شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر....بدفء "الحقيقة"!
(1)
● كان النهار يقظاً حتى الإرهاق.. يقظة مرهقة بكل ما فيها من أشياء تهمنا، وفي غمرتها.. هناك محاولات الناس. يطارد بعضها بعضاً، وهي لا تعدو أن تكون "مجرد" محاولات!!
والمحاولات نستخدمها في حياتنا... لتقنين اهتمامنا، ونجدها في يومنا، لنندلَّ- المعرفة - بها، ونطأ عنق بصيرتنا!!
مجرد محاولات... محاولات.. إلا أننا نعطيها مكان الصدارة من ثقتنا، تماماً مثلما "نتوسم" فهماً وخلقاً في مخلوق عرف أسلوب "الاندراج" بين الناس... فإذا هو لا يمكن أن يكون سوى محاولة "إنسان"، وإذا هو وسط الناس: "مختصر إنسان"!!
إننا لا نتمسك أحيانا بصلف الأخلاق فينا... لكننا "نحاول" فقط أن نكون أصحاب أخلاق تتسم بالصلف... فإما أن نتمكن من فرضها على الناس، وإما أن نبدو بها "محاولة"، والبعض يمتلك القدرة على تحويل محاولاته إلى مزاح!
ونحن لا نثق في صمود النفس والإرادة... إننا نخجل أن يفشل صمودنا، لكننا بعد ذلك لا نهتم إذا تحقق الفشل... فقد أقنعنا ذاتنا أنها كانت مجرد محاولة للثبات على رأي، أو الوقوف بفكرة، من الذي يحاول أن لا يتعرض للفشل.
وفي عواطفنا ضباب... أسبابه هذا الانفلاش الذي أوغر صدر الحقائق، وشوه خطوط الجمال الإنساني في النفس، ومزق أثمن لوحة في الوجدان اسمها: الثقة!
لقد استمرأنا أن نحاول دائماً... وفي البداية كانت المحاولة تعني الاجتهاد، والمغامرة والتوثق... أما اليوم فإن أشياءنا هي مجرد محاولات. أسرارنا تحكمها "محاولة" كتمها، والإبقاء عليها. الغموض جعلناه "محاولة" لقراءة الشخصية. والتحديق في زوايا التعامل الاجتماعي، وحتى في زوايا النفس تحول إلى "محاولة" لا يهمنا كثيراً في أعقابها أن نزيد رصيدنا المشرق بين الناس، أو أن نفتح نافذة ضوء في النفس لتحيا أكثر!!
إن يقظة النهار في أعين الناس "محاولة" للتذكر... يفيق كل واحد، ويتذكر ما ينبغي أن ينجزه من عمل ليضمن يوماً قادماً لا يعرف عنه شيئاً، ويعطي للناس ما عنده من (بزنس!!)... باعتبار أن هذا انطباع الزمن، ويفكر: لماذا لا يتخابث مرة ليؤكد إلمامه بشؤون الناس في نهار كله شمس، والذين يعيشونه "يحاولون" زرع حدقاتهم في عين الشمس... مع ضرورة المحافظة على الرؤية الكاملة؟!
في يقظة النهار... يشمخ الآدمي بمقدرته على الحركة، والتنقل، وقرع المصالح، والاستفادة من نتائج البشر عندما يفكرون أن هذه حياة يلتزم فيها الواحد بنبضه، وببصره، وبشرايينه، ولا بأس أن يموت معنويا، أو يموت خلقياً، أو يموت بالسكتة... فهو قد حاول أن يعيش للغد!!
وفي هذا الوضوح المرئي... يزعق الآدمي، وهو يسرع الخطى، وهو يبتسم، وهو يحقد، وهو يتعامل... يصرخ باحثاً عن الحقيقة، وقد ارتكب كل تلك التصرفات... محاولاً، متناسياً عدة حقائق قذفها في أعماقه، وقفل عليها غطاء الشعور الباطني!
(2)
إن الحقائق لا تتلاءم مع المحاولات.
إننا لكي نؤكد حقيقة، أو نسعى للفوز بحقيقة... يتوجب علينا أن نتيقن من خطانا، ومن تصرفاتنا، ومن أفكارنا، ومن نوايانا كذلك. نعطي ما يتفاعل في النفس، ونمزجه بما ينعكس علينا من الآخرين... لنخلص إلى حقيقة لا تقبل الجدل...
غير أن الكثير من النفوس أعيتها المحاولات... فرضت عليها انطباعاً لازمها، وعليه ملامح الاضطراب... كما قطعة الصلصال في يد طفل يريد أن يحولها إلى شكل... إلى قسمات... إلى صورة، لكنه ليس أكثر من طفل "يحاول" وهو لا يعرف شيئاً من فن النحت، أو الرسم.
إن أمراضنا الذاتية ليست هي حقائقنا... بل الحقائق نفسها أصابتها عدوى المرض ذاك... فطمرت تحته، وتقلصت، وأصبحنا مرضى، وأصحاب حقائق ضائعة... لا ندري أنها في أعماقنا تئن تحت ركام من المرضى!
كل عنعناتنا وآلامنا، وشهواتنا، ورغائبنا، وطفرة الفرحة... كلها حالات نحياها... تلون ذات الحقيقة، وتعطينا حق الملكية لتلك الحقيقة.
إن الحقيقة دائماً بلورية وشفافة، وصريحة، وكاميرا تلتقط حالات الإنسان معها - امتزاجاً واتحاداً - لتكون الصورة بعد ذلك... صورة حقائقنا، وعليها حالاتنا، ومعها كل الأشياء التي ادعيناها، واختلقناها، وتألمنا منها، وفرحنا بها!!
وعلة حقائقنا - من بذور السوء، والحقد والإلتواء في نفوسنا - إننا نمرض حقائقنا بعللنا النفسية، أو المسلكية، أو كما قال الرافعي: "في النفس الإنسانية لا تمرض الحقيقة إلا من سوء التخيل فيها... كأن نعمة الخيال إنما وهبت للإنسان لتخرجه من حدود الحقائق، فيفسدها، ويفسد آثارها فبه"!!
وقبل "الرافعي"... تعاطي "جوته" نفسه، فقال: "إنني اتجرع علقماً"، ثم استطاع أن يتحرر من عقابيل كثير من "المحاولات" التي مارسها في حياته قبل أن يصبح صاحب ذهن ناضح.
وجلس ذات ليلة يتأمل حياته... كانت فتاته التي وهبها قلبه قد توارت خلف ستائر زمنية أسدلت قبل فترة قريبة من تلك الليلة، وفي وجدانه ما زال "صدى" قلبه المتهاوي إلى القاع، وما زال ذلك الصدى يؤرقه الليل، ويمضه في النهار.. كان يبحث في أحضان الليل عن "الحقيقة"... كان يتساءل:
ـ ما هي "حقيقة" هذا الصدى... هل هو شعور لم يزل يتقد، ويتألم، ويتعذب بحبها، ورحيلها، أم أنه مجرد صدى... نعتبره ذكرى لأيام كانت وغابت، كما تغيب الشمس آخر النهار، وكما يحتجب القمر قبل بزوغ الفجر؟!
لقد تعاطى "جوته" نفسه فنزع منها كل "المحاولات" التي تراكمت من زمن، وما قاله الناس من أحاديث كانت تلاك في أفواههم كجلد العنز التي نفقت من أيام، ونزع "محاولات" الآخرين للنيل من سمعته، واسمه، وحياته... فكان ما نزعه قطعة فحم تسللت إلى غذائه فلم يلحظها (!!).
وحينما استلخص "جوته" نفسه...عادته ثانية تساؤلات عن هذا السهوم الذي يجره في ليل وديع منصت!!
(3)
إن الليل ينتصر للحقائق دائماً.
إننا في أحضان الليل نترك الحرية لتصرفاتنا الخاصة، وهذه حقائق!
وفي الليل نفكر في الصور والخواطر، والآراء والأماني التي نداريها عن الناس كخير... لأنها أسرار، وهذه حقائق!
وفي الليل نفكر في الصور والخواطر، والآراء والأماني التي نداريها عن الناس كخير... لأنها أسرار، وهذه حقائق!
وفي الليل نمتلك شهواتنا بكل الأبعاد، وقد كنا في يقظة النهار نخبئها... وهذه حقائق!!
لهذا... وقف "جوته" - كما روى في كتابه "آلام فرتر" - أمام النافذة وتطلع إلى السماء الموشحة بالنجوم، وفكر كيف يهز هذا الصمت القاتل؟!
إن "حقيقة" من حقائقه تصفو هذه اللحظة من كل "المحاولات" التي كانت في نفسه، ونزعها. حقيقة... تعطي ظلالا لإكمال معاني اللوحة، وفيها يقف "جوته" يقول بكل ثقة ، وإصرار:
ـ "لا يمكن أن أحيا هكذا... ليست هذه حقيقتي.. إنني أظمأ. إنني أبحث عن رواء.. عن عطاء... عن منهل لروحي، وفكري، ونفسي، أينك أنت يا حب؟!".
ويضيف "جوته" بعد ذلك ، وفي الفصل التالي... فيروي أن ذلك كان تعبيراً عن إحدى حقائقه،وهو لم يستطع أن يؤطر ذلك التعبير، وتلك الصورة بالكلمات والنطق، إلا لحظة صفائه وخلوده إلى أصالة النفس فيه... بعيداً عن كل محاولة، واقتراباً من صدق ما نشعر به، ومن حقيقة ما صاغنا كإنسانيين... نحس، ونتألم، ونفرح، ونحب!!
(4)
إن البعض من البشر يعتقد أنه محافظ جداً... فيعود إلى حقائقه، ويدثرها، ويغطيها، ويهيل عليها تراكماته النفسية، ثم يقف بين الناس ويقول:
ـ إنني أخاف على حقائقي...
إنني أحافظ عليها، وأحميها من السفور والتعرض لنظرات الناس وكلامهم... لهذا أخبئ كل حقائقي بعيداً... بعيداً، وليعتبرني الناس بلا حقيقة!!
لكن هذا إجحاف بالنفس البشرية، وتسلط على إبداع الإنسان وهو يتوق أن يكون حضارياً، وإنسانياً، وخلقياً، ومدركاً لمعاني ضرورة الحياة.
إن الحقيقة ليست من "الحرملك"... إنها لا يمكن أن تكون زوجة في بيت يحافظ على "مكياجها"، ويهمل قيمتها، وفعاليتها!
لكي لا تختنق الحقائق في أعماقنا، فنموت برائحة الاختناق... يجب أن تكون حقائقنا عارية!
إن الحقائق ليست انبهاراً... نقف لنتفرج عليه، بقدر ما هي "رحم"، إذا أردناه أن يخصب، ويولد... علينا أن لا نكون مرضى بالعقم، أو أن لا نكون مرضى بالتخنث النفسي!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :932  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 55 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[صفحة في تاريخ الوطن: 2006]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج