شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حب.. عدم الانحياز!
* ألقى الصحيفة بجانبه، وشرد ببصره وبأفكاره بعيداً.. كأن نظراته المبعثرة، وأفكاره السادرة، تثقبان جدار الغرفة، وتنطلقان به نحو عوالم مختلطة ومتضاربة!
وخيِّل إليه أن لهذه الأفكار أصواتاً تحدِّثه وتحاوره.. وأن لهذه النظرات الشاردة به إضاءة تعم شوارع وطرق العالم.. حيث الأفكار والنظرات تحملانه إلى متناقضات عجيبة.. لا يعرف في هذه اللحظة كيف يقارن بينها، وكيف يجانسها!
إنه- في الحصيلة- يبدو مثل مهموم من طراز بالغ الحساسية!
لقد كان سبب هذا الشرود محصوراً في صورة.. لا أكثر!
شاهد تلك الصورة بحجم مكبر على صفحة الجريدة، وتحتها بضعة سطور مختصرة جداً.. غير أنه يقرأ تلك السطور كدبابيس تنغرز في حدقتي عينيه، لتضاعف ألمه.
ولم يشعر باقتراب ((إلهام)) منه، ثم جلوسها بجانبه، وتحديقها المعتاد في وجهه كلما رأته ساهماً.. فلم يزل الشرود يطوف به ويبعثره، وينأى بحضوره عن زوجته.
وهذه المرة.. خافت ((إلهام)) على زوجها من هذا الشرود.. شعرت أنه بعيد جداً،
ـ وهمست برفق: اللي آخذ عقلك!
ولم يجبها.. ولم تستطع بمزحتها أن تنتشله من سرحته، فأعادت الهمسة بنبرة مرتفعة قليلاً:
ـ خالد.. ما بك، اختلفت مع أحد في عملك؟!
وتنبه لصوتها، ولجزعها.. فالتفت نحوها يتصنع ابتسامة لم تفلح مع ((إلهام)).. فألحَّت عليه أن يتكلم:
ـ لا تجعلني قلقة عليك.. طمني، مريض، أم هي مشكلة؟!
ـ قال بنفس الابتسامة الباردة: لا تخافي.. أنا بخير.
ـ ما هي الحكاية إذن؟.. ريحني بالله عليك.
ـ هل استغرق ((فارس)) في النوم؟
ـ من زمان.. نومه عبادة، تصور من يوم ما بدأ يحبي وهو مجنني، الهوى هواه يكسر كل الأشياء اللي قدامه، واللي يقدر يطولها!
ـ ما هي السن دي كده.. مشاكلها بالنسبة للأم مزعجة، أما بالنسبة للطفل، فمعناها أنه بدأ من الآن يكون شخصيته، وبدأ مرحلة الوعي على الأشياء والمعرفة، ويحاول يتصرف وينول اللي قدامه، ويتعرَّف على كل شيء.
ـ أمس كسر براد الشاهي، وحطم اللعبة اللي اشتريناها له قبل أيام.. ما في شيء يوصل ليده ويبقى سليم.
ـ ممتاز.. عال جداً.
ـ عال وممتاز إيه؟.. يعني يطلع الولد عدواني، يحطم كل شيء؟!
ـ بالعكس.. في المرحلة دي، معناه إنه متحرك، وحيوي، وفضولي، ودي السن اللي يكتسب فيها الطفل بعض الأشياء الجديدة.. أحمد ربنا أنه كده، بدل ما يكون خامل، أو لا سمح الله معاه شلل أطفال، أو قصور في النمو، أو ضعف عام، أو....
ـ قاطعته: كفاية.. أنت إيه؟!
ـ أمراض الأطفال كثيرة، واللي ما يعتني بطفله يتعب، ويجني على الطفل.
ـ الحمد لله، وايه اللي يخلي عنده مرض من اللي عددتها وأنا منتبهة لتغذيته وأكله، بالإضافة لحرصي أنه يلاقي اللي يبغاه، ومايبكي!
ـ النقطة دي خطأ.. اختلف معاك فيها، لا تخليه يلاقي اللي يبغاه دائماً وباستمرار.. بالعكس، أتركيه يفهم في بعض الأحيان أن بعض مطالبه غير ممكنة أو صعبة، أو تحتاج إلى مجهود.
ـ وليه نعذِّب الولد.. احنا عندنا غيره؟
ـ دي تربية يا عيوني.. الحياة كده طبيعتها، الاحتكاك مع الناس، رغبات الإنسان. لا تدلِّعي الولد.. لازم يفهم أن الإنسان يعجز أحياناً عن تحقيق بعض مطالبه!
ـ لكن دا تعقيد، مادام اللي بيطلبه موجود، ليه نحرمه منه وربنا موسَّع علينا؟.. ولما نربيه على إنه ياخذ اللي يبغاه، أفضل من تربيته على الاستسلام، والحياة نفسها تعلمه لما يكبر.. الطفولة جميلة يا ((خالد)).. أجمل كرات العمر، وإلا خلينا إيه لتجارب الإنسان لما يخوض معترك الحياة؟!
* * *
وشرد ((خالد)) مرة أخرى، ومازالت زوجته تحكي له عن بعض المفارقات التي لاحظتها من خلال تصرفات ابنهما ((فارس)).. لكنه لم يكن معها، فقد انطلقت به أفكاره مجدداً، واستغرق في التأمل، أو في الشرود! حتى اكتشفت ((إلهام)) أنها تحكي وتتكلم مع نفسها، وأن ((خالد)) لا يحيط بشيء مما كانت تقصه عليه، وتظنه يصغي لها.
وقلقت من هذا الشرود.. كأنها أوجست حدساً لاب في ذهنها، فأمسكت بوجه زوجها، وقربته إلى وجهها تتأمل في عينيه.. فأفاق من شروده على تصرفها وحركتها، فقال:
ـ إيه.. حصل إيه.. اتجننت؟!
ـ مين فينا اللي مجنون.. إيه الحكاية بصراحة؟
ـ بصراحة نفسيتي معكننة.
ـ طيب فضفض.. مين اللي عكننها؟!
ـ هادي الجريدة.
ـ مالها.. ارتفعت أسعار المواد الغذائية، والا قامت الحرب في الكرة الأرضية؟.. ما هي نفس أخبار كل يوم، من دا المعجون اللي أصبح بديل في فرشاة الأسنان!
ـ أبدأ.. ببساطة، شدتني صورة طفل، يعاني من المجاعة.. شوفي!
وناولها الصحيفة مشيراً إلى صورة طفل، تكاد عظام ظهره وصدره أن تبرز، والبؤس والفاقة يلونان وجهه
ـ قالت: يا حفيظ... إنما دي صور معتادة يا حبيبي، أصبحنا نشوفها دائماً في الصحف والتليفزيون مع الأخبار الخارجية، وبنشوف صور الأطفال المشردين من بلادهم، اللي فقد أمه، واللي فقد أبوه، واللي فقد عينه، أو ذراعه، أو ساقه.. هادا هو عالمنا اليوم، راح تصلح الكون.. خضيتني يا شيخ، ظنيت لا سمح الله أنك تعاني من مرض أو مشكلة في العمل.. الناس اليوم ذاتيين يا حبيبي.. يا ربي نفسي، ويا دوب الحياة تمشي!
ـ إنت إيه؟.. مشاعر أنانية دي، ماعرفتك كدة!
ـ الدنيا أصبحت كده.. زحام شديد، وكل واحد بيجري لوحده، زي اللي هاربين من غارة، إنما الغارة مستمرة!.. وإنت زعلان ومتأثر من صورة الطفل. ما هم في العالم كعبوا عن عام الطفل واحتفلوا، وعن إنقاذ أطفال العالم من المجاعة، وكل يوم بتعتدي الحروب والقوة على أمان الأطفال وأحلامهم.
ـ صحيح.. مأساة بالفعل، بلغها العالم المنشغل عن الأطفال بالحروب وبالأطماع وبشراسة الأقوياء. يمكن انفعلت أكتر من اللازم!
ـ ومالك محموق كده؟.. كأنك المنقذ، بينما أكبر رئيس دولة في العالم ما بيعرف شي عن هذه المآسي والمناظر، ولو عرف.. لا تصدق أنه يوقف أطماعه من أجل الأطفال.
ـ قصدك.. إن كبار العالم ما يشوفوا هذه المناظر، وإذا شافوها لا تعنيهم لأن الأطفال ما هم أطفالهم، فالإنسانية مجزأة، أو محصورة؟
ـ علشان كده إنت مكتئب وشارد.. كأن الطفل ده طفلك؟!
ـ تعرفي... تصورت وجه هذا الطفل، وكأنه وجه طفلنا ((فارس))!
ـ صلي على النبي يا آدمي.. إحنا في خير ونعمة!
ـ الحمد لله.. لكن المشكلة إنسانية، والعالم في النهاية قرية صغيرة.. والصورة ذكرتني بأطفال الحرب في بيروت، وقبل كده بأطفال شردهم الاستعمار والقهر في أماكن كثيرة.. تصوري المستقبل لهؤلاء الأطفال.. وفيهم اللي فقد أهله، واللي خلَّفت الحرب فيه عاهة مستديمة في جسمه أو في نفسه.. وفيهم اللي مشرَّد، محروم من السكن الصحي ومن الأكل النظيف، ومن الرعاية الطبية، ومن التعليم.. ولما يكبروا.. تصوري يصبحوا إيه، وإيه مصيرهم.. يلوموا مين، ويحبوا مين، ويكرهوا مين، والأفظع: ينتموا لمين؟!
واستغرقت ((إلهام)) في أسئلة زوجها، وزحف الشرود إليها هي الأخرى.. كأنها تتخيل كل أم فقدت ابنها بالحرب، أو بالتشرد، أو بالفاقة.. وكانت تهمس في ذهول:
ـ ياه... المشكلة رهيبة فعلاً.
ـ قال بأسى: أخطر وأهم مشكلة في عصرنا اليوم، تنحصر في ((الطفل)).. يعني ما هو زي ما بيقولوا: عام الطفل، ولكنه عالم الطفل.. أو أن هذا العصر يعتبر عصر القسوة على الأطفال.. لأن كل شيء من فعل الأقوياء والخلافات بتدمر صناعة المستقبل!
ـ قالت ومازالت في ذهولها: وكيف نقول العالم طفل؟!
ـ قال: لأن كل المشاكل اللي بتحدث من الحروب، ومن الاستعمار، ومن الأزمات المالية.. كلها بتنعكس على مستقبل العالم، والطفل هو مستقبل العالم.. هو ((بكره))، أو هو المجهول اللي ما نعرف لحد الآن كيف سيكون، وكيف يلاقي الطفل نفسه في ذلك الغد، لما يكبر ويصطدم بالمشكلات اللي كبرت معاه، وزادت من قسوتها!
ـ لكن.. يتهيأ لي أنك متشائم كبير.. بعدين، فيه هناك مؤسسات وهيئات إغاثة، وتعليم، وصحة، ورعاية طفولة؟!
ـ أنا ماني متشائم.. أنا واقعي، وبعدين.. تفتكري أن الهيئات والمؤسسات الدولية بتقدر على صناعة مستقبل مضمون لطفل اليوم.. طيب عملت إيه لأطفال المجاعة في أفريقيا، وفي الهند، ولأطفال التشريد في لبنان، وفلسطين، وأفغانستان؟!
ـ أجل مين اللي ناجح؟!
ـ تعرفي مين، وبدون سخرية ومزاح؟!
ـ قول.. إني أصغي!
ـ جمعيات الرِّفق بالحيوان أكثر نجاحاً في العالم المتحضر، والمؤسسات العسكرية وتجار السلاح!
ـ كده إنت بتقول كلام مليان خوف!
ـ وعلشان كده خلي ولدك يلعب على كيفه الآن!!...
وقفزت ((إلهام)) من مجلسها، وهي تسرع إلى غرفة نوم ((فارس)).. تردد:
ـ باسم الله علينا وعلى ((فارس)).. يا ولدي يا حبيبي، تعال في حضني.. الله يكفيك شر ((شرنينكو)) و ((ريغاننكو))، وشر ((شامير وشمعون))!
وجاءها صوت ((خالد)) من الغرفة الأخرى، ضاحكاً:
ـ وأنا... أنام فين؟!
ـ قالت: روح نام عند ((انديرا غاندي)).. على الأقل تنام لك ليلة عدم انحياز بالكذب!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1245  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج