شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصّدأ
إلى أنثى ما زالت تذاكر عواطفها!
ـ 1 ـ
أحياناً تود أن تغمض صوتها.. تحسب أن رؤيتها في صوتها!
إنها تبدأ الكلام...
بداياتها مغرية.. ليندفع المصغى إليها فيتكلم..
صوتها.. نافورة أنوثة..
هذه اللحظة تصمت فجأة، وتترك المستمع إليها يتكلم!
تدور مع نبرة الصوت.. تطوف حول كل الصور في خيالها..
حول كل الأماني التي تحلم بها وتفكر.. والمصغي إليها ما زال يتكلم!
ما أحلى الصمت فجأة في أذن من تكلمه.. لحظتها إما أن يظن بك مللاً ورفضاً لحديثه. إما أن يجذب شفته السفلى إلى منحدر، ويثق أن حديثه لامس هوى ووقعاً. تلك طريقتها في الكلام، وفي الإصغاء.. كأنها تحاصر كل صورها وأمانيها وتخفيها عن الناس لئلا يكتشفوا ما في داخلها!!
ولكن.. ما الذي يكون في داخلها؟!!
طرقات خفيفة على باب غرفتها. ونهضت من فوق سريرها تفتح الباب.
هذا أبوها يسد فتحة الباب.. طويلاً عريضاً.. هادىء القسمات.. لا يفقد ابتسامته أمامها أبداً مهما كان رأيه فيها:
ـ ما زلت تذاكرين؟!
ـ أبداً.. خلصت مذاكرة من ساعة!
ـ الوقت بعد منتصف الليل.. ألا ترغبين في النوم؟! وراءك يوم مبكر للصحو، والدراسة!
ـ ما الفرق؟! المهم أن لا نفقد حيوية أجسامنا لتكون قادرة على الحركة، ونكون نحن قادرين على الانتباه!
ـ عدنا لآرائك المتوترة؟. أحياناً أراك كعجوز شاخت كل أشيائها، وأحياناً أراك كطفلة تلهو لتحطم كل شيء!
ـ الهواء بارد!!
ـ ويش هو؟!
ـ أصابعنا تجرح وجوهنا أحياناً!
ـ لم أفهم؟!
ـ الليلة وضعت كفي داخل حذائي وتقوست، ومشيت أذرع هذه الغرفة. يداي داخل الحذاء، ورجلاي عاريتان. منظر أضحكني. لقد أردت أن أفعل شيئاً جديداً خلف هذه الجدران!!
وضع يده على جبينها يتحسسه. قال بعد صمت قصير:
ـ عسى ما خلاف؟!
ضحكت بصوت مرتفع، ثم بترت ضحكتها عندما تذكرت أن الذي يقف أمامها هو والدها. قالت ورأسها منخفض:
ـ صحتي جيدة. فقط.. أنت عودتني أن لا أتكلف معك يا أبي.. إنني أمزح. ها؟!
تطلع إلى وجهها.. حدق فيها وهي نظرات واقفة على وجه أبيها. وفجأة انفجرا بالضحك، وضمها إلى صدره، وقبلها على جبينها، وبصوته الأجش قال:
ـ نامي.. بكره أمتحان. اتركي السهر، وها الأفكار اللي ما أدري وش لونها!!
وأقفلت الباب من الداخل. المرآة أمامها.. وقفت ترى وجهها.. قامتها الطويلة. ستبتسم هكذا. ضحكتها جنان. ملامح وجهها يعني.. هيه.. مقبولة. ليست وحشة.. هأ. هأ. تتذكر زميلتها في الفصل.. قالت إن وزنها تسعون، والحقيقة أنها أخفت عشرة أخرى، مسكينة، لكن دمها خفيف.. العام الماضي جاءها عريس ولكنها رفضت. قالت إنها ستكمل دراستها. لا بد أنها خائفة من النتيجة عندما يراها!!
ـ ما هذا السخف؟! أنا مالي والناس. يمكن البنت حظها حلو. الحظ ليس في الفتنة والجمال المنظور وإنما في.. في إيه؟! الحظ في الحظ..!
ـ 2 ـ
تبتسم بذهول.. الليل يسقط في الصمت. ما أحلى الصمت.. إنه حديث طويل لا ينتهي. لا يخرمه الملل. ساعة كاملة وهي تسافر في رحلة صمت. تحب أن تخلو إلى نفسها دائماً.. كل البشر - لحظتها - يمرون من أمامها.. كل الوجوه التي اصطدمت بها، والتي لمحتها، والتي حدقت فيها، والتي تتخيلها والتي صامت عليها.. زحام مرهق. الإنسان يبحث عن وجهه منعكساً على وجه آخر.. وجه واحد من كل هذه الوجوه. هذه المرآة في غرفتها سخيفة.. إنها تعكس لها وجهاً لا تعرفه.. لا تعطيها وجهها. وجهها تراه على وجه آخر!!
البحث مضنٍ، وغير مضمون!!
الهواء بارد رغم أن النافذة مغلقة وبوادر الصيف تلوح. بارد... بارد!
ـ من هو؟!
ـ ذلك السخيف. كل كلماته فقط هي: أنت حلوة.. جميلة.. فتنة يقظى!
يقول الشاعر بلهجة سمجة. المرأة يغرها الثناء. تاريخ قديم، وكلمة مهشمة لم يعد لها وقع. المرأة اليوم تنظر إلى المستقبل.. كيف تتعلم.. كيف تكبر مفاهيمها.. الخروج من التفاهة إلى الهدف.
مرة قال لها:
ـ والرجل.. ألا يبقى في النهاية هو مطمع المرأة. ومحطتها الأخيرة؟!
ـ صحيح، ولكن بعد الاختيار المركز!!
الهواء بارد، والليل يزحف فيسرق الزمن. لا.. نحن الذين نسرق الزمن. اللحظة التي نشعر فيها هي الزمن. وهذه اللحظة مسروقة.. لأنها صور وليست شيئاً!!
ـ قالت لأبيها: بعد الشهادة سأتخصص في الأدب!
ـ قال لها: آداب؟! هذا يا بنتي ما يأكل عيش. الطب. الصيدلة. التدريس.
ـ قالت: الآداب. أحب الإنجليزي وسأدرسه!
ـ قال: الإنجليزي تأخذينه في الطب. ترى فلوسك كثيرة إذا تخرجت وفتحت عيادة. البلد تحتاج لطبيبات.
ـ 3 ـ
ضربت رأسها بالوسادة. إنها تعلم أن (مجموعها) كان لا يؤهلها لذلك... لو أنه يريدها طبيبة.. ما كان وافق في العام الماضي على زواجها. ما أتعس تلك الأيام. جاءها بشاب يحمل شهادة جامعية.. تخرج في نفس العام، والتحق بوظيفة. ذلك الأبله.. ابتسامته بلهاء. كلامه كالصمغ. كلما قالت له كلمة.. التفت إليها وقال:
ـ الضَّاهْ.. كلامك حلو!!
أخنف!!
حتى أفكاره مصابة بـ (الخنفة).. عندما يتكلم يهتز كله.. كالسيارة الباردة التي تنتفض وهي تدار!
يا الله.. ما أتعس امرأة تحلم بمثل هذا الطراز من الرجال. من كلامه تتذكر وتقهقه في غرفتها بجنون: أنا حطوني في المرتبة الدابعة - يقصد الرابعة! - رئيس قسم. وعندي (سيانه) اشتديت لها مكيف بمائتين نيال - أصل جده حن - يقصد حر! - يا سلام عنا لندن.. البراد هناك لذيذ!!
ـ جاله القرف. مشروع بني آدم توقف نموه الحسي!!
الليل بطيء. نسيت هذه الحكاية. طوال عام كامل، منذ أن رفضت الاقتران بهذا الأبله! إنها تتذكرها عندما ترغب في الضحك. حتى الضحك قيصري. لا بد أن تفتح صدرها وتزغزغه لتضحك!!
ما الذي في داخلها؟!
صمت.. أسطوانة تدور بلا صوت.. ولا تتوقف.
ينتظرن.. كل البنات ينتظرن العريس!!
ـ قالت لها أمها قبل أسبوع!!
كيف تتزوج.. لا تريد الآن.. الآن هذه الكلمات تقرع رأسها: (إنك لا تستطيع أبداً أن ترى الشيء ذاته بل صورته فقط. والصورة ليس هي الشيء)!!
الساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل. غداً.. تقف (الأبلا) وسط الفصل.. تشير إليها قائلة:... أنت.. كيف تجرين تجربة لإثبات أن ثاني أكسيد الكربون بقية السؤال لم تصل إلى سمعها. أذناها ليست مثبتة في رأسها. إنها تحتاج إلى ثاني أكسيد الكربون في عقلها. أفكارها تختنق. صورها تترنح!. ستسمع تهزيئاً من (الأبلا) و.. ستبتلعه!!
ـ 4 ـ
ـ ماذا قلت يوم أمس؟. أعد تلك الكلمات الغاضبة!!
ـ عندما أتكلم تصمتين فجأة.. اضطرب. أشعر أن كلماتي لزجة وأنك تصدينها لئلا أواصل الكلام. اكتشف بعد ذلك أنها غزيرة في داخلك!!
ـ كنت أسخر منك. أتعمد أن أغضبك.. تبدو مضحكاً هكذا!!
ـ لأنني أقول شيئاً لا يعجبك، أو لأنني أسمعك كلاماً يخيفك فتهربين منه؟!
ـ طابور من (الأحصنة) أنت.. تنطلق أسئلتك فلا أرى إلا غباراً كثيفاً!
ـ أنا لست عاصفة!
ـ لم أقل هذا. أنت صعب.. تجعل لكل كلمة تفسيراً.
ـ لأني أريد وضوحك. أن تكوني معي الطريق، والمعنى، والاستراحة والأنثى!
ـ رجعنا للشعر؟! الله ها الله.. شوي وتجمح!
ـ العثور على أنثى نافذة.. مضنٍ جداً!
ـ وتشتمني أيضاً!!
ـ قصدت ذلك.. لتتخلصي من الدوائر الحلزونية!
ـ أسكت.. التيار في داخلي مجنون!
ـ تخافين أن يتحطم فيك كبرياؤك؟!
ـ العاطفة لا تعترف بالكبرياء، ولكني انسحب منك لئلا تضيعني!
ـ أنت ضائعة عندما تكونين بعاطفة معقدة.. أنت تهربين من نفسك!!
ـ أسكت قلت لك. هناك فرق بين الانسحاب والهروب!
ـ الهروب معناه أنني استوليت على كل أشيائك!
ـ تصبح على خير. هذا انسحاب لا عودة بعده!
ـ 5 ـ
رفعت رأسها نحو النافذة. غابت رؤيتها في سواد الليل. كل ما في رأسها، وصدرها يتشابك، ثم.. (يسقط في الظل). إنها تكره أن تعطي لأشيائها ظلالاً كثيفة. ما الذي جعلها تستعيد ذلك الحوار؟! قالت رأيها في تلك الليلة: إنه رجل دسم.. رؤيته جيدة، وفهمه رائع، لكنه مراوغ ومغرور. لا.. بل إنه أحياناً سخيف لا يعرف ما يقول. يتلجلج، يضطرب، كأنه لا يقيم وزناً لشيء، أو لا يعرف شيئاً!!
مضى يومان.. فيهما كانت تهبط حتى تشحب كل أفكارها، وتضعف عواطفها. إنها تنغمس في التبريرات الدبقة. لم يعد صوته إليها.. قالت: (ينقلع!) الإرادة أقوى!. إنها لا تحب المراوغة من الآخرين. المراوغة منها أمتع!
(من ثلاث أيام ماجاني خبر). تردد هذه الأغنية وتبتسم بتعاسة. صارت رائحة الليل رطوبة. صارت الكلمات حبل مشنقة. اليوم جاءت إليها زميلتها. ما زال وزنها تسعين!! زميلتها سعيدة.. تضحك بمرح. سألتها:
ـ وش صار.. ليه مزغوده؟!
ـ خلاص.. انتهى زمن الدراسة والمذاكرة، والغلب الأزلي. الحياة جديدة. الناس كلهم جدد!
ـ كيف؟! سلامة عقلك!
ـ قولي مبروك!!
ـ ها.. ها.. ما هو معقول؟!
ـ وش تقصدي؟!
ـ ها.. لا أبداً. أقصد أنه بدري. وين إصرارك على الدراسة، وسخريتك من الزواج؟!
ـ نصيب.. عقبالك!!
ـ ومين السعيد؟!
ـ اللي خطبني!!
عيناها بعيدتان.. تبعثرت كل الصور. اللعنة على الفلسفة. وقع أقدام في رأسها. الطريق موحش. الهواء بارد رغم حرارة الشمس ودخول الصيف. طابور من الأحصنة كلماته. لأ.. كلماتها هي. الصدأ.. الصدأ. أصابعنا تجرح وجوهنا أحياناً. (أحياناً أراك كطفلة تلهو لتحطم كل شيء): كلمة أبيها. العاطفة لا تعترف بالكبرياء.. أنت مراوغة: كلماته حينما يجمح!!
الصدأ.. نعم الصدأ لا تفسير له.
أمسكت الكتاب وأخذت تذاكر: كيف تجرين تجربة لإثبات أن ثاني أكسيد الكربون..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :704  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.