* سعاد: هي هذه الزوجة التي كوَّنت أسرة ((عاطف))... قدِمَت مع والدها الذي هرب من مصر لمواقفه السياسية في منتصف السبعينات بعد حرب رمضان، وقدّمت طلباً للالتحاق بهذه الإذاعة، ونجحت في التجربة.
تؤيد والدها في معارضته لمعاهدة ((كامب ديفيد)) التي سعى إليها الرئيس السادات، وزادت اقتناعاً بعد أن عاشت في لندن... لكنَّ نشاطها ينحصر في عملها فقط.
سعاد: امرأة ثرثارة لا تكف عن الكلام والضحك معاً، يصفها زوجها بأنها: ((رغّاية))، ويقول:
ـ ((من كتر ما ترغي تِخْنت، وصار وزنها 80))!
تنظر إليه شزراً.. وتستمر في الضحك والكلام.
* بقيت ((إلهام)) زوجة ((سمير))، المشدودة إلى وثاق سرير المستشفى.
هذه المرأة.. تُشكِّل الجزء الهام من حياة زوجها ((سمير)).
لم يقترنا بعد قصة حب عنيفة، ولا حتى هادئة... اختلفا عن الشباب في سنهما آنذاك، وتقاربا بمنطق العقل قال خفقة القلب.
هو الآن يحبها، ولا يقدر أبداً على فراقها.
وهي عشقت فيه: أحلى أيام العمر معه، تصفها.
لكن... هي الآن في المستشفى، تعاني من السرطان اللعين.
* * *
(3)
* يتماسك ((سمير)) أمام زوجته الطيبة المبتلاة بالسرطان اللعين.
وتنزلق دمعة غالية في عمق الليالي التي أرَّقه فيها مرض زوجته ((إلهام)).. في الوقت الذي تنام فيه عيون البشر والشجر، وتهدأ الرياح.. لكنَّ رياح حزنه تستعر، وهو يتسلل إلى وجهها النائم بعد معاناة نهار كامل من الألم، وبعد انتهاء الحقنة اليومية التي تبقى في جسمها أكثر من ساعتين.. فيحل عليها التعب وتنام.
لحظتها.. يجد ((سمير)) وقته الخاص الذي يجلس فيه بجانب سريرها في المستشفى، يتأمل وجهها النائم كأنها ميتة، ويمسح الدموع التي تنزلق من عينيه، ويخاطبها بهمسة قلبه:
ـ ما أشقاني من بعدك، لكنَّ قضاء الله نافذ، وأنا مؤمن بقضائه عز وجل.
يعقد ذراعيه على صدره، كأنه يراع نفسه عن الانهيار، وصوته عن الصراخ، وعينيه عن المزيد من البكاء.
ها هو معها الآن في افتراس السرطان اللعين لها: رجل وحيد، متوحّد مع آلامها... وهي: صابرة، لا تتذمر، لا تقلق، لا تخاف من الموت الذي تنتظره، بعد أن أخبرها الأطباء في لندن عن دائها.
ـ امرأة طيبة جداً، هادئة، صوتها خفيض... كثيرة الاطلاع، عاشقة لأجمل مبهجات الحياة: الكتاب والموسيقى.
تغار على ((سمير)) جداً... ولا يذكر أنها تركته يخرج بمفرده إلاّ في العمل فقط، وبعد ذلك تلازمه، تقوم معه بالزيارات، ترافقه في السهر والسفر.
ولعل هذه المحاصرة له من شدة غيرتها عليه.. كانت مصدر ضيق لـ ((اسمها))، كرجل يتوق إلى الانطلاق قليلاً.. إلى لقاء أصدقائه.. إلى السفر وحده ليبقى مع نفسه.. إلى الابتعاد عنها ليشتاق إليها وتشتاق إليه.
أما هي.. فتختلف معه في هذا المطلب الخاص به، فتزيد حصارها له.
ـ الآن.. يخاطب جسدها المسجى على السرير ووجهها المرهق: لا بأس.. كثّفي حصارك لي، طارديني في كل مكان، فقط... إبقي بجواري في الحياة، لا تذهبي أرجوك.. فأنا أحبك، وحياتي بدونك أطلال.
أنجبت ((إلهام)) من ((سمير)): ولداً واحداً فقط وكانت تتوق إلى أخت لهذا الولد، فهي تحب البنت.
اقترن بها ((سمير)) عندما كانا يدرسان معاً في أميركا، وكانت زميلته في الجامعة.. وعادا إلى الوطن بعد التخرُّج بابنهما المولود حديثاً... حينذاك.
لا شك أنهما عاشا معاً وقتاً طويلاً دون أن يُحسّا بركض العمر في الوقت.. رغم قلة السنوات التي جمعتهما وقصرها.
اختلافهما: لم يكن يفسد الود بينهما... يتشاجران، يصرُّ على رأيه.. ولا تجادله، ولكنها تنفذ رأيها بهدوئها المعهود.. حتى إذا اكتشف ما فعلته: ابتسم ووافقها على رأيها.
أعجبه فيها: اتزانها، وتروّيها، ومعالجة المشكلات بدون انفعال.
قادرة هي أن تضبط الغضب والتسرع في تصرفاتها وردود أفعالها، وتحولّهما إلى: تأن، وتفكير، وحكمة.. وهو عكسها تماماً: عصبي المزاج، انفعالياً.. ودائماً كان يحتاجها لتضبط كل هذه الأشياء التي قد تفلت منه.
أعجبها فيه: رجولته ومواقفه... فكانت عندما تتحدث عنه، تصفه بقولهاْ زوجي الفارس.
ـ تقول دائماً: لم نختلف أبداً في صلب الموضوع، أو الفكرة.. اختلافنا أحياناً يكون في التفاصيل، أو في إسلوب المعالجة.
قادر هو أن يزرع اتساع صدرها الرحيم بالأمان... فهو زوج غير مشاكس، وإن كان يتزيّا أحياناً بالصرامة التي لا تكبر فتصبح قسوة.
لو ماتت هذه المرأة/ الرفيقة، الشريكة له في عمره... فستصبح حياته: موتاً أقسى.. ستصفعه رياح الوحدة، وتظمئه الصحراء القاحلة التي ستتمركز في بيته.
ـ ((سمير... سمير.. أنت هنا يا حبيبي؟!
أعطني كوب ماء.. هِيَّا فين الممرضة؟!.. لازم تروح ترتاح وتنام شوية)).
رفع رأسها قليلاً، وسقاها.. وقبَّل جبينها، وهي تلحُّ عليه أن يذهب إلى الفندق لينام. عادت إلى نومها.. وعادت دموعه تسحُّ من عينيه في صمت الليل ووحشته.
جاءت الممرضة.. تابعت حالتها، وقالت له:
ـ إنها بخير.. بقاؤك هنا لن يضيف شيئاً، ولا حتى يخفف عنها.. لأنها شبه مخدرة، فاذهب لترتاح.
* * *
* تلقفه هواء لندن البارد لحظة خروجه من بوابة المستشفى.
أوقف سيارة الأجرة، منطلقة به بعد ذلك إلى الفندق.
في غرفته التي حاصرته فيها الأصداء، والهواجس.. أشعل سيجارته المائة، فهو يدخن بشراهة، وأزمة زوجته: زادته تمسكاً بالسيجارة التي يحرقها ويحترق معها.
أزمة ((إلهام)) بدأت قبل ثلاثة شهور.. هناك في الوطن.
تعدَّدت أقوال الأطباء في كثافة: الأشعّات، والتحاليل، والأدوية.
لكنَّ واحداً من أولئك.. لم يكتشف هذا الداء اللعين في جسدها.
تعبت كثيراً، وقالت لسمير يوماً:
ـ ((خلاص.. لا أريد أطباء، ولا. أدوية... أنا بين يدي الله عز وجل يفعل بي ما يشاء)). ابنها الوحيد في الرابعة عشرة.. يصرخ وهو يلقي برأسه على صدرها، ويهمهم:
ـ ((أمي تموت.. أمي تموت، أرجوكم أنقذوها)).
وكانت تمسح بيدها على رأسه مهدئة، وتمسح بابتسامتها على وجهه مطمئنة.. وتنظر إلى ((سمير)) ليخفف عن ابنهما.
تركاه في الوطن للدراسة.. وسارع ((سمير)) بما سفرها، وتقاريرها الصحية، وحجز في هذا المستشفى مع طبيب متخصص.
* قال له الطبيب: ((نحاول أن نكبح تمدد المرض وانتشاره.. هذه الحقن: تحاصره، والباقي على الله)).
ـ سأل سمير نفسه: لا ترى... هل أنا أعذِّبها))؟!
لا... إنه يحاول إنقاذها من براثن السرطان... لكنَّ ((إلهام)) لا تقاوم كثيراً، كما قال له الطبيب.. تبدو مستسلمة، راضية، قانعة بالعمر الذي عاشته.
فقط... كانت تضغط على يد ((سمير)) وتهمس له:
ـ رجائي الوحيد... ابننا ((عصام))، إنه في سن المراهقة الخطرة.. إهتم به، تابعه، لا تتركه للآخرين!
مَنْ هم الآخرون الذين قصدتهم ((إلهام))؟!
لم تطلب منه أن يتوقف عن ممارسة حياته الطبيعية، ولم تلمح له إلى الزوجة الثانية القادمة... فمازال زوجها في شموخ رجولته وعنفوانها... لكنها كانت تلحّ عليه للعناية بابنهما فقط.
ـ قالت له في أول يوم لها بالمستشفى، والحقنة الأولى تسري في جسدها: ((سمير... الموت والحياة بيد الله، تزوّج.. لكنَّ طلبي الوحيد هو: أن تُحسن اختيار التي ستواصل معك مشوار الحياة، ابننا يخرج من الطفولة إلى الرجولة، لست أخاف عليه.. خاصة وأنني متأكدة من روعة أبوّتك له.. إنني أخاف عليك أنت))!
طفرت دمعة من عينيه، ورفع يدها وقبّلها.
أراد ((سمير)) أن يأخذ قسطاً من النوم.. فهو مجهد جسدياً، ونفسياً وعاطفياً... لكنه فشل، فالنوم يجافيه، والهواجس تقتحمه... فكأنه لم يعد يعرف شيئاً، ولا يرى شيئاً، وعاجز أن يفعل أبسط الأشياء.
خُيّل إليه أنه لم يعد قادراً على مزيد من الضغط النفسي... فماذا يفعل؟!
هذه إرادة الله... وعليه أن يصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لذلك... هو: عاجز عن التفكير، والتصرف، ويبلغ عجزه أحياناً إلى عصيان الدمع على عينيه ليرتاح بالبكاء قليلاً.
يصرخ في سويداء الليل، وهجمة البرد على جسمه:
ـ ((أيها المرض اللعين.. أيها الحقير.. يا مفرّق الأحباب.......)).
يصمت... يعود إلى وعيه، ويهدأ:
ـ ((أستغفر الله العظيم... يا رب يا حنّان، يا أرحم الراحمين: إرحم إلهام)).
يهدُّه التعب.. فيسقط على السرير بملابس خروجه، وينام!
* * *
* تصحو ((إلهام)) من نومها وخدر أدويتها.. فتجد ((سمير)) بجانب سريرها، كفه يحتضن كفها، ونظراته تغسل وجهها، وفمه يتمتم بآيات قرآنية.
كل صباح... تجده أمامها على هذه الصورة، وتهمس:
ـ ((صباح الخير يا حبيبي... متى جئت))؟!
يقوم هو بإفطارها، وغسل وجهها، ونفحها بالعطر الذي تحبه: ((شانل)).. منذ أهداها أول زجاجة عطر في أميركا.
يحاول أن لا تلتقي عيناه بعينيها، حتى لا ترى فيهما الدموع والشفقة عليها من مرضها.
تكره هي الشفقة... امرأة تعتز بنفسها، وبصلابة احتمالها ومقاومتها حتى للمواقف الصعبة في حياتها، قبل أن يرزأها هذا المرض.
يذكر يوم توفي والدها، وكانا في أميركا يدرسان، ولم يتخرّجا بعد.
أخبرته - بعد برقية وصلتها - وبقيت مذهولة، جامدة الملامح.. لم تطفر من عينيها دمعة واحدة.
خاف عليها... فالقهر أكثر شراسة من الفجيعة في حبيب.
أخذها في حضنه.. ووسَّد رأسها صدره، وهمس في أذنها:
ـ ((أنا الآن: زوجك. وأبوك، وعشيرك، ورفيق دربك.. حتى الموت)).
لحظتها.. تفجّرت دموعها، أجهشت على صدره، والتصقت به، كأنها تطلب منه أن يحميها للأبد.
دخل الطبيب في اليوم السابع لتلقِّيها العلاج في هذا المستشفى، قال:
ـ أتفاءل بشيء من التحسن البسيط... لذلك قررنا أن نواصل ((كورس)) الحقن أسبوعاً آخر، وبعدها نقرر إذا كانت ستبقى معنا، أم ترحل إلى بلدها.
ـ قالت إلهام لزوجها: يا حبيبي... هذه تكاليف باهظة، والنتيجة معروفة.. أنا مؤمنة ومسلِّمة أمري لله.. دعنا نعود إلى وطننا، وأهلنا، وابننا.
* قال لها: لا تفكري في التكاليف... وطالما لدينا بصيص من أمل، فلماذا نقفل النافذة؟!
أخلدت ((إلهام)) للصمت... ولكنَّ ((سمير)) لمح أول دمعة تتخبط في عيني زوجته.. حاولت أن تداريها عنه، فأخذها إلى صدره، ولم يكن لديهما معاً سوى الصمت، أبلغ تعبير عن: المعاناة، والعجز.
وانطلقت نظراته إلى أبعد من المباني الشاهقة، وإلى اللا مدى في السماء... كأنه يهرب من هذه الحقيقة الماثلة المؤمِّلة، و الموت يمارس الحياة مع الناس.
وجه ((إلهام)): حكاية جميلة تنتشي الآن في الأسى، وتترمد في الموت.
وجه أجمل.. كان ينفي من رؤية ((سمير)) كل الوجوه الجميلة، ليبقى وحده هو: مرآته التي يظهر على صفحاتها: عمره وحصيلة المشوار.
* * *
(4)
* يسقط ((ألبوم)) الصور في حِجْر ((زياد)) للحظات، فما أكثر شروده وتهويمه.. وقد استغرقت أفكاره في أبعاد معاناة صديقه ((سمير)) يومذاك، وهم يترقبون الموت: مناخاً يشيع في أجوائهم، وسيخطف من بينهم فجأة: هذه المرأة الصابرة ((إلهام)).
وعلى صفحة ((ألبوم)) الصور المتهاوي في حِجْرِه، سقطت دمعة ساخنة كأنه يرى أمامه الآن جثمان ((إلهام)) مسجَّى!
ـ حقاً... الزمن هو الحالة، والاستشعار هو الملابسة!
همس! بهذه العبارة وهو يرفع ((ألبوم)) الصور ثانية إلى نقطة رؤيته، ويحدق في الصورة.
كانت ((إلهام)) مازالت تخضع للحقنة اليومية لعدة ساعات، لعل العلاج يصدّ عنها هجمة السرطان اللعين على جسدها وعمرها كله.
هذه المرأة المثقفة الناضجة الأربعينية: طويلة القوام، حنطية البشرة، شاسعة الابتسامة حتى وهي تعلم أنها تموت، هادئة النفس، ودودة الطباع... كلامها همس، وحوارها يتلمس الموضوعية.
لكنَّ ((سمير)) يموت كل لحظة أمام رفيقة عمره، وجسدها المسجَّى على سرير المرض والألم.. يشعر بقمة العجز، وبمرارة الهزيمة.. كأنها الهزيمة الأولى في حياته، لأنها الهزيمة الأكثر مرارة، تهوي به إلى خندق العزلة والصمت!
في تلك الليلة... بعد انتهاء هذه الصحبة التي ضمتها الصورة من تناول عشائها في المطعم الفخم... وبعد محاولات ((زياد)) انتراع الابتسامة من بين شفتي صديقه ((سمير)) ليُسرِّي عنه في محنته.. والنكات التي كان يطلقها ثنائي الإذاعة: وقف ((سمير)) مكتئباً رغم كل شيء، وحمل علبة سجائره وولاعته من فوق الطاولة، وقال:
ـ أعذروني يا أصحابي.. قلبي مقبوض، لا بد أن أعود إلى المستشفى.
* قال له زياد: ولكنَّ موعد زيارتك لإلهام عادة في الصباح.. ما الذي يجعلك تذهب الآن؟
ـ قال سمير: لا أدري يا زياد... صدقني، اللهم اجعله خيراً، أعذروني... وتصبحوا على خير.
وقف الجميع، يواكبون خطوات ((سمير)) إلى خارج مطعم ((السماء الزرقاء)).. وأصر ((زياد)) على مرافقة صديقه المهموم إلى المستشفى للاطمئنان على الزوجة الطيبة التي تصارع أعتى مرض.
تشبثت كفا سمير بكف صديقه ((زياد)).. كأنه يخاف من السقوط وهو يمشي إلى حيث سيارة الأجرة التي انطلقت بهما إلى المستشفى.
وفي جوف العربة، وجوف الليل.. لم ينبس أحدهما بكلمة، ولا حتى بنأمة.. كانت الأنفاس تتلاحق، والنظرات تغوص في عمق الليل وتتبعثر في إضاءات الشوارع والمحلات التجارية المقفلة.
ما أشد حاجة الإنسان دائماً إلى ذلك ((الاستقرار)) في النفس.. على رأي، على روية، على حقيقة، على واقع، على دفاع عن نضج العقل في زمن انتشار المعرفة، وانحسار العاطفة!
ـ "أي انحسار للعاطفة - يا زياد - وهذا الرجل بجانبك يتمزق بعاطفته))؟!
استمر هذا الديالوج الداخلي بين ((زياد)) ونفسه منذ حملتهما العربة من المطعم خارج لندن، حتى بلغت بهما أمام بوابة المستشفى.
وفتح ((سمير)) الباب كأنه يهرب من العربة، تاركاً صديقه ((زياد)) ينقد السائق أجرة المشوار، ويلحق به... وكلاهما يركض كأنَّ حدثاً جللاً قد وقع.
وخيِّل إليه: كأن أصداء صوت ((سمير)) تتردد في ردهات المستشفى وأبعاد الليل، تنادي:
ـ إلهام... إلهام.... لا تموتي أرجوك!
وأخيراً.. استطاع ((زياد)) أن يلحق بصديقه، يشده من ذراعه الأيمن، يبطِّئ خطواته وهو يسأله:
ـ ماذا بك... هل جننت؟!
* ولكني أعرف أن ((إلهام)) ستموت يا زياد... أعرف، قلبي يغرق في الاكتئاب.
ـ هوّن عليك.. الموت والحياة بيد الخالق الأعظم، وأنت رجل مؤمن.. تعال أولاً نسأل الطبيب المناوب.
* لا... دعني أذهب إلى غرفتها مباشرة.
ـ لا بأس... تعال.
* * *
* كانت ((إلهام)) مسجَّاة على سريرها... هل هي ماتت، هل هي في إغماء.. أم أنها تستغرق في نوم هادئ؟!
فزع ((سمير)).. وركض خارج غرفتها يبحث عن الطبيب.
طمأنه الطبيب بأنها نائمة من تعب الحقنة اليومية، وبتأثير بعض الأدوية التي تخدر الألم. طلب من الطبيب أن يبقى إلى جوارها، ألحّ في رجائه.. كأنه يتوقع شيئاً.
هكذا جلس ((سمير)) أمام سرير زوجته.. كأنه وهو يحضن كفها في دفء صدره: يتشبَّث بمجدافين - كفها وصدره - يشق بهما خرس الليل، وفجيعة الرحيل المتوقعة، وتفشِّي عقم الفرح في حياة الناس اليوم.
إنه يرفض التساؤلات، ويستدني نتائج مرهقة في مسيرة العمر، مما يتأوّه به الإنسان من: ظلم، وغدر، وحقد، ومرض مستعصٍ... فلا يسمع هذا التأوه إلاّ الليل، وأحياناً يصم الليل أذنيه.. فلا تصغي لهذا التأوه إلا ثواني العمر، ولا يصمد معه إلاّ خفق الشوق.
إنها تراكمات عقم الفرح.. في ظواهر عقم العاطفة، وعقم العقل عندما تتكثف عليه المحن والظلم!
هناك في أعماق حضارة بعض الشعوب.. حدث غياب سّري، انعكس على نفسيات أجيال تلاحقت، وأنجبت ذلك العقم المتعدد.
حتى دموعه الآن.. يشعر ((سمير)) أنها تعاني من العقم، لا يدري كيف يبكي وهو في أمسّ الحاجة إلى دمعة.
لكنها....... ليلة الريح هذه، وزوجته أمامه تصارع الموت، وهو يراوح في هذا الفراغ المزدحم.. كأنه يتمسك بورقة شجر جافة هشة، بينما تتساقط على رأسه أوراق عديدة، لتساقطها: أحكام إجبارية لا يمكن رفضها... كالموت، كالفراق، كالعقم العاطفي، كالرحيل.
إنه الآن لا يرحل عن نفسه وحدها.. بل يرحل عن الابتسامة، والفرح، والمطر.
شعر بكف ((إلهام)) تلتصق بصدره أكثر، وتضغط على كفه التي تحضنه.
لم يسأم من تأمل وجهها... حتى أشرعت جفنيها - فجأة - فإذا هي تنظر إليه، وترسم ابتسامة كالطيف على شفتيها.. وهمست له:
ـ ((إنت هنا يا حبيبي؟!... الحمد لله)).
وعادت عيناها إلى إغماضتهما... وما لبثت كفها أن تزحلقت فوق صدره، حتى تهاوت بلا حراك.
ـ آه..... آه..... آه!
صرخات وجيب قلبه، وأضلعه، وخفقه، ونبضه.. تعالت مع صوته.
احتضنه ((زياد))... وأخرجه من الغرفة التي اكتظت بالأطباء والممرضات، وبصرخات ثمالة الليل.
ـ قال له زياد: هل كنت تريدها أن تتعذب أكثر... رحمة الله واسعة.
ليلة الريح هذه... كان وداع أخرس، أهان النطق، وجمَّد وعود الأمل للأبد، وملأ الصدر بهذه الشجون التي ستتراكم أكثر بتعاقب السنين.
ليلة... كان فيها كل شيء يرحل بعيداً من أمام ((سمير))، ومن حياته... والولادات: عقيمة.
الكلمات الأجمل في حياته.. ترحل.
النظرات إلى الأبعد.. تطويها السحب.
احتجاج استفساراته.. صارت تقضُّها فكرة الرحيل، ويدميها واقع هذا العقم الجديد في حياته.
استفساراته.. لا تملك الآن إلاّ الإذعان للرحيل، وللعقم!
وتمدد سؤال شوكي على شفتي ((سمير)) عقب هذا الرحيل، والعقم الجديد في حياته:
ـ لمن نحيا.. ولمن نعيش؟!
فرق كبير بين أن نحيا، وبين أن نعيش.
في ليلة الريح هذه.. احتجب الغمام.. وفي الغمام: احتجب ضوء القمر.
على الأرض التي سيمشي عليها: قتاد الصحاري.. وإنسان وحيد: دثاره الريح، وأديمه الشوك.
فما هو سؤال الإنسان دائماً؟!
إنها الليلة بعد الألف التي قطعت فيها شهرزاد رأسه بكل حشود الحب في قلبه لها، وبكل شعور اليُتم والعقم بعد رحيلها.
* * *
* في قاعة توديع المسافرين بمطار ((هيثرو)).. قال زياد لصديقه:
ـ سمير.. أنت الآن لا تصحب معك جثمان ((إلهام)).. اعتبر أنك تصحب معك روحها، وذكرياتكما معاً، وأصداء ضحكاتها.. ادفن تأوهاتها وآلامها ودموعها مع جثمانها، واهتم بابنكما كما طلبت منك.
حضَنَ ((سمير)) صديقه.. وهو يقول له:
ـ لا تتأخر عليّ... لا تتركني وحدي هناك.
* لن أغيب طويلاً... أيام وستجدني أمامك. ؟؟؟
* أحس ((زياد)) بدموع جمرية تلسع وجنتيه.
كفكف الدمع... وهمّ أن يطبق ((ألبوم)) الصور، بعد استرجاعه لأحزان مضت.
لكنه تريث قليلاً... اختلطت تلك الدموع بشبح ابتسامة خجول تتردد بين الظهور على شفتيه والاختباء!
إنه لم يسترجع أبعاد هذه الصورة بعد... هناك ((الخلفية)) الجميلة في الصورة التي كان يحاول تسليط عدسة كاميرته عليها... وكان صديقه ((سمير)) في بدء تلك الليلة يحاصره، أو يضبطه!
ما هي حكاية ((خلفية)) الصورة؟!
* * *
(5)
* خلفية هذه الصورة.. تستحق عدة عناوين، وألوان، وظلال.
حفلت - في البدء - بما يسميه العشّاق: خفق الشوق في الصدور النابضة.
بالفعل... شعر بصدره يهتز، لا... بل يرتج، زلزال من الشوق لملامح مجهولة، أو غير واضحة.
ضبطها وهو يهمُّ بالتقاط صورة لصحبه الذين دعاهم على العشاء في مطعم ((السماء الزرقاء)) خارج لندن... ولم يستطع لحظتها أن يتبين سوى تلك الابتسامة الشاسعة، الفضية كنور القمر، الجذّابة التي سرى منها إليه: سحر عجيب غامر، حتى أن الكاميرا اهتزت بين يديه في اختلاجته.
أنثى... لم يجد وصفاً لها سوى كلمة: مليحة.. تتخطر على أعتاب الثلاثين.
تبدو في ركن ذلك المطعم: هادئة، شامخة، رزينة اللفتة والبسمة.
ترافقها امرأة خمسينية مازالت تتشبَّث بالجمال الملحوظ الذي كانت تنعم به في نهدة عمرها.
وفتاة.. لم تتخط العشرين بعد، حسبها الآخت الصغرى لهذه المليحة التي تفوقت بجمالها الثلاثيني على جمال أختها العشرينية.......... يا للعجب!!
وتزاحمت في صدره: أصداء الزمان في عمره، وحنين المسافات التي قطعها ولم يغرس في بقعة منها شجرة تطرح ثمراً ناضجاً!.
وحين يتأمل خلفية هذه الصورة الآن.. فكأنه ينادى على: غربة رؤية في بصائر أعشاها الهوى!
يعاني الآن من وجع أصاب خفقه منذ تلك الليلة.. وهو يتذكر جرأته، واندفاعه.
كان يشعر لحظتها بإصرار عافية العشق في صدره، في عزيمة الثابتين.
تلك الليلة - بعد أن التقط الصورة الجماعية لرفاقه - وضع الكاميرا على الطاولة، واستأذن في طريقه إلى الحمّام... لكنه تباطأ باندفاعته أمام الطاولة الخلفية، وضم نظراته الوالهة كباقة ورد حفَّت بعبقها اتساع عينيّ تلك المليحة، وحلكة شعرها الليلي، وجسدها الفارع اليعسوبي كامتشاق سيف من غمده.
التقت نظراته بنظراتها التي بدت متعالية قليلاً... وواصل خطواته إلى وجهته، لكنه بقي واقفاً في زاوية المطعم، أمام بابي حمامي النساء والرجال.
فهل فهمت نظراته؟!
هل قرأت في عينيه رسالته العاجلة؟!
هل ستلحق به... حتى لتسأله: ماذا تريد مني؟!
لم تلحق به.. وجرر أذيال الخيبة، وعاد إلى رفاقه، ممتنعاً أن يرسل نظرة واحدة إلى تلك الخلفية التي نسجت أبعاداً وردية، قوس قزحية في وجدانه.
ابتعد قليلاً عن ضيوفه الذين دعاهم على العشاء، ومازال باقٍ معهم على الطاولة.. زحمته الأسئلة:
ـ لماذا لم تتجاوب معي؟!
أنت مجنون.. لعلها متزوجة؟!
لا... نظراتها لا تقول أنها مرتبطة.
وهل تريدها أن تركض وراءك إلى الحمام كالمراهقين... يا ((عيِّل))؟!
ورآها ((تفز)) كقلبه الخفوق، ومعها المرأة الخمسينية، والفتاة العشرينية.. ومروا بجانب طاولته وهي تُحدّجه بنظرة لم تكن من عينيها بل على شفتيها.
هبّ واقفاً... يصلح من ربطة عنقه، وصوت صديقه ((سمير)) يقول له ضاحكاً:
ـ ((أنا معك على الخط... لا تتعب نفسك، يا نخلة في العلالي))!
لم يعره التفاتاً.. لكنه تبع المليحة وحاشيتها في طريقهم إلى خارج المطعم.
كأنه في زورق يخبُّ به في موج عاتٍ.
فرصة... تقدمت المرأة الخمسينية، والفتاة العشرينية عن هذه المليحة التي أبطأت من مشيتها المتخطرة.. كأنها تدعوه للاقتراب منها.
اقترب منها، وقال:
* اسمي زياد... من جدة، وجئت في إجازة، هل أراك غداً الرابعة بعد الظهر في الهايدبارك؟!... أتمنى ذلك.
وتنفس الصعداء بعد أن ألقى خطبته العصماء دون أن ينتظر حتى سماع نغم صوتها، وقفل راجعاً إلى صحبه.. يشبر الأرض، أو يمتطي هودجاً، وهو يطل على الساعة الرابعة بعد ظهر الغد.
ـ بادأه صديقه سمير مازحاً: ((سَبْع والاّ ضَبْع))؟!
* أجابه: فرس يا خلق الله... فرس.
ـ قال سمير: يا مجنون.. يا مراهق، إتقل.
* * *
* بينه وبين نفسه.. رفض أن ((يتقل))، فكان في الموعد الذي ضربه لها بعد الظهر يتجول في الهايدبارك!
مجنون ((حاف))، كما وصفه صديقه... أم مجنون ليلى؟!
ـ ترى... ما اسمها، هل هو جميل كوجهها وخفَّة حركتها؟!
وأين ستجده في هذا الـ ((هايدبارك)) الذي يمتد إلى أبعد من حدود النظر؟!
سيعثر عليها هو... حتى لو ذرع المكان كله.
فجأة... وجدها أمامه وحدها بدون ابتسامتها الطيف، وأيضاً بلا ملامح جادة... لكنها قابلته بين بين، ولأول مرة يدفئ صوتها سمعه وهي تسأله:
ـ ماذا تريد مني؟!
* لن أقول لك كالأغبياء أو الكذابين: لا شيء... بل أريد منك كل شيء.
ـ إنت وقح في شكل شاب مهذب!
* لست وقحاً بعد أن تجيبيني على سؤالي هذا: هل أنت متزوجة؟!
ـ وهل تظن أنني آتي إليك لو كنت متزوجة... يا وقح؟!
* حسناً... أريد أن أتزوجك، ما رأيك؟!
ـ مجنون... هكذا، دون أن أعرف حتى بقية اسمك، وعملك، وأخلاقك.. ودون أن تعرف اسمي، ومَنْ أنا؟!
* هل أطمع في معرفة اسمك؟!
ـ وماذا يفيدك الاسم؟!.. ولكن، لا مشكلة عندي، اسمي ((مشاعر))، لا تقل إنه مستعار، صدقني!
* إحكي لي... مَنْ أنت؟!
ـ يا.... وقح، زدت على صفتك هذه أنك: مقتحم جريء لا مبالي.
* ول.. ول... ها أنت عرفت عني الكثير من صفاتي في دقيقة واحدة.
ـ عصر السرعة، وحضرتك بالع راديو.
* لا عليك.. راديو، وتليفزيون، وتليفون، وبيجر، وفي الطريق: الهاتف جوال... المهم: كم رقم تليفونك؟!
ـ وما يخصك فيه؟!
* أكلمك، وتكلمينني... ويزداد كل واحد منّا معرفة بالآخر.
ـ وإذا كنت أنا غير راغبة في معرفتك... ما تقول؟!
* لا أقول بل أفعل!
ـ هاو... كيف؟!
* كيف... كيف؟!.. آه، زي ما يقول فريد الأطرش: تطلع للسما أطلع لك، تنزل للأرض أنزل لك.
ـ إيه الأغاني القديمة دي... إنت متأخر؟!
* يعني أنتِ اللي متقدمة؟!
ـ بلاش تلبيخ.
* تعرفي المسافة اللي مشيناها مع بعض حتى الآن؟!
ـ إحسبها إنت.
* نصف ساعة وكأنها ثانية... يا ليتها تستمر كل العمر.
ـ من فضلك... لازم أرجع للبيت.
* توّ الناس... وحشتيني وانت معايا!
ـ يا كثر كلامك... إنت مذيع؟!
* لأ... أنا إنسان أصمت ((إحداشر)) شهراً، وأتكلم شهراً واحداً فقط!
شاعت الابتسامة الحليبية على شفتيها، وتكسرّ جفناها.. أغضت، ودقت حشائش الحديقة بطرف حذائها... وواصلت خطوتها صامتة.
تجرَّأ ((زياد)).. وترك يده تتسلل بطيئة إلى يدها لتحتويها.
جفلت وكفه يضغط على كفها... حتى استنام الكف في حضن الكف، ولفهما صمت لأكثر من خمس دقائق.
فاض صبر ((زياد)).. همس لها:
ـ هل أحظى برقم تليفونك؟!
* قالت: أعطني أنت رقم تليفونك.. وأتركها للظروف.
خفيف ((زياد)).. سريع، لقد جهَّز رقم هاتفه، في ورقة كتبها قبل أن يأتي إلى هنا... كأنه كتب هذا السيناريو للقاء.
ناولها الورقة وهي تبتسم قائلة:
ـ أنت رجل عملي لا تضيّع وقتك.. والرجل العمليّ في الغالب: إنسان مادي.
* قال: الأيام ((بيننا)).. ستظهر لك أن مادّيتي مركَّزة في عقلي، ووجداني يفيض.. يتوهج بالحب.
ـ قالت ضاحكة: على رأيك.. تقول إنك تصمت ((إحداشر)) شهراً، وتنطق شهراً واحداً... يا خوفي إنك تحب أيضاً لشهر واحد، وتنسى بقية شهور السنة!
* قال: حتى أكون صادقاً معك... فعلت هذا كثيراً، والسبب يرجع إلى أنني كنت أبحث عن الأنثى التي لا تستحوذ على كل شهور السنة في عمري، بل على كل عمري.
ـ قالت: وهل وجدتها؟!
* قال: أتمنى أن توافق.
ـ قالت: دون أن تعرف عنها شيئاً؟!
* قال: وهي لا تعرف عني شيئاً.
ـ قالت: أنت مغامر.... والمغامر كثير الندم.
* قال: أنا أتبع خفقات قلبي... لكنها لم تخفق بهذه الشدة والجنون من قبل.
ـ قالت: سأذهب الآن، ولكن.... لا تُعلِّق آمالك على الهاتف أبداً، يا....... رجل يا واقعي........ يا........ وقح!!
رفع كفَّها إلى شفتيه بانحناءة تقدير.
وتسمَّر في مكانه... يتابع نقلة حذائها فوق حشائش حديقة الهايدبارك... حتى اختفت في زحمة الناس الذين تكاثر توافدهم في هذا الوقت، وفي زحمة الغروب المعلنة عن نهاية يوم في عمره.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2160  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 144 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.