شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إذا كبر إبنك...!
تأخر ((فارس)) عن العودة إلى البيت، وقد انتصف الليل، ونشر السكون وشاحه الليلي الداكن على الشوارع، ونوافذ البيوت وأبوابها.
كانت ((إلهام)) تكبح قلقها على ولدها، تعصر أصابع يدها تارة، وتتأفَّف تارة أخرى، وهي تهمس لنفسها، وتريد من زوجها أن يسمعها:
ـ يا ترى.. إيه اللي أخّرك يا ((فارس))؟!
ينظر إليها زوجها ((خالد)) وليس لديه إجابة.. هو أيضاً يكبت قلقاً في أعماقه، ويحاول أن يهدىء من روعها:
ـ وبعدين.. خيلتيني وإنت رايحة وجاية.. يعني جراله إيه، ما هو مع أصحابه في البحر؟!
ـ لكنه قال ما راح يتأخر. طلع للبحر مع أصحابه من الصباح، خلاص.. لزومه إيه يجلسوا إلى أنصاص الليالي؟!
ـ يا بنت الناس إهدئي. ((فارس)) أصبح رجلاً، ولا يتحمل المسؤولية.
ـ رجل إيه يا شيخ.. ده لسه في نظري ولد، أنا عارفه طينة أصحابه إيه، وبيعملوا إيه، وإلا..... لا حول ولا قوة إلا بالله، لا يكون جرى لهم حادث في البحر، والا في السيارة وهم نازلين؟!
ـ (صرخ خالد في وجهها): خلاص جننتيني، لو كان فيه حادث لا سمح الله بينعرف، خبر السوء يوصل بسرعة، وحِّدي الله.
ـ لا تصرخ في وجهي من فضلك.. كفاية حالتي، أنا خارجة البلكونة أنتظره.
وبقي الأب في مكانه لا يتحرك بأمر الطبيب، بعد أن ثارت آلام ساقه اليسرى بمرض الأعصاب، أو كما يسمونه: عرق النسا!
لا حول له ولا طول الآن.. وقلقه يتزايد على ابنه، ولكن... أين يذهب للبحث عنه؟!
إنه لا يعرف المكان الذي ذهب إليه ((فارس)) مع أصدقائه على شاطىء البحر.
مشكلات الأبناء لا تنتهي.. بل لعلّها تكبر أكثر وأضخم، كلما كبروا في السّن.. فتصبح مشكلات خطيرة.
زوجته معها حق.. إنهما لا يعرفان طينة أصدقاء ((فارس))، وكيف تربيتهم، وسلوكهم، لكنه يثق في اختيار ابنه.. لقد أحسن تربيته، ولا بد أنه سيحسن اختيار أصدقائه.
ـ الشباب بلا رقابة من البيت!
أثارته هذه العبارة التي تحرَّكت في ذاكرته، إنه يسترجعها الآن
من حوار طال ذات ليلة بينه وبين بعض أصدقائه الذين يأتون إلى بيته مرة في الأسبوع للعب الورق، والسهر.
كان يرفض عبارتهم هذه التي أجمعوا عليها، وقال لهم يومها:
ـ بالعكس.. آباؤنا أحسنوا تربيتنا، وبالتالي.. فإن تربيتنا لأبنائنا متأثرة بما نشأنا عليه، والرقابة موجودة.. إلا من بعض الآباء الذين انشغلوا بأعمالهم، وبرحلاتهم، وبسهرهم.. فتركوا أمور البيت والأطفال للأمهات، وفقدوا التحكُّم في رقابة أبنائهم. ولكن هؤلاء قلة.. أنتم- مثلاً- أكثر من عشرة آباء.. كل واحد منكم يفخر بتربيته لأبنائه!
ـ قال أحدهم: لكن.. لا تنس حكاية ابن زميلنا في العمل ((حسين)) الذي أهمل رقابة ابنه، فأدَّى به الحال المنفلت إلى دخول الابن للسجن، بعد أن ضبطوه مع شلة شباب صايع في جلسة مخلّة؟!
ـ قال آخر: في رأيي.. إن الأم هي المسؤولة، وليس الأب ضحكوا جميعاً، وهم يقولون لصديقهم:
ـ طبعاً.. تريد أن تتنصل من المسؤولية، إنت عندك ولد واحد.. يا ترى يقول إيه اللي عنده ثلاثة، وأربعة، والا اللي عنده بنت؟!
ـ قال خالد: هذه نظرة جاهلية.. البنت مثل الولد، المهم التربية، وبعدين.. لازم تسألوا أنفسكم سؤالاً مهماً. وهو: أين يذهب الشباب.. ماذا يفعلون؟!
ـ قال أحدهم: هل هذا سؤال بالله عليك؟!.. يعني لازم نوفِّر له أماكن التسلية، أو ينحرف؟!
ـ قال خالد: ما أقصد اللي فهمته، أماكن التسلية متوفِّرة حتى في البيوت: فيديو، وأفلام، وحفلات، لكني أقصد إنها مسؤولية الأب ليقول لابنه أين يذهب، ويرشده ماذا يفعل، ويراقبه.. المراقبة مفقودة!
ـ قال الثالث: يعني إنت بتراقب ابنك يا أخي؟!
ـ قال خالد: بالطبع.. وبأناقشه، وأتحاور معه، وأتباسط، والمثل بيقول ((إذا كبر ابنك خاويه))، والمشكلة أن بعض الآباء يعامل ابنه بعد أن يكبر كأنه طفل.. بينما المطلوب هنا: الإقناع، والمكاشفة.
ـ قال رابع: يعني مثلاً.. هل تسمح لابنك يحكي لك مغامراته؟!
ـ أجاب خالد: هذه فكرة ضرورية.. أفضل أن أسمع منه لأرشده، وأوجهه، بدلاً من أن أسمع عنه بطريقة يلوك فيها الناس اسم ابني، واسمي.
ـ قال الأول: هذه ((مودرنية)) نحن فين.. في باريس؟!
ـ قال خالد: نحن في عصر العلم، والتربية على أصول، والدراسة النفسية.. وأنت يا أخ دارس علم نفس، وسمعت إنك بتضرب ابنك بالقلم أمام الناس!
ـ عندما يخطىء... لازم أضربه.
ـ ولكن... هل جرَّبت في الأول أن تناقشه في خطئه.. أن ترشده؟!
ألم تفكِّر في رد الفعل عنده عندما تضربه أمام الآخرين. وطوله يوازي طولك؟
ـ إنت خرجت عن الموضوع!
ـ الموضوع متواصل، ومتلازم.. كل موقف هو حلقة في سلسلة طويلة مترابطة.
ـ لماذا تلقي باللوم عل الآباء وحدهم.. هناك أمهات يفسدن أولادهن، إما بالدلع أو بالتَّرف، أو بالمداراة عليهم.. و ((من الحب ما قتل)).
ـ إنني لا ألغي دور الأم، فهو مهم هنا.. لكن أرى أن دور الأب هو المطلوب، لمثل هذه السِّن، حين يشارف الولد أو البنت على مرحلة المراهقة لتخطِّيها بعد ذلك!
أفاق ((خالد)) من سرحته وهو يسترجع أصداء الحوار مع أصدقائه.. حينما سمع صوت زوجته ((إلهام)) يهرول قبل ساقيها من البلكونة إلى الغرفة، وهي تردد فرحة:
((فارس)) وصل.. وصل. الحمد لله، أرجوك يا ((خالد)) ما تكلمه ولا كلمة. خلِّيه ينام الآن، لا بد إنه تعبان، وفي الصباح يحلها الحلال!
ابتسم ((خالد)) وهو يسمع رجاء زوجته.
ترى.. هل هذا هو التَّدليل الذي قصده أحد أصدقائه في حوارهم؟!
ودخل ((فارس)) طويلاً، فارعاً.. لكنه يبدو متعباً جداً، ومرهقاً، وسمعته أمه يلقي التحية:
ـ السلام عليكم.
ـ قالت له مبادرة: كنت فين يا ولدي.. قلقنا عليك؟!
نظر ((خالد)) إلى زوجته كأنَّه يزجرها، ويذكرها برجائها أن لا يُسأل ابنهما عن سبب تأخيره.
وجلس ((فارس)) أمامهما.. كأنه يتهاوى. قال له والده:
ـ إذهب إلى غرفتك، وبدل ملابسك.. لتنام، وتصبح على خير.
ولكن ((إلهام)) بقيت متوتِّرة، تتساءل في حيرة: ما الذي أخَّر ابنها طول هذا الليل.. فالساعة قد شارفت على الواحدة بعد منتصف الليل؟!
ـ قالت لزوجها: يا برودك يا أخي.. طيب بس أسأله: كان فين؟!
ـ أما أمرك عجيب.. ألم تطلبي مني أن لا أكلِّمه، ولا أسأله؟!
ـ صحيح... ولكن الولد كان حيتكلم.
ـ في الصباح... سيقول كل شيء، المهم إنه عاد سليماً، واطمئنينا عليه، دعيه ينام، لأن شكله مرهق.
ـ يا خوفي.. لا يكون عمل مصيبة، الولد وجهه بارد.. كأنه عامل عملة،
ـ طبعاً مكسوف لأنه اتأخر، وعارف إننا سنقلق عليه، يمكن عنده عذر!
ـ عذر؟!.. عذر إيه، أخ، كان نفسي أضربه قلم مقابل الإزعاج اللي سبّبه لنا.
ـ إنت متناقضة، أقوم وأروح غرفته، وأضربه.. يعجبك كده؟!
ـ ها... لا.. لا، خلِّيه يرتاح، على رأيك.. المهم رجع بالسلامة.
ولم تنم ((إلهام)) أمضت بقية ليلها تفكِّر في شيء واحد فقط، هو: ما الذي جعل ابنها يتأخر إلى ما بعد منتصف الليل؟ أ
إنها تتطلع إلى وجه زوجها الذي يغط في نومه قريراً، وهي حانقة، تتميز من الغيظ، وتقول له في سرها:
ـ يا بختك.... نايم ولا على بالك، بس كان سألته، وارتحت أنا!
حاولت أن تنام دون جدوى، ذهبت إلى غرفة ابنها، رأته هو الآخر مستغرفاً في نوم عميق، والتعب باد على ملامح وجهه، اقتربت من ملابسه المعلَّقة على المشجب، تردَّدت أن تمد يدها الى جيوب ملابس ابنها، قالت لنفسها:
ـ لا... هذا لا يصح، يعني حيكون إيه في جيبه ؟!
تعرف أن ابنها ((فارس)) يدخِّن، لم تحاول أن تسأله، أو حتى تلمح له.
إقتربت من وجه ابنها.. تحاول أن تشم فمه.
ـ من يدري... ربما......!!
ـ لا.. لا. أعرف ولدي، ولكن لا أعرف أصدقاءه!!
ـ لا... أعرف تربيته، لا يفعل مثل هذا الأمر.
كأنها ارتاحت قليلاً، وأقفلت باب حجرة ابنها، ودخلت غرفتها لتنام، أصبحت أكثر أرهاقاً من ابنها.. كأنها كانت طوال اليوم في داخل البحر بأمواجه العنيفة!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :974  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 103 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.