شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وجه مضيء من الحياة
يوم توقفت العربة عند مدخل الدار، تباطأت كعادتي في الدخول.. فلقد تعوّدت ألا أدخل عليه إلا وأنا على هيئة خاصة، ثم دلفت إلى ساحة الدار، كان كل شيء صامتاً فيها حتى تلك الأشجار المتناثرة في حديقة الدار كانت هي الأخرى متناغمة في حركتها الهادئة مع الجو الذي يسيطر على كل جزء من أجزاء الدار، وقفت على باب مقصورته وخلعت حذائي، لقد كان يبادرني - رحمه الله - في الماضي بكلمات لن أنساها ما حييت (الحمد لله على السلامة)، وعلى الرغم من تشوقه لرؤيتي إلا أنه بعد برهة كان يقول لي بنبرة مميزة وابتسامة صادقة: ((اصعد يا ابني فوالدتك هي الأخرى في انتظارك)).
أمر عجيب! هي تطلب مني ألا أفارقه في كل الأوقات التي يتيسر فيها لي زيارتهم، وهو يأمرني أن أكون باراً بها، ورحيماً في حضرتها، ومحققاً لها ما تتطلع إليه من رغبات، مع أنني أعلم أن رغباتها كانت منحصرة في خدمته، والقيام على أمره.
ويوم أوصد باب غرفتي وأستعيد الماضي البعيد أذرف الدمع غزيراً على (نساء) خلقن على الفطرة، وعشن على الفطرة ((رضاء الرجل من رضاء الله)) هذه هي عقيدتهن.
ترى كم بقي في الوجود من ذلك الطراز الفريد من الأمهات اللاتي لا يعنيهن شيء من هذا الوجود بعد طاعة الله.. سوى رضاء رب الأسرة، والاحتفاء بضيوفه، وعدم إزعاجه مما يمكن أن يدخل في دائرة ((المنغصات)) و ((المزعجات))، ويكفيه قلقاً ما يصادفه في هذا البحث الدائب ليلاً ونهاراً عن هذه اللقمة الحلال.
في هذه المرة تراجعت.. كانت المقصورة خالية، وكانت جدرانها تنطق بتلك الوحشة التي لا تطيقها النفس، ففي هذه الحياة نفارق من نحب لأمد، أو نفارقهم ونحن نعلم أنهم لن يعودوا لنا ثانية ولكن شيئاً من هذا الأمل يظل يراودنا، إلا أن الأمل يتبدد وتظل الحقيقة، ويغيب الحلم لتصحو على الواقع.
دخلت عليها في الغرفة رحبت بي - كعادتها - ولكنها انصرفت بعد برهة لتغلق على نفسها باب غرفتها الصغيرة، تذكرت عبارتها يوم حملوا إليها نبأ رحيله - رحمه الله - قالت بلسان الفطرة ((لقد طاح الجمل)) وحبست دموعها طوال أيام اجتماع الناس حولها - فهذا هو الصبر عند الصدمة الأولى - ويوم تفرق الجمع من حولها تركت دموعها تسح وأطلقت العنان لخيالها، إنها تعود إلى الوراء.. لزمن يقرب من نصف قرن، لقد تركت وراءها شجيرات النخيل، ومضارب الخيام، تركت السماء الصافية والجبال الشامخة وقوماً يبيعون متاعهم إذا لم يجدوا في منازلهم ما يقدمونه للضيف أو النزيل، وصاحب الحاجة.
وجاءت لتسكن في الأرض التي يقصدها الناس من كل مكان في هذا الوجود، تسمع الأذان ندياً، والقرآن مرتلاً، والحارة يملؤها الحب وتكاد تنطق منازلها بالرحمة، الناس أسرة واحدة لا يفرقهم فرح أو حزن ولا تساوي المادة في حياتهم شيئاً، قوم أكرمهم الله بالجوار وتفضل عليهم بالنعمة فكان الشكر على ذلك كله هو الأدب في البقعة التي لا يدانيها في الشرف والرفعة بقعة في هذا الكون.
بعد نصف قرن من الزمن لا تزال (ربة الدار) تعود مع أذان (المغرب) إن هي خرجت لأمر ضروري، تعود لصنع (القهوة) وإخراج التمر من (شنته) ووضع ذلك بالقرب من المكان الذي كان يقيم فيه - رحمه الله - ويتجمع الأحباب حوله ليملأوا أنظارهم منه، وهي ترفض أن تحيد عن هذه العادة، وإذا خاطبها أحد بقوله: ((لقد رحل العزيز يا أماه))، لا تجيب بأكثر من عبارة: (ولكنه يعيش في قلبي ووجداني ولا تفارق طلعته البهية ناظريَّ، فلا تلوموني على صنيعي).
ومن هذا الذي يلوم نفساً وفية، وقلباً صادقاً، ولساناً لا يعرف الزيف أو الكذب والتلجلج؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :580  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 300 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج