شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر...بدفء ليلة!
(1)
● من فوق سياج شرفة بيتها... انطلقت نظراتها تتأمل الكون الفسيح أمامها.
كانت تلملم شجونها، وخواطرها، وتشرد مع تأملاتها.
لماذا يخفق قلبها الآن.. ونظرتها تطارد غيمة في السماء؟!
طربت لتغريد عصفور.. كان يحط على فرع شجرة "ينم" في فناء بيتها.
ـ همست لنفسها: هذه تباشير الشتاء. كم طال صيفنا هذا العام؟!
أم ترى هو الصيف الطويل، الممل دائماً... يكتم الأنفاس، ويقسرنا على الاحتماء منه داخل جدران غرفة... يضج فيها صوت جهاز التبريد؟!
كم تاقت إلى منظر الأشجار العالية التي تتراقص أغصانها بإيقاع النسمة.
تاقت إلى زقزقة العصافير...
هذه التي ترسل ألحانها مشتاقة.
حتى الغيوم... اشتاقت إليها، لكثرة ما بقيت السماء مجلودة بسياط الشمس الصحراوية اللاهبة.
(2)
هذا القادم الحبيب: الشتاء...
بقيت تترقبه، وتتلهف إلى لقائه!
ـ هل تحبين الشتاء حقاً إلى هذه الدرجة من الفرح به؟!
سألها... وهو يتأمل اتساع عينيها السوداوين كعمق الليل!
ـ أجابته: بمقدار حبي لك. أنت والشتاء واحد!
ـ قال لها ضاحكاً: يا إلهي... هل أنا بارد إلى هذا الحد؟!
ـ قالت: بل أقصد إنك تشكل في حياتي: بحثي عن الدفء.
أحب الشتاء، وأعشقه... لأنك فيه تدفئني.
ـ سألها: والصيف؟!
ـ قالت: يشعرني وكأنني بلا سقف... وكأنك تركض عني بعيداً.
ـ قال: فقط... هذا كل شيء؟!
ـ قالت: الصيف عريٌ، وتناثر، وهروب من الحرارة، لكن الشتاء سكن، واحتضان، وتوحد كالحب.
في الشتاء... أتحول إلى فراشة تطير من زهرة إلى زهرة.
يهطل المطر... فأشعر به يغسل قلبي، ويزيل همي... يبهجني.
أتعمد المشي، والمطر يتدفق... أحب التدفق، ربما لأنني صريحة وواضحة... فتلامسني هذه القطرات، أو الزخات لتغسل وجهي، وتغسل دموعنا.
ـ سألها: ولماذا الدموع في لحظة الشعور بالفرح!
ـ أجابت: للفرح دموع أيضاً...وهذه الدموع هي بطاقة الصدق، وهي أيضاً الخوف من فقد الفرح!
ـ قال لها: وهل تخافين أن نفقد معاً لحظة الفرح التي جمعتنا بكلمة حب؟!
ـ قالت: أنت الذي تخيفني!
سألها: أنا... كيف؟!
ـ قالت إنك لا تفتأ تردد على مسامعي كلمتك هذه: لا تتركيني. فلماذا تخاف أن أتركك؟!
شرد ببصره بعيداً... كأن السؤال سرقه، وطوح به إلى ذلك المجهول.
وضعت يدها على كتفه... تهزه، تسأله مندهشة:
ـ عمري أنت... هل تخاف من حبيبتك... من إنسانة اقتحمت عالمها المزدحم بالصور والذكريات، وسرقتها منهم جميعاً، وامتلكت خفقة قلبها لك وحدك؟!
تطلع إلى وجهها الذي حين تشع منه الابتسامة يعثر هو على وجوده. تأملها طويلاً، خاف أن تنزلق تلك الدمعة الأثيرة من حدقتيه.
ـ سألته ثانية: أرجوك... أبعد كل الأوهام عنك، صدقني لا أطيق فراقك لحظة واحدة.
ـ قال: أعرف ذلك، وأحسه الآن، ولكن.....
ـ قالت: ماذا؟!
ـ قال: أخاف من الغد... أنت رقيقة، وعاطفية جداً، وأنا مازلت أفكر في هذا الدخول السريع!
ـ قالت: تقصد... دخولك في حياتي، ودخولي؟!
ـ قال أقصد ذلك ولا أقصده، ولا أحكي لغزاً، ولكنني اندفعت نحوك منذ اللحظة الأولى. أحببتك بعد اللقاء الأول، وحين دثرت كفي يدك شعرت أن دمي ودمك صار شرياناً واحداً. ولحظتها تمنيت لو كانت لنا - أنت وأنا - يد واحدة، وقلب واحد، وفكرة واحدة، وخفقة واحدة.
ـ قالت: وهانحن نعيش معاً!
ـ قال: صحيح... لكن حياتك بما أحسه من شرودك أحياناً... تبدو وكأن الماضي بذكرياته، وبصوره... قد سرقها، فلم يعد لي في واقعك إلا هذا الهروب الذي تفعلينه من الماضي.
ـ قالت غاضبة: تقصد إنني لا أحبك... أضيع وقتاً معك لأرتاح وأنسى؟!
ـ قال: لم أقصد هذا المعنى... بل إنني واثق من دخولي إلى قلبك. فقط... إنني أخاف اندفاعك هذا حين يتباطأ، ومن اشتعالك حين يبرد!
ـ قالت: الله وحده يعلم، وهو الذي يقلب القلوب. لكنك لو أردتني أن أبقى بجانبك كل الوقت، وكل العمر... فإنني لن أسأم منك... أشعر أن حبي لك هو صوت نضجي، وليس صوت قلبي فقط!
(3)
لفهما صمت غامر بعد هذا الحوار القلق...
كانت تضع رأسها على كتفه، وتضم يده إلى صدرها، وتهمس:
ـ أحبك. أحبك. أحبك. دعنا نسقي هذا الحب الآن، ولا تحرمنا معاً من لحظة نجد فيها نفسينا. لا تعكر صفاء وشفافية اللحظة بجدل فيه التوقع أكثر من اليقين، ومن الواقع.
انظر إلى السماء الآن... المطر يبث الحياة في الأعشاب اليابسة.
ـ قال: أنت هذا المطر في عمري... لقد أعدت الحياة والنضارة إلى أعشابي اليابسة. ولو فقدتك، فلن أعود ذلك العشب اليابس... لكن أرض نفسي ستتشقق، وتتلقح، وتنفطر بالشقوق.
ليست هناك فرصة أخيرة بعد الجدب، ورحيلك من حياتي هو الجدب. وحبك هو فرصتي الأخيرة مع الهناء، والفرح، والشعور بالوجود.
ـ قالت ضاحكة: تحبني بهذا القدر حقاً؟!
ـ قال: بل إن حبي لك يعيد إلى قلبي الثقة... يزرعني هذا الحب سنبلة عشق. وسنبلة رجولة. وسنبلة حياة، وسنبلة عطاء.
ـ قالت: لأنني أحبك... فتأكد أنني حريصة أن لا أضيع منك، حريصة أكثر أن لا تضيع أنت مني في زحام الحياة، فقد آنست بجانبك الحنان والحلم.
(4)
غادرا الشرفة إلى غرفتهما.
أحكمت قفل رتاج بوابة الشرفة والنافذة.
كان المطر ينهمر بغزارة، ويصفع الزجاج، ويتدفق فوق وجه البحر... يختلط بمياهه المتلاطمة، وأضواء المدينة من البعيد تتموه متراقصة من بين المطر، وفوق صفحة البحر اللانهائي... الذي ازداد غموضه في حلكة الليل وأسراره.
وامتدت يدها لتقفل الستائر. طلب منها أن تترك هذه اللوحة بدون حاجز.
أمسك بيدها، وأجلسها بجانبه. همس في أذنها من وراء شعرها الحالك:
ـ لقد اندفعت بحبي لك ونحوك مثل تدفق هذا المطر... فهل تعرفين ماذا وجدتك؟!
ـ قالت مبتسمة: ماذا وجدتني؟!
ـ قال: رأيتك مثل صفحة هذا البحر... ممتدة، لا نهائية... غامضة وعميقة كأعماق هذا البحر وأسراره وغموضه.
ـ قالت: لكنك أصبحت تعرف كل شيء عني. لقد تركتك تبحر في مياهي العميقة بحرِّية، بعد أن أجليت من فوق مياهي كل القراصنة، وكل البحارة، وكل السفن، وبقيت وحدك الصارية البيضاء المرفوعة، والمسافرة فوق بحاري... وبقيت أنا لك كل مسافاتك، وبحارك، وسفرك، وشواطئك.
ـ قال يسألها: وأعماقك؟!
ـ قالت: كل ما تبقى في أغوارها حطام، وبقايا، ورواسب.
ـ قال ضاحكاً: ولكن الشاعر حكى بلسان البحر قائلاً: "أنا البحر في أحشائه الدر...."!
ـ قالت: الشاعر كان يقصد "اللغة" التي وصفها وكأنها البحر.
ـ قال: ولكني أود أن أغوص في أعماقك - البحر... لأجد اللآليء، والدر.
ـ قالت: حتى أعماقي تريد أن تمتلكها كقرصان؟!
ـ قال: أريد أن أزيل منها الرواسب، والبقايا، والحطام... ليبقى الدر، وتبقى اللآلئ فقط.
ـ قالت: وتبقى أنت وحدك... أليس كذلك؟!
ـ قال: لن أكون وحدي... بل يكون عمقك هو الأكبر، وهو الذي يحتويني، وهو عالمي الكبير والشاسع.
ـ قالت: ألا تعتقد أنك تطالب بأنانية مطلقة؟!
ـ قال: الحب أناني يا حبيبتي، ورغم ذلك... فأنا أطالب بطفولتك، وبقوتك... بينما هذه الرواسب والبقايا تعكر طفولة بحرك، وتؤثر على قوتك!
ـ قالت: إن الإنسان يقوى بالحب. وحين أحببتك استعادت أعماقي طفولتها، وفرحها، ورحابة اتساعها.
(5)
رفعت كفه إلى شفتيها، وقبلتها. ولمست بإصبعها خطوط كفه المتعرجة.
ـ ابتسمت تسأله: ألم يقرأ لك أحد كفك؟!
ـ قال: لا أحب ذلك... حتى لا يتسلط الإيحاء عليَّ، ويقيدني في ترقُّب لا أعترف به
ـ قالت: خط العمر في كفك طويل!
ـ قال: يهمني أكثر أن يكون خط حبي في قلبك أطول!
ـ قالت تعطيه يدها: انظر إلى خط العمر في كفي... كيف تراه؟!
ـ قال: إنني أرى خط عمر حبي لك في كفك... وأخاف!!
ـ قالت: تاني... ألم ينته الحوار بيننا في هذا الموضوع؟!
ـ قال: لا أريد أي شيء أن ينتهي بيننا حتى الغضب... حتى العتاب... حتى الخوف يا حبيبتي.
ـ قالت: تخاف مني أيها البحار المناكف؟!
ـ قال: بل أخاف عليك... أنت البحر الذي تتلاطم أمواجه.
ـ قالت مندهشة: مم تخاف عليّ؟!
ـ قال: أخاف عليك من موجك المندفع.
ـ قالت: لئلا يحطم سفينتك، ويغرقها؟!
ـ قال: لا أحب أن أتحول بعد ذلك إلى بقايا، ورواسب، وحطام في قاع بحرك!
ـ قالت: إذن... فأنت تخاف مني، ولا تخاف علي!
ـ قال: بل أخاف عليك من تراكم الرواسب، والبقايا.
ـ قالت: أنت الآن لا تحبني.
ـ قال: أحببت الحب، لأنني أحببتك... ولا أريدك أن تدفعيني لأن أكره نفسي، وعمري... فأنت نفسي وعمري.
(6)
توقف المطر. سرت رعشة خفيفة هزت جسمها.
التصقت به، وأحاطته بذراعيها... وعلا صوت الموج يرتطم بصخور الشاطئ.
غطى شعرها الأسود وجهه!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1116  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.