شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمد مندور.. رائد النقد العربي الحديث
كان الجو الثقافي والفكري في العالم العربي يَؤْذِن بميلاد حركة أدبية جديدة، تختلف عن تلك التي مثَّلتها ((حركة الإحياء)) والتي وُجِدَ صداها فيما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه النقدي المعروف (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، والذي كان نصيب ((شوقي)) فيه من النقد المُوجَّه إلى إبداعه، أكثر من أنداده، مثل حافظ إبراهيم، وإسماعيل صبري، ومحمود سامي البارودي، وعائشة التيمورية، إلا أن العقاد اعترف - ولو بطريق غير مباشر - على أثر ((شوقي)) في الحركة الأدبية والشعرية في مطلع القرن الميلادي السابق، ولهذا ففي الفصل الذي يسمى بعبارة ((ما بعد شوقي)) ما يُوحي بأنَّ الأستاذ العقاد مُتيقن بأن روح (شوقي) تغلغلت في العصر الذي عاش فيه هذا الشاعر الكبير، وليس من السهولة - بمكان - إنكار مثل هذا الأثر الذي تركته مدرسة ((شوقي)) في المجالين الشعري والنثري، وعندما يتحدث ((العقاد)) عن الجيل الناشئ بعد شوقي فلعلّه كان من باب التوطئة للمدرسة التي أصبحت معالمها تتحد يوماً بعد آخر - وهي مدرسة الديوان - والتي تميَّز رُوادها بأنهم كانوا يجمعون بين الإبداع والنقد، يقول العقاد عن هذا الجيل الجديد المتأثر بالمدرسة الإنجليزية في الأدب والنقد (وأمّا الروحُ فالجيل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة لا شبه بينها، وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي، كما كان يَغْلبُ على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز لم تنس الألمان والطليان والروس، والأسبان، واليُونان، واللاتين الأقدمين، ولعلّها استفادت من النقاد الإنجليز فوق فائدتها من فنون الشعر، وفنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت إن ((هازليت)) هو إمامُ هذه المدرسة كلها في النقد لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة، مواضع المقارنة، والاستشهاد ((شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي)) لِعباس محمود العقاد، ط3، 1965م، ص 192.
وإذا كان وليام هازليت William Hazlitt ((1778 - 1830م)) قد عُرف في بداية حياته الفكرية صحافياً غزير الإنتاج، ومحرّراً سياسياً في شؤون البرلمان، فإنه سرعان ما تحول إلى كاتب وناقد أدبي، واحتضنت الملاحق الأدبية مثل: Edinburg-Review ((مجلة أدنبرة النقدية)) كتاباته النقدية التي وإن لم تكن موضع إجماع من معاصريه، إلا أنه حظي بسمعة كبيرة في إنشاء فن تاريخ الأدب الإنجليزي، في الحقبة التي لم يكن مثل هذا النوع من الكتابة الأدبية معروفاً).. انظر: "The Oxford, Companion, To English Literature, Ed By Margaret Drabble Oxford 1985 P.P. 444 - 4511" إلا أن مدرسة العقاد وزملائه في النقد المتأثر بالمدرسة الإنجليزية التي يقف على رأس هرمها ((وليام هازلت)) قد أخفقت في تقديم عمل نقدي بعيداً عن الأهواء الذاتية، والميول الشخصية، فسرعان ما انقلب العقاد والمازني على زميلهما عبد الرحمن شُكري، ولم يكن حظ ((شُكري)) بأحسن حالاً من ((أحمد شوقي)) ممثل مدرسة الإحياء، والذي خصَّه ((العقاد)) بما يقرب من ((52)) صفحة من النقد اللاذع، حتى إذا فرغ العقاد من رأس هذه المدرسة وزعيمها - أمير الشعراء - أفرغ الكاتبان ما في نفسيهما من شحنةِ الغضب المُتأثرة بالخُصوم الشخصية البحتة، ونعتا رفيق دَربهما ب ((صنم الألاعيب))، بل إنَّ القارئ ليصدم جداً بمثل هذا النوع من الكتابة - البعيدة كُلَّ البعد - عما تعهد به العقاد والمازني في مقدمة كتابهما النقدي ((الديوان)) حيث وصفا مذهبهما بأنه مذهب إنساني، مصري، عربي، إنساني لأنه من ناحية يترجم عن طبع الإنسان خالصاً من تقليد الصناعة المشوّهة، ومظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة ((انظر الديوان، لمؤلِّفَيهِ: عباس محمود عباس العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، ط3، الشَّعْب، المقدِّمة))، وسبب الخصومة أن ((شكري)) كتب في مقدمة الجزء الخامس من ديوانه تحليلاً أشار فيه إلى إغارة زميله ((المازني)) ووضح فيه بأن المازني، إنما ترجم هذا الشعر، ونسبه إلى نفسه، ولقد اعترف المازني بقراءة شعر هؤلاء، ولكنه هاجم شكري هجوماً عنيفاً في الجزء الأول من كتاب (الديوان في الأدب والنقد، وعنوان نقده لشكري ب ((صن الألاعيب))، ((انظر: مدرسة الديوان، ثالوث التجديد في الأدب العربي الحديث، يسوقه محمد عبد السلام، الدار البيضاء ص 13)).
وفي الوقت الذي أطلَّتْ مدرسة الديوان برأسها على المشهد الثقافي والفكري، كانت مدرسة المهجر تُصدِر بيانها الأدبي المتمثل في كتاب ((الغربال)) الذي كتب مقدمته الأستاذ العقاد في مارس 1923م، وكانت مدرسة ((أبولو)) التي انضوى تحت لوائها شعراء مثل، أحمد زكي أبو شادي، محمود حسين إسماعيل، علي محمود طه، حسن كامل الصيرفي، إبراهيم ناجي، صالح جَوْدَت، أبو القاسم الشَّابي ((تقتحم الميدان الشعري بِنَفسٍ رومانسي جديد، هذا هو المشهد أو الجو الفكري والثقافي من أعماق الريف، والمنتمي كما يقول د. محمد برّادة ((إلى أسرة مسلمة مُحافظة، ومتشبعة بالأدب العربي القديم)) انظر ((محمد مندور وتنظير النقد العربي، ط2، 1986م، القاهرة، ص 25))، ولكن ثمة عوامل أخرى تدخل في تكوين هذه الشخصية التي ارتبط ((مصطلح النقد الحديث)) بها أيما ارتباط، فكان تأثير كتابات ((مندور)) التي برزت في ((النقد المنهجي عند العرب)) وفي ((الأدب والنقد)) و ((الأدب ومذاهبه)) و ((النقد والنقاد المعاصرون)) و ((في الميزان الجديد)) تأثيراً قوياً ومحدداً، حتى ليحق أن يُطلق عليه رائد النقد العربي الحديث.
إن النقد هو فن من فنون الإبداع الأدبي، ولا يمكن فصل الأدب عن السياق الحضاري والفكري للأمة، فهذه الفنون تشهد انطلاقتها عندما يهيئ لها السياق - نفسه - وبطريقة غير مباشرة وسائل القوة التي تمكّنها من بلوغ الغاية التي تنشدها والهدف الذي ترمي إليه، ثم إن هناك سبباً آخر لحالة الركود هذه، وهو أن بعض المحاولات النقدية لم تتضح ظروفها - بعد - لتؤدّي دَوْراً قوياً وفاعلاً في الحركة الأدبية والنقدية، وهو ما دعاه الناقد الراحل الدكتور (شكري عياد) بالنقد المتعجَّل رابطاً بينه وبين عدم التريث أو التمحيص أو الوعي بالسياقِ الغربي الذي أفرز تيارات أدبية مختلفة، قال المرحوم (عيَّاد): نقد الجيل الراهن هو بكلمة واحدة متعجّل في الأخذ من المذاهب النقدية الغربية، متعجّل في محاولة ابتداع ما يسمونه نظرية عربية في النقد، وكِلا الأمرين لا يؤخذ هكذا بالعنف وأضاف. الراحل الكبير يقول: ((الأمور تحتاجُ إلى نضج والفكر الجديد يتكوّن من شتى الروافد، لكي يَبني نفسه من داخله، وهذه عملية طويلة الأمد))، انظر: ((ثقافة اليوم، صحيفة الرياض، 22 جمادى الأولى، 1420هـ.. إن الدكتور ((عيَّاد)) يضع يده على المنهج الصحيح في النظر إلى قضية النقد العربي، وهي البناء من الداخل، بمعنى أنه لا يمكن الاستغناء عن الموروث الأدبي العربي لبناءٍ قويم ومتماسك لهذا الفن الهام من فنون الأدب ونعني به النقد.. يمكن للأديب أن يكون مبدعاً وناقداً ففي الأدب الغربي يُعتبر ت.س. إليوت T.S. Eliont، صاحب القصيدة الأشهر والأجمل في الأدب الغربي الحديث، ((الأرض الخراب)) The waste land، يعتبر إليوت أديباً مبدعاً ومنظّراً نقدياً تعرض لكثير من الأعمال الشعرية السابقة على عصره أو المعاصرة له بالنقد الجيد والبناء، وفي أدبنا العربي يمكننا الاستدلال على هذه الناحية بالأديب الكبير طه حسين، فهو في (الأيام) مبدع، وفي حديث الأربعاء ناقد. وفي أدبنا الحديث - في الجزيرة العربية - يمكن الإشارة إلى بيان حمزة شحاته الشعري) وهي المقدمة التي كتبها ((لشعراء الحجاز في العصر الحديث)) للأستاذ المرحوم عبد السلام طاهر السامي، وهذه المقدمة التي مضى على كتابتها حوالي نصف قرن من الزمن تنبئ في معانيها ولغتها عن حس نقدي متميز، لا يقل إبداعاً وتميزاً عن شعره الذي ضَمَّهُ كتاب الشعراء الثلاثة للمرحوم السامي ويسري الأمر - نفسه - على الأستاذ الكبير عزيز ضياء فلقد كان مُبدعاً وناقداً، وأجد عمله الأدبي المعروف (في أدبنا قيمة عُرفت ولم تكتشف) - يعني حمزة شحاته - مثالاً حياً لعمل يجمع بين الإبداع الأدبي المتميز - في لغته الرصينة وصُوره المتألقة - وبين النظرة النقدية الموجودة في ثنايا وصفه ((لشحاته)) ومواهبه المتعددة. لا شك بأن النكبات التي مرت بها الأمة العربية كان لها مردود سيئ على واقع الثقافة. العربية والأدب جزء من تلك الثقافة والسبب الآخر هو أنَّ بعض المنظرين للأدب والنقد في عالمنا العربي لم ينظروا إلى حقيقة هامة وهي أن مسار الأدب الغربي له خصوصياته التي لا يمكن فرضها بالقوة على الأدب العربي بعد اجتزائها من مسارها الحضاري والفكري، ففي الخمسينات والستينات بعد انتشار الاشتراكية في بلدان العالم الثالث، حاولت المؤسسات السياسية في بعض أقطار العالم العربي فرض المذهب الواقعي فرضاً، ويتحمل بعض المنتسبين إلى المؤسسات الفكرية والأدبية جزءاً كبيراً من هذه المسؤولية، فلقد قمعوا لإرضاء، المؤسسات التي أخذت بالنظرية الاشتراكية، كل من لم يتقيد بالمذهب الواقعي. وأشير هنا إلى الكاتب القصصي المعروف محمد عبد الحليم عبد الله، فلقد عتمت الأوساط الأدبية على إبداعاته لأنه رفض الخضوع لهذه الهيمنة وذلك التسلط، وكذلك الأمر بالنسبة للأديب الكبير محمد مصطفى صادق الرافعي الذي ظُلم ظُلماً كبيراً لأسباب تتعلق بالمنهج الذي أراد أن يستقل به عن الآخرين، وهذا يُفسر العقلية القمعية التي يحاول الأدباء إلصاقها بالمؤسسات السياسية، فإذاً هي تتمثل في سلوكياتهم وتعاملهم وهذا سرّ من أسرار التعثر الأدبي العربي في العصر الحديث، وهو الأمر - نفسه - عندما شاعت موجة المذهب الأدبي ((البنيوية)) فكل من لم يأخذ بهذا المذهب الذي وصل إلى بعض أقطار العالم العربي - متأخراً - وبعد تلاشي فورته في الغرب - البيئة الحقيقية لنشأته - كل من لم يتدثر بالبنيوية فهو خارج السياق ولا بد من مناصبته العداء، بينما الأمر في الغرب مختلف كل الاختلاف، فإنه يمكن في الغرب أن تتجاور تيارات أدبية عدة دون أن تضطر إلى إلغاء بعضه البعض، بل إن الأدباء الإنجليز رفضوا لخصوصياتهم الثقافية هذا المذهب الأدبي - أي البنيوية - ولم يسع الفرنسيون لفرضه عليهم بالإكراه ويمكن هنا الاستشهاد بقول الناقد الإنجليزي جورج واطسن (George Waston) في كتابه المعروف ((الفكر الأدبي المعاصر)).. يقول ((واطسن))، مما يصلح أن يكون درساً للمتحمسين من جميع الاتجاهات في البلاد العربية المتقوقع منها أو المتسرع والمفرط في انفتاحه: (ليس النقد الإنجليزي - الأمريكي - مستعمرة من مستعمرات ((باريس))، ولذلك لم يتحول الكثيرون من نقاد العالم المتحدث بالإنجليزية إلى البنيوية في الخمسينات والستينات، على حين أن أولئك الذين اعتنقوا (البنيوية) لم ينتجوا أكثر من مؤلفات قدموا فيها أفكار أساتذتهم من باريس، ويضيف (واطسن)، في السبعينات الميلادية - أن البنيوية - قد ماتت موتة طبيعية ((وعلى الرغم من أن البنيوية هي الآن مدرسة ميتة لا تظهر إلا في هيئة أشباح لنظرية، فإن بعض هذه الأشباح لاتزال تتردد على التراث النقدي بشدة تستحق المناقشة، وهي غالباً - أي البنيوية - تُقلِّل من شأن عقلانية الإنسان، أليس في هذا درس عملي لنا في العالم العربي عندما نريد أو نسعى لأن نكون أكثر حماساً وتشدداً من أصحاب الملكية الأصليين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2871  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 287 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج