شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الطُّهار
* أطلت ((إلهام)) من ضلفة باب غرفة النوم، تشير ل ((خالد)) بيدها نحو جهاز التلفاز في غرفة الجلوس، وتضع أصابعها على شفتيها بحركة احتجاج!!
نظر إليها ((خالد)) مبتسماً.. أعجبته حركتها المشفوعة بالرجاء، ليخفض صوت التلفاز.. وهي تعبِّر له بإشارة من يدها: أن ((فارس)) قد نام، وصوت التلفاز سيزعجه ويوقظه، وبالتالي يتعذر نومه مرة أخرى!
وقام ((خالد، من اتكاءته على الوسائد، وخفض صوت الجهاز متبرماً يتأفف بهمس!
وابتسمت ((إلهام)) فرحة بغيظه، كأنها تتشفى فيه، وتراه ينفذ أمرها بدون جدال.. فاتجه نحوها يهمس بحنق:
ـ وتبتسمي كمان.. هِيَّا أحكام عرفية؟!
ـ قالت تهمس: يا أخي اتحمل.. هوه دا مين، ما هو ولدك.. بكرك العزيز؟!
ـ قال: ولدي يعني يخرس كل البيت؟ الواحد ما يطيق!
ـ قالت: قول بس نفسك تستمتع بأصوات الممثلات في المسلسلة اليومية.. شكل وصورة، كأنك عايش معاهم.
ـ قال: بدأنا المماحكة والاستفزاز.. بس أكمل المسلسلة، وارجع لك!
ووسَّدت ((إلهام)) طفلها داخل سريره الصغير، وغطَّته، وأبقت الإضاءة الخافتة، وتركت ضلفة باب غرفة النوم المؤدي إلى غرفة المعيشة والجلوس مواربة، حتى تسمع صوت ((فارس)) لو استيقظ!
والتفت ((خالد)) إلى زوجته، وهي تصلح من جلستها بجانبه.. ابتسم، ولكن الغيظ يلازمه، ثم حوَّل نظراته إلى التلفاز، يتابع البرامج.. ومرت لحظة صمت، و ((إلهام)) تحدِّق في وجهه مبتسمة ومستفزة له، ثم قالت بعد أن تغاضى عن نظرتها:
ـ وكمان ما تتكلم.. يعني المسلسلة أهم مني.. طيب أنا أحلى من الممثلة دي!
ـ قال: طبعاً أنتِ أحلى، وإلا ما اتزوجتك!
ـ قالت: يا سلام.. مسح جوخ!
ـ قال: صدقيني.. دول ((فترينات)) فقط.
ـ قالت: طيب.. وإيه اللي شادَّك كده؟!
ـ قال: الولد الصغير اللي في المسلسلة.. حدق، ووجهه كله تعبير ناطق.
ـ قالت: ما هو أحلى من ((فارس)).. اصبر عليه لما يتكلم، إن ماكان حدق ولبلب!
ـ صحيح.. أصل الأطفال بيكتسبوا من أمهاتهم في السنوات الأولى!
ـ قصدك إيه.. أنا رغَّاية؟!
ـ لأ.. العفو، إنما النساء بارعات في الكلام!
ـ والرجال في الأيام دي.. سادة الإهمال واللامبالاة لبيوتهم.
ـ وبعدين في الغلط.. أنا عملت إيه الآن، وقلت إيه؟!
ـ يا شيخ حرام عليك.. بكره ((فارس)) يكمل ثلاثة شهور.
ـ ودا خبر يعني؟ ما هو أنا عارف.. ربنا يكبِّرنا في طاعته.
ـ لأ.. أنت بتتناسى شيء مهم جداً.
ـ طيب.. فكريني كدة.
ـ أفكرك يا سيدي.. تعرف شيء اسمه ((الطهار))؟... كان من المفروض من سابع الولد نجري له اللازم، لكن الأيام مضت وأنت بتتمهل، والولد بيكبر.. أنت تبغاها عملية جراحية وإلا إيه؟!
ـ بس يا ((إلهام)).. بالله لا تفكريني!
ـ لأ.. أفكَّرك، وأزن عليك كمان.. والله أهل أول، أجدادنوا وآباءنا، كانوا ممتازين، وجيل حكمة وبصيرة.
ـ لكن.. أنا ما أقدر، كل ما أتصور المشرط والدَّم، والولد ((يفرفر)) قدامي، يصعب عليَّ.
ـ هذا وأنت بقلب رجل.. أجل أنا ياللي اسمي أمه أقول إيه؟ ومع ذلك بألح عليك.
ـ تعرفي... أمس لما كنَّا في دعوة الغداء عند صاحبي ((حسين)).. فتحوا ((سيرة الأطفال.. وسألوني أصحابي عن شعوري بعد ما رزقنا الله بولد، هو البكر وأول العنقود.. فافتكرت موضوع ((الطهار)) فاتغميت.
ـ وتتغم ليه يا ناعم؟ هذا شيء ضروري وسُنَّة، اليوم أو بعد سنة، وبدل ما نعذب الولد، نسارع ونعملها وهو في السن دي، واهو ما هو حاسس تقريباً.
ـ كيف ما هو حاسس.. دا مشرط، وقطع جلد، و.......
ـ قاطعته: والله آخذ أمي بكره، ونروح لأي مستشفى.. يظهر ما يجيبوها إلاَّ ستاتها.. إذا كان الرجال ما عادوا ينفعوا للحاجات دي، أهو الستات قدها وقدود!
ـ شغلتكم!
ـ أنت قلت إيه؟
ـ بأقول إن أصحابي اختلفوا في الوسيلة أو الأسلوب.. بعضهم أصر إني آخذ الولد إلى المستشفى علشان يتم الأمر بشكل مضمون وبطريقة الطب. الحديث!
ـ والبعض الآخر؟!
ـ حاول يقنعني بأن آخذ الولد لرجل قديم ومعروف في وسط البلد، اسمه ((العم سالم)) متخصص من سنوات طويلة في المسائل دي.. وكان بيقولوا عنده شهادة رسمية معترف بها من وزارة الصحة، ومحله نظيف، ومشرطه معقم، ويده خفيفة، والجراحة ما تطول أكتر من أسبوع، وكل العلاج: بودرة ((سيلفا))، و ((مكركروم))!
ـ وأنت.. رأيك إيه؟!
ـ والله ماني عارف.. خايف، أو على الأصح ماني واثق، والمنظر لما اتخيَّله.. يا لطيف! تضحك ((إلهام)) بصوت مرتفع.. فوضع أصبعه على شفتيها محذراً:
ـ الولد نايم، لا يصحى على صوتك.. إيه اللي بيضحكك؟!
ـ أنت يا خالد.. أما لو كنت فاتح عينك في أيام طفولتك الأولى، أقصد لما أخذك والدك للعم سالم.. كنت تعمل إيه؟
ـ تعرفي.. أظن أني طالع لوالدي!
ـ كيف.. وليه؟
ـ أبويا خلاني أكتر من ستة شهور، وهو متردد.. ياخذني للراجل علشان يطهرني، والا لأ، وأمي زيِّك كده.. كل يوم تشعلها خناقة معاه، وستي- أمها يعني- تحرضها على أبويا، وفي الآخر.. أخذني جدي وعمل اللازم!.. وأبويا ما رجع البيت إلا بعد نص الليل، لما أتأكد أني نمت!
ـ خلاص.. أنا موافقة، اعمل مثل ما عمل والدك.. المهم الولد نجري له اللازم.
ـ لأ.. طيب. إن شاء الله يوم الخميس آخذه للمستشفى، وأسلمه للطبيب، و....... أهرب!
ـ تهرب فين؟.. والله رجلي على رجلك!
ـ طيب حاسبي.. رجلك على رجلي بالفعل!
ـ ضربه!!
ـ ضربه ليه.. أنت حكايتك إيه الليلة؟ لمتى راح نجلس كده.. للصبح نستمر نتكلم في موضوع رجولة الطفل النائم الآن في أمان الله؟.. ضاعت المسلسلة، والفقرة اللي بعدها في كلام سخيف!
ـ قوم طيب علشان ننام!
ـ ننام بس.. ما في حاجة كده قبل النوم.. علشان الأحلام تجي حلوة!
ـ حاجة إيه.. أنت ما تهمد من السهر؟!
ـ أقصد يعش.. عندي موضوع شخصي بدي أتكلم معاك فيه.
ـ أعرفه... إنه مرفوض، مرفوض يا ولدي
ـ يعني لازم استعمل سلطة الرجل صاحب البيت والكلمة؟!
ـ والله إنك طفل.. ما تختلف عن ولدك ((فارس))!
ـ اختلف في حاجة واحدة.
ـ يحنِّن!
* * *
في صباح يوم الخميس.. حمل ((خالد)) طفله بين ذراعيه إلى العربة، واحتضنته أمه في صدرها، وفي عينيها دمعة حائرة، وإشفاق على ضعف طفلها.
ولاحظ ((خالد)) الدمعة الحائرة في عيني زوجته، فابتسم، وهو يقول:
ـ وليه البكا.. ما هو أنت قبل يومين كنت يا ست الستات راجل شجاع.
ـ صعبان علي.. يبكي ويتألم، أنا أم!
وسلَّما ((فارس)) إلى الممرضة، لتدخل. به إلى غرفة العمليات، وأمسكت ((إلهام)) بيد المقعد، وحين تلفَّتت تبحث عن زوجها.. اكتشفت غيابه.. بحثت عنه في ردهات المستشفى فلم تعثر عليه.
ومضى الوقت بطيئاً عليها.. نصف ساعة شعرت أنها نصف شهر.. حتى أقبلت عليها الممرضة مبتسمة، تحمل ((فارس)) بين يديها!
ـ قالت للممرضة: وبتضحكي كمان.. ما أجبر قلبك!
ـ قالت الممرضة وهي لم تفهم كلمة مما قالته: ((فري قود.. ذس اس جوكي))!
ـ همست: الله أكبر عليك.. عينك فارغة!
وحملته.. تود لو شقت صدرها، وأخفته بداخله.. وخرجت من باب المستشفى تفتش عن ((خالد)).. حتى رأته يجلس داخل العربة متوتراً، وما إن رآها حتى هرع إليها يحمل ((فارس)) وهو يقول بلهفة:
ـ بشريني.. ليه ما بيصرخ؟
ـ قالت: عقبالك مرة تانية.. يبدو أنهم نوَّموه.
بدَّل ((خالد)) ثيابه في دهشة من زوجته، وهي تسأله:
ـ إيه.. مضرب عن الخروج؟!
ـ اليوم الخميس.. نسيتي إنه ما في عمل؟!
ـ ما نسيت.. لكن، من متى بتجلس في البيت!
ـ واحشاني.. يضايقك جلوسي؟
ـ بالعكس.. وحيث كده، من فضلك خد ((فارس)) بجنبك، وانتبه له، وأنا أطبخ!
ـ حاضر.. لازم تشغليني يعني؟
ـ بلاش.. تفكر تعمل إيه؟
ـ أفكر أجلس معاك، ونتكلم، و......
ـ فهمت... انتبه للولد، لأنه راجع من عملية!
ـ وأنا؟!
ـ انت؟.. انت ما عملت عملية يا روحي!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1646  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 67 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.