شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أرملة الحب
[ـ مطلوب منا أن نتصافح بظهورنا، ويغيب كل واحد في
مفترق يوغل فيه مدى حياته.. ولا مناص]!!
ـ كانت وقفة شديدة الوقع في عمره.. لا يدري هل كان هو الذي صنعها، أم أنه إنسان قد تحول الشعور فيه إلى صناعة تعطيه المتعة المؤقتة، وترسب فيه الجرح. وتأخذه إلى مسافات غريقة في المجهول؟!
كان يتخطى السابعة والثلاثين بأيام، وكان هذا العمر قد انمحى وكأنه قد ولد قبل أيام فقط ولكن بلا هوية وبلا عنوان.. فإذا هذه الأيام القصيرة هي عمره كله. أو أنها الوجود الذي طلع وردة من بين الرمال، أو أنه الجرح الذي يغذ إلى النسيان بأربعة أرجل.
ومن المستحيل أن يتقهقر الزمن.. ولكن من المؤكد أن يترسب في الأعماق ذكرى وحنيناً.. ذكرى ألم أو حنين فقد!
إنه الآن يحمل رأسه المجوف بين راحتيه وتطفر الدموع من عينيه بلا لمعان.. زوجته الجديدة ذات الشباب الطفولي تتنقل أمامه من غرفة إلى أخرى داخل هذه الشقة التي ضاقت بأشجانه وذكر ألمه..
التفتت نحوه وهي تنحني على الطاولة وتمسح طفاية السجائر الكريستال.. رفعت حاجبها مندهشة تسأله:
ـ هل تشعر بتعب.. هل تعاني من صداع.. هل أعطيك مسكناً لرأسك؟!
إنه لا يطيق أن يجيبها..
هل هذا معقول؟.. إنها ما زالت عروساً لم تخرج بعد من شهر العسل!
ورفع رأسه ورآها بجانبه تتأمله باستفهام.. ثم سمعها تسأله ثانية:
ـ هل أنت متورط في مشكلة.. ماذا تحس.. ماذا بك.. تكلم؟ في عينيه دمعة بلا لمعان.. يتأمل وجهها الصغير.. يكاد يلمس عنفوان شبابها في قسمات وجهها، وبصوت هامس موجع.. قال لها:
ـ اصدقيني.. هل أبدو في نظرك عجوزاً.. مهدماً؟!
فغرت الفاه دهشة.
السؤال مفاجئ لكل ما رضيت به فيه ومعه.. قالت:
ـ كل ما هنالك أنك تبدو متعباً.. هل غلطت معك.. هل أنت نادم على هذا الزواج؟!
ـ قال: نعم.. إنني شديد الإرهاق، لكني عندما تزوجتك أردت أن أحيا عمراً جديداً.. أن أنسى عمري الماضي كله.. أن أنسى حياتي كلها، فكأنك زوجتي وابنتي وأمي وحبي!!
ـ قالت: ها.. لكنك رغم كل هذا لم تستطع أن تنسى حياتك السابقة. في عينيك بعض الصور التي عجزت أن تطردها!
ـ قال: لا عليك.. الأيام كفيلة بأن تلحد كل الحياة الماضية! ارتفعت نبرة صوتها بحدة.
.. قالت له:
ـ إذن.. تريدني أن أسليك.. أن أنسيك أهم مراحل عمرك.. تعني أنك لا تحبني وإنما ما زلت تحبها هي.. هي زوجتك الأولى، أو بختك الأول وهي ((عشرة)) عمرك وهي رفيقة كفاحك في الحياة على المر والحلو. وهي كل ألمك.. فإذن لماذا تزوجتني ما دمت لا تقدر على نسيانها؟!
ـ قال: من فضلك لا داعي لهذا الانفعال.. لقد انتهى كل شيء!
ـ قالت: ماذا تقصد بأن كل شيء انتهى.. هل أنت نادم على ترك زوجتك الأولى.. أم أنك غاضب لأنها تزوجت من بعدك رجلاً آخر؟!! ألم تجلس عاماً كاملاً بعد أن طلقتها وقبل أن تختارني.. ألم تفكر.. ألم يعاودك الحنين إليها.. لماذا تعذبني؟!
ـ قال: أرجوك.. لا تثيري أوجاعي، فقد تزوجتك بعد عام من التفكير، ولست نادماً أنني تزوجتك أنت بالذات..
قاطعته بصوت مشبع بالدمع:
ـ المهم أنك نادم لأنك تزوجت، وهذا يكفي سبباً لتعذر البقاء أنت وأنا تحت سقف واحد.. لا داعي أن تعذبني بذكرياتك وصداع ماضيك، ولا داعي أن أرهقك بمطالبتي بحقي كزوجة لا بد أن تستحوذ على كل مشاعرك!
ـ قال: لا بد من الفرصة.. وسوف أنسى إذا نجحت أنت في احتوائي!
ـ قالت: لا.. ليس عندي الاستعداد لأن أتحول إلى طبيب نفساني، فدعني أرجع إلى أهلي.. الآن!
فاجأه هذا المطلب.. اهتز جسده كله، حدق فيها.. وقال:
ـ هل جننت.. ما الداعي لكل هذا؟!
ـ كل الداعي في هذا.. أنني أتوقع ما سيكون.. أنني أرى الآن مستقبل الأيام معك فأرجوك أن تكف عن خداع نفسك!
ـ قال: لكني أرتاح معك.. أشعر أنك تملئين الفراغ وأشعر أنني أحبك!
ـ قالت: أنا لست شيئاً إضافياً.. كل عملي أن أملأ الفراغ. إنني أعرف أن العشرة تتفوق على الحب.. لأن العشرة هذه هي محتوى عمرك الذي ذهب كله.. هي ذكرياتك وحنينك.
* * *
وخلدا إلى الصمت. كان صوت ((المكيف)) هو الذي يملأ الغرفة، وتحركت من مقعدها بجانبه، وأخذت تطوف أرجاء الغرفة وفي عينيها دموع تلمع.. وفي أذنيها أصداء صوت أختها الكبرى عندما جاءت إليها يوم وقف والدها وأمها ينتظران إجابتها على طلب الزواج.. يومها قالت لها أختها الكبرى:
ـ تذكري إنه يكبرك كثيراً.. أنت في السابعة عشرة وهو في السابعة والثلاثين؟
ـ قالت لأختها: هذا السن هو عمر الشباب.. إنه ليس عجوزاً!
ـ قالت أختها: لقد طلق زوجته بعد عشرة عمر طويل لأنها لا تنجب، فمن يدري.. ربما أنه هو الذي لا ينجب!
ـ قالت لأختها: ولو.. لست حريصة على الإنجاب!
ـ قالت أختها: بعد سنوات سوف تتمنين طفلاً، فكل امرأة تريد أن تكون أماً.
ـ قالت لأختها: إذا أحببته فسأكتفي به وحده.. سيكون زوجي وطفلي معاً!!
ـ قالت أختها: لكنه هو لن ينسى زوجته الأولى، ليس فيها من العيوب إلا عيباً واحداً هو عدم الإنجاب، وربما منه كما قلت لك.
واقتربت من زوجها في شهر العسل.. وأمسكت بيده المرتجفة تقول:
ـ اسمع.. أنت لست لأحد.. أنت فقط لحياتك السابقة. أفهم هذا جيداً!!
وركضت إلى غرفتها تجمع ملابسها وفي عينيها دموع تلمع، ولبست عباءتها، وحملت حقيبة ملابسها.. ووقفت على باب الشقة وصوتها في صدره:
ـ هيا.. دعني أعود إلى أهلي فلقد قررت!!
* * *
لم ينطق بكلمة واحدة من بيته.. حتى أوصلها إلى بيت أهلها! لكنه إلى أين يذهب الآن؟!
البيت غرف مطفأة، وصدره غرفة حطمت العاصفة بابها، وفي عينيه ظلال كثيفة من الصور، والأصداء والدمع.. فكأنه الآن لا يرى شيئاً.. عاجزاً أن يفعل أي شيء!
الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفعله الآن هو أن يضغط على بنزين السيارة بقوة وبدون اتجاه.. كأنه يبحث عن مزيد من الظلال.. عن كثير من الظلام ليختبئ فيه، ويضيع ويفقد الحياة الماضية والعمر الجديد!
ـ (هذا أنت الآن قطع متناثرة في كل اتجاه.. فهل تذكر عمرك الماضي؟! كنت مثل زجاجة فارغة إلا من ورقة صغيرة في داخلها وقد ألقيت الزجاجة في بحر الحياة العاصف، فلما تزوجت الأولى - الأصل - كانت هي الميناء الذي استقرت عنده الزجاجة، وكانت هي اليد الحانية التي التقطت الزجاجة، وأخرجت الورقة وعليها هذه العبارة: ما هو عنواني؟!.. وكتبت اسمها تحت العبارة.. فأصبحت هي عنوانك!!
ها أنت الآن تذكر.. أنت لا تستطيع أن تنساها بالفعل.. كانت هي اللؤلؤة التي سرقتها من قاع البحر. كانت من أوائل المتعلمات.. بدأت رحلتها داخل الحياة من ظلام ((صدفتها)). خرجت إلى النور فوجدت طموحها هو صوت عمرها وتسلقت وجدانها حتى علت فوقه.. جعلته أقل من عقلها.. لم تحاول يوماً ما أن تفرض التساوي بين عقلها وقلبها، لأنها كانت تطمح باستمرار إلى العلم. كانت كبيرة كالنجاح. رزينة كالنتائج المدروسة. حلوة كرؤى الفرح، ولكنها كثيراً ما أحجمت عن البسمة. فالشفاه لها ثمن باهظ؛ أن نضحك بثمن وأن نبتسم بحزن له ثمن أيضاً، وكان الثمن الذي تدفعه باستمرار هو إحكام وثاق عواطفها وأطلق أخوتها عليها اسم: آبيه!!
وعندما تقدم لخطبتها لم يكن قد رآها من قبل.. لكن أمه قالت له بعد عودتها من بيت العروس:
ـ ما شاء الله أحسن الخالقين.. جمال، ورساوة وعقل وست بيت!
ـ وقال لها أهلها: إنه نشيط، وتاجر ناجح جداً.
أما أختها الصغيرة، فقد جاءت إليها تتقافز وتهمس في أذنها قائلة:
ـ يا بختك يا ستي. شكله يجنن وعامل مستحي لكنه يبصبص من تحت لتحت!
وعندما نظرت إليه في اليوم الأول بعد الزفاف.. رأته لحظتها كأنه يحرق كل أكواخ التردد التي أقامتها في صحراء نفسها لتراه وحده هو كل المكان.. وهو مسافة الزمان.. هو كوخها الذي يحميها من العواصف، وسقفها الذي يظللها من الهجير، وركائزها التي تعينها على التقدم بخطوات جديدة نحو الأمل.
ها أنت تذكر الآن ما كانت تهمس به في أذنك:
ـ أرى في عينيك عمري.
ويهمس في راحة يدها وهو يحتضن يدها ويقبلها:
ـ أرى فوق رأسي وجهك.. أحمله وأدخل به مدن المرايا. أرى في عينيك ابتسامتي ومللي وضعفي وتكبري وأغمض عيني فأردد اسمك)!!
* * *
الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفعله الآن هو أن يواصل ضغط قدمه على بنزين السيارة بقوة.. وفي داخله أصداء:
ـ إن زوجتي الجديدة - العروسة. لا تدري سبب دموعي هذه الليلة. إنها لا تدري شيئاً أبداً.. لقد رأت في دموعي أنني مرهق. لأ.. إنني مهدم. إنها لا تعرف الخبر الذي بلغني هذا الصباح من أختي:
ـ (هل عرفت يا أخي أن عشيرة عمرك العاقر طوال حياتها معك.. قد أنجبت يوم أمس ولداً من زوجها الثاني)؟!
ـ إذن.. أنا السبب. أنا الذي لا أنجب.. أنا المريض العاجز المعطل.. أنا الظالم لها.. الظالم لنفسي. عندما عرضتها على الأطباء لم أصدقهم بأنها ليست عاقراً. رفضت أن أعرض نفسي أنا لئلا أصدم بالحقيقة، ورميت كل الخوف عليها هي. وأضعت كل عمرها. لقد تزوجت برجل يكبرها كثيراً وتزوجت أنا بفتاة أكبرها.. يا للمفارقة!!
وما زالت السيارة تطوي الفراغ والظلام على امتداد طريق المدينة.. وهو في داخله يفرد صفحات ويقرؤها وتسقط دموعه على حروفها فتضخمها!!
ـ (قبل عام بالتقريب.. أراد أن يصعِّد الخلافات بينها وبينه. كان يختلق المشاكل.. كان يصرخ في وجهها ولم تتعود منه في كل ذلك العمر، وكان في شعورها: الدمار لو جاء إليها ملوحاً بالانفصال!
لكن كرامتها وحبها الشديد له وفجيعتها فيه.. قد نزحوا أشياء كثيرة من ضلوعها.. كل الانفاق أضحت حدوداً بينهما. كل الزمن تحول إلى دوائر مجوفة تحمل رجع الصدى لا أكثر!!
ـ قال لها مرة: أنت عاصمة نفسي وروحي.. أنت وطن أفكاري. منك استمد عاطفتي نحو الحياة كلها. وفيك أنت اكتشفت نفسي..
ـ قالت له: أيضاً أنت حضارتي وحزني.. لكن الوقت كما أحس لن يكون ملكنا، والحدث نعجز أن نصنعه معاً حياة متحدة لعمر واحد في شخصين، ومطلوب منا أن نتصافح بظهورنا ويغيب كل واحد في مفترق يوغل فيه مدى حياته ولا مناص!
ـ قالت له بعد صمت وهي تتأمله: كأنني كنت أتوقع هذه الوقفة بكل ما فيها من شدة الارتطام.. كنت أحس في عامنا الأخير هذا أنك ترغب في البقاء وحدك وأكون أنا سبب مجاعة كل ما تنازلت عنه.. وإنني أرى البحر يغرق السفن الصغيرة وأنت وأنا في الشيء المتحد كنا مثل بحر يغمر الأشياء كلها ولكنه سيغمرنا معاً فيما بعد. فإذا أنت تتحول من بحر إلى سفينة صغيرة وأنا أيضاً.
ـ قالت له أيضاً: كنت أتنازل عن عمري كله وأبقى لك وحدك حتى في العدم.. كنت وطن روحي فإذا أنت تقسرني على الهجرة من هذا الوطن، ولكنني - تأكد - لن أندم كثيراً بمقدار ما سيكون حزني هو العظيم والغامر، فلا ينبغي أن نندم على من يبيعنا، ولكن من الصعب أن ننسى أن العمر بأجمله كان هو الذي بيع)!!
وظن بعد عام على الانفصال أن الذي باعه هو شقاؤه وأنه سيجد في الزوجة الجديدة سعادة لا تتكرر.. فاكتشف أن ما باعه هي سعادته، وأنه يحيا الشقاء الذي لا يتكرر.
ـ لقد قال لزوجته الجديدة بعد ليلة الزفاف الأولى:
ـ أنت شهادة ميلادي الجديد.
وكان صوت زوجته الأصل الأولى تتردد أصداؤه في أذنيه:
ـ (لا تنسَ أن الميلاد بداية الموت.. فكيف يكون الميلاد بدون شهادة موت)؟!
أصابه التعب حتى يكاد رأسه يسقط فوق مقود السيارة. ترجل من عربته ورمى جسده فوق الرمال ونظراته تشخص إلى السماء بحثاً عن درب في الفجر ينام.. فكل الجسور كانت معتمة ولن يصل إلى الحنين من جديد!!
ـ هل هذا معقول؟.. زوجتي العاقر التي لم تلد طيلة هذه السنوات الطويلة.. تحمل، وتلد قبل أن تكمل عامها الأول مع زوجها الثاني.. معقول؟!
ـ نعم معقول.. الإنسان يتجاهل الحقيقة عندما يفتقد فيها ما يريده.
ـ ولكن.. هل صحيح أن الدنيا ممنوعة على الذين يعلنون ميلادهم؟!
ـ أبداً.. أنت أخرق وغبي أو أنت مكابر.. فلقد أعلنت الدنيا عن ميلاد زوجتك الأولى من جديد. ولا بد أنها سعيدة بزوجها رغم أنه يكبرها كثيراً.
ـ يعني إيه.. هي أيضاً كبيرة.. لم تعد تلك الفتاة النحيلة النضرة!
ـ من السبب في ملء وجهها بالتجاعيد؟!
ـ أنا؟!
ـ نعم أنت الآخر.. أنت ذلك الأناني الذي كان، ولست أنت المحطم النادم الذي أصبحت!
ـ أسكت.. من أنت؟
ـ أنا موتك.. أنا الذي تبقَّى لك!
ـ لأ. أنت.. أنت صداها.. أنت الذكريات.. ها؟!
ـ أنت مجنون!
لأ.. لأ.. مجنون.. ها؟!
ـ أنت مجنون!
ـ لأ.. صح مجنون ليلى ولبنى وجوليت.. ها.. ها.. ها..
مزق ثوبه الأبيض الناصع، وألقى قطعه على الرمال، وأخذ يعدو تحت ضوء الفجر مبتعداً.. غائباً في جوف الصحراء.. وقد تبقت خلفه الرمال!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :624  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج