شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة (1)
عندما يكتب تاريخ الحركة التعليمية في المدينة المنورة، في العصر الحديث، فلا بد من أن يذكر فيه اسم تلك المؤسسة التعليمية التي كانت تقوم بجوار المسجد النبوي الشريف، ويتولى أمر التدريس فيها نخبة من علماء المدينة وغيرهم.
في مدرسة ((العلوم الشرعية)) التي ابتدأ تاريخها قبل أكثر من نصف قرن، كان طلاب العلم ومريدوه يتنقلون بين حلقات دروسها المتعددة. وبين تلك الحلقات التي كانت تنتشر في جامعة الإسلام الأولى.
كانوا يقرؤون القرآن عصراً بين باب الرحمة وباب المجيدي، ثم يأتون صباحاً يرتلونه في شعبة القرآن؛ ومن هؤلاء الطلاب من هو منتظم في دراسة نظرية منهم من كان يجد مبتغاه في أي صناعة أو حرفة تتفق مع إمكاناته وميوله؛ فلقد كانت مناهج المدرسة، في الماضي، تجمع - في منهجها - بين الجانبين النظري والتطبيقي.
حتى إذا ارتفع الأذان من منائر المسجد النبوي الشريف، هرع الطلاب أفواجاً يؤدون الصلاة مع جماعة المسلمين، ثم عادوا إلى حلقات الدرس يكملون ما ابتدأوه من تلق للعلم في الصباح، ولربما أمّ بعضهم تلك المكتبة التي كانت تضمّ صنوفاً مختلفة من مصادر العلم والثقافة. ولقد كان أميناً لها - في مطلع الثمانينات الهجرية - رجل فاضل اسمه الشيخ ((إنعام)).
ولئن ظلت ذاكرتي تحتفظ باسم الرجل الذي لم أكن أراه إلا لماماً، فإنني ما زلت أحتفظ بأسماء تلك الشخصيات التي كانت تدرسنا العلم في إخلاص، وتوجهنا تربوياً عن معرفة وبصيرة.
لم أنس أسماءهم؛ بل أكاد أتبين ملامحهم وسيماءهم، وكثير منهم انتقل إلى الدار الآخرة، ولكنهم ظلوا ماثلين أمامي أينما تحركت في رحلتي مع شؤون الحياة، ويتعمق في نفسي شعور لا أستطيع وصفه كلما وطئت قدمي أرض طيبة الطيبة، ومررت بالقرب من تلك المواضع التي كانت تحيط ببناء المدرسة.
ولم أشك يوماً في أن تلك النخبة الفاضلة من أساتذة العلوم الشرعية تركوا آثاراً حميدة في نفوس أولئك الطلاب، الذين وإن أحبوا في أساتذتهم تلك المعرفة العميقة فيما يؤدونه من علم، إلا أنهم لم يسلموا - بين الحين والآخر - من ذلك العقاب الذي كان ينزل بهم.
ولكنه عقاب علموا - فيما بعد - أنه لم يكن وراءه ترصد لخطأ، وتعمد لانتقام، ولكنه عقاب التوجيه الذي قوّم كثيراً من سلوكهم؛ فتخلصوا من مساوىء في المراحل الأولى من حياتهم، لو استمرت معهم لمراحل متقدمة من حياتهم لبكوا كثيراً بسببها، ولتمنوا أن يعودوا إلى صباهم - لعلهم يجدون من يتولى أمر إصلاحها بعقاب أشد، وأسلوب أكثر صرامة.
لقد عاقبني - يوماً - أستاذنا الفاضل ((بكر آدم)) - رحمه الله - وكنت يومها في الصف الثالث ابتدائي، ولكنني تعلمت من عقابه ذلك كيف أتحدث للآخرين، وكيف أحترم منازلهم.
ويوم سمعت بخبر وفاة أبي عبد الرحمن، ذرفت الدموع عليه غزاراً، ورددت مع الشاعر ((أسامة عبد الرحمن عثمان)) أبياتاً من مرثيته في أستاذ الجميع:
حمل المعلم في يديه رسالة
كانت تسافر في الدجى قنديلا
ومشى وفي شفتيه ينبجس الهدى
ويسيل مثل الدجلتين مسيلا
يروي به ظمأ النفوس وإن قضى
في ذمة العلم الحياة عليلا
ويسير والفقر الأثيم كأنه
قدر يشاركه الحياة سبيلا
فيظل كالجبل الأشم مناعة
ويظل رغم النائبات نبيلا
تمنيت أن أعود إلى قاعة الدرس؛ فأسمع شرحه في مادة الرياضيات؛ أن أعود فأتلقى العلم من جديد على يد الأستاذ القدير ((عبد الرحمن عثمان)) لأعرف كيف أكتب الإنشاء، أن أستمع إلى صوت السيد ((عمر عينوسة)) يدرسني في الصف الثاني جدول الضرب، ثم أسمع صوته الجهوري ينطلق من المنارة الرئيسية يدعو بدعاء الحق لتردد معه جوانب البلدة الطاهرة كلمات الإيمان والتوحيد.
ولم يكن وحده الذي يخرج من قاعة الدرس ليتوضأ من ماء العين الزرقاء، ثم يذهب إلى صفة المؤذنين ليضبط ساعته، ثم يحث خطاه بين خوخة ((أبي بكر الصديق)) - رضي الله عنه - و((باب السلام)) ثم يرتفع صوته هادئاً ليؤذن لصلاة الظهر.
فلقد كان هناك - أيضاً - أساتذة آخرون يجمعون بين الحسنيين؛ من نشر العلم بين طلاب دار العلوم الشرعية، وبين اعتلاء درجات منائر الحرم؛ ليؤدوا واجب نداء الدعوات لبيت الله.
من هؤلاء الأساتذة: ((عبد الملك محمد سعيد النعمان))، و((حسين حمزة عفيفي)) أمد الله في عمرهما، ونفع بهما.
كيف ينسى خريجو هذه المدرسة، مهما طوّح بهم الزمن، وتفرقوا في أرجاء هذه البلاد الحبيبة - كيف ينسون إشراقة الروح في حديث الأستاذ ((رجب أبي هلال)) رحمه الله، وانسياب المعرفة في شرح الأستاذ ((عمران))، وتمكن الأداء في تجويد الأستاذ ((خليل حبيب الله)).
أما ذلك الرجل الذي كان يقابلهم، مع كل صباح؛ يلجون فيه أبواب المدرسة، ويودعهم بصافرته عند انتهاء الدوام - فإنهم، وإن كانوا يرهبونه، ويخشون سطوته، فإن الأيام لم تقف حائلاً بينهم وبين معرفة حقيقة ما تنطوي عليه شخصيته من حب أبوي تكاد تلمسه، أو تتحسس آثاره عندما تقابله خارج أسوار المدرسة لتعلم أن الأستاذ ((سليمان سمان)) أمد الله في عمره - ليس برجل ((العصا)) ((والفلكة)) ولكنه يحتفظ بهما في الموضع الذي لا بد لأبنائه أن يشاهدوهما فيه.
ليس هؤلاء - وحدهم - الذين علمونا في العلوم الشرعية، إنما تبقى شخصيات أخرى من الأساتذة؛ تحدثوا إلينا فأحسنوا الحديث، ونظروا إلينا فكان في نظراتهم توجيه سام لنا، ولعلهم لم ينسوا أن يدعوا لنا فنالنا من دعائهم خير وبركة.
ولعلها مناسبة كريمة أدعو فيها سعادة السيد ((حبيب محمود أحمد)) المشرف على هذه المؤسسة التعليمية الرائدة، والتي حظيت من المسؤولين بكل دعم ورعاية، أدعوه أن يعمل على تدوين تاريخها؛ منذ نشأتها الطيبة، حتى الوقت الحاضر؛ فلقد احتفظت لنا بعض كتب تاريخ المدينة بأسماء بعض المدارس التي أنشئت في المدينة، في القرون السابقة، كالمدرسة ((الشهابية)) و((الرسمية)) و((مدرسة حسن باشا))، و((المدرسة الجديدة))، و((مدرسة الصاقز لي)).
ولكن ما نعرفه عن هذه المدارس، أو مناهجها، وأثرها في الحركة العلمية، في المدينة؛ يظل نزراً يسيراً لا يفي بحاجات المتطلعين إلى البحث والدراسة، وبالتالي فإن ما تعيشه بلادنا من نهضة علمية وثقافية ترتكز - في منطلقاتها - على أصول ديننا الإسلامي الحنيف، وتؤسس مناهجها على علوم تربط تراث الأمة بكل جديد صالح.
إن الواجب يحتم علينا أن نكتب هذا التاريخ العلمي حتى تستطيع الأجيال القادمة أن تقف على دقائقه؛ فتتمكن من دراسته دراسة وافية؛ فتشعر - من خلال ذلك - بالثقة والافتخار.
إن الوفاء ليدعو كل أولئك الذين نهلوا من مناهل العلم والمعرفة، في هذا البلد، أن يكتبوا لنا، كيف وقفوا يوماً على هذه المناهل فعبّوا منها؛ فارتوت منهم عقول، وأضاءت بصائر وقلوب، ثم تشعبت بهم سبل الحياة، وتفرقت بهم منازعها، فإذا هم رواد يقولون الكلم الطيب، ويبتعدون عن سيئه.
ما أحوجنا اليوم لكلمات يقولها فضيلة الشيخ عبد المجيد حسن، وفضيلة الشيخ محمد الحافظ، ومعالي الأستاذ محمد عمر توفيق، والأستاذ عبد العزيز الرفاعي، والأستاذ محمد حسين زيدان، والأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، والأستاذ محمد حميدة، الدكتور أسامة عبد الرحمن عثمان، والدكتور عبد الرحمن الأنصاري؛ ما أحوجنا لشيء تكتبه أقلامهم عن دار العلم والعلماء في بلد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :626  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 411 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.