شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفكر والأدب في المدينة المنورة بين الأسكوبي ومحمد هاشم رشيد
عرفت بيئة المدينة المنورة في القرن الثالث عشر الهجري أوائل القرن الرابع عشر - أيضاً - بكثرة الشعراء وكان فيهم المتميزون، فعبد الجليل برادة (1) كان يكتب الشعر باللغتين العربية والفارسية، وإبراهيم الأسكوبي (2) - التلميذ له وللشيخ العلامة اللغوي محمد بن محمود التركزي الشنقيطي صاحب الحماسة المشهورة (3) ، كان رائداً للشعر السياسي في الجزيرة العربية، ومحمد العمري (4) المحدث في الحرم والمنشد للكلمة الشعرية الجميلة في منتدى الأبَّارية (5) بـ ((السنبلة)) كان الأقدر على صياغة القصيدة بلغة جزلة وفصيحة وكان يصدر في شعره عن عاطفة صادقة للقضايا التي آمن بها مثل الولاء للدولة العثمانية - ليس حباً فيها - بمقدار ما هو كره للإنجليز وسياستهم ووعودهم الكاذبة.
وعن العُمري أخذ عبيد عبد الله مدني وهو الأكثر ذيوعاً بين مجايليه من أمثال عبد الحق النقشبندي وعلي حافظ (6) ، وإلى هذه الطبقة ينتمي ضياء الدين رجب (7) الذي تأثر بخؤولته من آل الكردي الكوراني في قول الشعر وخصوصاً جده لأمه الخطيب عمر الكردي، ويجب أن نقر بأنه كان لجامعة الإسلام الأولى - الحرم النبوي الشريف - دور ليس فقط في نشر الثقافة الدينية - وحدها، ولكن يضاف إليها الثقافة الأدبية التي لم تكن تفصل آنذاك - عن المنظومة المتكاملة للثقافة العربية والإسلامية، ولهذا نجد الشيخ عمر بن إبراهيم البري (8) يتحدث في الحرم بين السواري ويحفظ كتاب الأغاني عن ظهر غيب ويقول الشعر أيضاً. وكان بعض تأثير هؤلاء الشعراء تجاوز بيئة المدينة المنورة إلى خارجها، وفي مقدمتهم الأسكوبي وكذلك عمر بري الذي عاش قاضياً وعالماً في تونس لفترة من الزمن وهو يذكر في هذا المنحى بالشيخ عمر حمدان المحرسي والسادة الغمارية في المغرب العربي، الذين أذهلتهم مواهب الفاداني فأطلقوا عليه اسم مسند العصر، ويعرف أستاذنا محمد حميدة أطال الله بقاءه - أكثر مما أعرف في هذا الميدان.
بعد جيل عبيد مدني ظهر جيل التجديد مع أن المدني وعبد القدوس الأنصاري قطعا مرحلة مهمة في مشروع التجديد للقصيدة العربية الأصيلة - وكان هذا الجيل يضم أسماء عديدة من أمثال حسين قاضي - رحمه الله - وعبد الرحمن دفة، وحسن الصيرفي وماجد الحسيني صاحب ديوان (حيرة) الذي صدر في بداية السبعينات الهجرية ومحمد العامر الرميح الذي كان مبرزاً في إبداع قصيدة التفعيلة، ومع أن الأستاذ عبد الله بن إدريس سلكه ضمن شعراء نجد في العصر الحديث إلا أن الرميح أخذ العلم عن جهابذته في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي دار العلوم الشرعية ونطق بالكلمة الشاعرة في بيئة المدينة، وهي بيئة قادرة على أن تصهر الناس في بوتقة واحدة ولذلك صلة بأجوائها العامة والمتمثلة في قيم الإيثار والمحبة واحتضان الآخرين.
ويضاف إلى من ذكرنا عبد العزيز الربيع وعبد الرحيم أبو بكر الأنصاري في النقد الأدبي، ومحمد عالم أفغاني وأحمد رضا حوحو في كتابة فن القصة الحديثة، وعبد الله سلامة وأمين مدني في التاريخ، ومحمد هاشم رشيد (9) وعبد السلام هاشم حافظ ومحمد كامل خجا ومحمد العيد الخطراوي وأسامة وأنس عبد الرحمن عثمان، وهي أسرة تسلسل فيها الشعر عن أستاذنا الفاضل عبد الرحمن عثمان وأخيه أحمد اللذين درسا في العلوم الشرعية وأقدم المؤسسات العلمية في المدينة في العصر الحديث كما نزع بهم لخؤولتهم المتمثلة في الشيخ الراوية محمد الحافظ - رحمه الله - محمد رشيد الذي كان والده صديقاً للشيخ عبد المجيد خطاب - والد الدكتور عزت خطاب وإخوانه.
وكانا من المتميزين في العمل الفني الخاص بسكة حديد الحجاز. أبو طه كان من الشعراء الذين أثروا الحركة الأدبية في المدينة المنورة عن طريق أسرة الوادي المبارك والتي كان يعد المربي والأديب محمد سعيد دفتردار أباً روحياً لها، احتضنتها دور الرفة وحسن الصيرف والدفتردار نفسه، وكانت داره تقوم في حي باب المجيدي، وكانت باكورة إبداع الرشيد ديوان دعاه بـ (وراء السراب) وصدر في القاهرة سنة 1953م. كان جيل التجديد.. رشيد.. وحافظ.. وجحا.. والرميح. يغلب على شعرهم الطابع الرومانسي وفي نظري أن بيئة المدينة ببساتينها ومرأى المياه المنحدرة من العقيق وقربان ورانوناء، إضافة إلى تغلغل الإنشاد الديني في البيئة ذاتها، وذلك يعود إلى الحقبة النبوية حيث استقبل الأنصار الرسول صلى الله عليه وسلم بالأهازيج المعبرة عن الحب والرقة..
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا للَّه داع
وحيث قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها: عندما قدمنا إلى المدينة لم يكن فيها بيت إلا ويقول الشعر. وقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيهم غزل وأقر - عليه صلوات الله وسلامه - بضرب الدف على رأسه عندما قدم من إحدى الغزوات منتصراً، ولم يعترض على الجواري اللاتي كن ينشدن بالدف في حجرة السيدة عائشة - في يوم عيد - وهي الحجرة التي أصبحت مثوى له ولصاحبيه - رضي الله عنهما كل ذلك طبع إبداع شعراء المدينة ومن بينهم المرحوم محمد هاشم رشيد بتلك الروح الشفافة، شفافية تنبعث من بين الروضة والمقام، وتصيخ لصوت المؤذن شجياً في الرئيسية وباب السلام والشكيلية والسليمانية، وفي الليل يسري الصوت أم الشجرة والمصرع والأخوين ومن قبل من منتديات الأبارية والنورية في باب الشامي نسبة لشاعر المدينة الكبير السيد أنور عشقي (10) جد صديقنا المفكر والأديب أنور ماجد عشقي والسيد أنور الجد كان معاصراً للأسكوبي والعمري وكان بين الثلاثة المتميزين من صادق الود ما كان بين الرشيد والصيرفي وعبد السلام حافظ (11) ، ولقد كان من مناقب الأستاذ الرشيد صلته لود الأستاذ عبد السلام حتى بعد أن اشتد المرض عليه وإن لم يحل بينه وبين قول الكلمة وإبداعها.
وعندما اندلعت المعركة الأدبية في التسعينات الهجرية بين الربيع وعبد الرحيم أبي بكر من جهة والأستاذ عبد السلام هاشم حافظ من جهة أخرى والذي وصف حسب تعبيره - وآمل ألا تخيبني ذاكرة الكهولة - وصف بعض جلسات أمرة الوادي المبارك بأنها لاحتساء الشاي والقهوة، لكن الدكتور الخطراوي ذكر يومها أن تحميل الأسرة أكثر مما تطيق يعني القضاء عليها. واختلاف الرأي بيني وبين الخطراوي لا يمنعني من القول بأن رأيه كان الأقرب إلى الصواب، وخصوصاً أن الأسرة لم تكن مؤسسة رسمية وذلك قبل إنشاء نادي المدينة الأدبي، وكنت أميل إلى هذا الرأي، وعامل السن - يومها - كان يحول بيني وبين حضور جلساتها وخصوصاً أن بعض روّادها كانوا من أصدقاء والدي من أمثال الأستاذ الرفة (12) ، والبعض كان أستاذاً وموجهاً من أمثال الأساتذة محمد حميدة وناجي حسن الأنصاري (13) ، هذا الأخير أثرى بشكل واضح الحركة الأدبية من خلال كتبه ومؤلفاته عن التعليم في المدينة والحرم النبوي الشريف وتوسعته، إضافة إلى كتبه الأخيرة والتي خصصها لدراسة نواحٍ من الأدب الشعبي في المدينة مثل كتاب ((الطيرمة)) (14) . أعود إلى تلك المعركة الآنفة الذكر التي كانت مثل سحابة صيف في العلاقة بين الأستاذ حافظ والمسؤولين عن النادي لأقول: إنها لم تؤثر على العلاقة المتميزة التي كانت تربط بين الأستاذ محمد رشيد ورفيق دربه السيد عبد السلام حافظ. وتلك أخلاق الرجال وشمائل ذوي الفضل وطبائع تلك الصفوة من جيل الرّواد وأسلافه. وفي الختام لا بد من الاعتراف بأن جيلاً آخر ساهم في إثراء الحركة الأدبية في بلد الهجرة والإيمان من أمثال علي حسون الذي يعتبر عمله ((الطيبون والقطاع)) رواية لا تقل زخماً عما كتبه حمزة بوقري في ((سقيفة الصفا)) وسبق صدور هذه الرواية مجموعات قصصية حملت أسماء يطل من ورائها معانٍ يمكن أن تدخل في باب الرمز أو الإيحاء، مثل ((حصة زمن)) و ((حوار تحت المطر)) ولقد عرف الحسون أسلوب السرد حتى عندما كان يكتب التعليق الرياضي، ولعلّ قراءات الحسون ليوسف إدريس ونجيب محفوظ وغيرهم مثلت رافداً مهماً من روافد ثقافته المتعددة الجوانب، وحتى عندما كان يكتب في الوجدانيات نجد أن الأسلوب القصصي لم يفارقه وهذا ما يوضحه كتابه الموسوم ((إليها أين ما كانت)).
وإلى جانب الحسون في كتابه فن القصة نجد مجالين له في هذا الفن وظهرت كتاباتهم القصصية في وقت متقارب، وهم أنور عبد المجيد جبرتي، وحسين علي حسين والذي كان لدراسته في العلوم الشرعية أثر واضح في قوة الأسلوب ومتانته وكان أستاذ اللغة العربية في المدرسة نفسها بكر آد، يشجع على قراءة الفن القصصي، كما كان أستاذنا عبد الرحمن عثمان علي خليفته الشعرية المتميزة، يشجع مريده على قول الشعر وارتجال الكلمة فكان العلماء والأدباء والخطباء. وتمثل قصة حسين علي حسين ((القدر الشائط)) أثر بيئة المدينة بروحانيتها وعفويتها ورقتها في أدب المبدعين من أبنائها، ولقد استمد أنور الجبرتي كثيراً من أبطال قصصه من أبناء الحارة الذين جلس معهم على تلك الأرض الممتدة بين جبريل وحارة الأغوات في تلك الرحبة التي كانت ضيقة في عالم المكان المحدود، المنبسطة في عالم الروح اللامتناهي، كنت تشاهد أبناء الحارة وهم يحملون ((شكات)) الدوارق بين أيديهم، وإنهم ليسرعون في خطواتهم بين سبيل عم ((مالاه)) وحصوة ((الحرم)) وديار ((العَشَرة)).
وكانت الآذان تصيخ لصوت خاشع من المحراب، وآخر يأتي ندياً من المنارة شجياً ومثيل له من أمام الحضرة الشريفة متبتلاً، لقد وطد رأيه الفكر والثقافة والأدب روّاد أفذاذ من أمثال الدفتردار والربيع، ورشيد، والرفة، والصيرفي، وحميدة، ومن حولهم رجال من أمثال الخطراوي، والأنصاري، ومحمد صالح البليهشي الذي أثبت وفاءه للربيع من خلال موقفه النبيل في جمع إنتاج هذا الرائد بعد أن كاد يطويه الزمن، وينهال عليه تراب النسيان، ودخيل الله الحيدري الذي يعد كتابه عن التعليم بالمدينة مرجعاً رئيسياً في ميدانه، فالعلوم الشرعية ودار الأيتام كانتا مع دور علم أخرى منجماً للرجال ولكن الوفاء لهما قليل من كثير من أبنائهم، ومن الجحود ما قتل ومن النكران ما يدخل في باب ظلم أولي القربات الأكثر مضاضة والأشد فتكاً.
واليوم تنمو شجرة الإبداع في المدينة حيث سقيا الروح وغذاء العقل والوجدن معاً فترى تلك البراعم وقد استوت والثمر في قنوه ((قد نضج، فهذا مبدع قد سمع القرآن في بيته مرتلاً، والمقام تردده الختام قوياً بين سلع وأحد، وتسير به الركبان بين قباء والعوالي وقربان، لقد قطع هذا المبدع عبد المحسن بن حليت بن مسلم المحمادي، المسافة بين سفح الوادي وذروة الجبل الأشم بخطو واثق فلم ترتعش منه ولم تزل به عن الأصالة قدم، فكانت ((حولياته)) التي أعادت للقصيدة العربية الأصلية الدماء في شرايينها المتكلسة وكان الصوت الأكثر قوة وجاذبية بين مجايليه من جميع التوجهات وبين مختلف التيارات، ولقد راهن بعض نقاد ((الموضة)) على نهايته ولكنه استمر في مسيرته الواضحة المعالم في صمت ولم يلتفت إلى ضجيج إثارة هؤلاء المنظرين المتقلبين في آرائهم، فتعانق القديم والجديد في قصيدة ((الحليت)) بينما طويت الصفحة الأخرى لأن القارئ لم يجد فيها نفسه، وابتعدت عن تطلعاته وهمومه، وكان الرمز فيها طلسماً والأسطورة بين سطورها بالية والعبارات في تراكيبها باهتة واللغة على هوامشها مفككة مصنعة.
كم هو رائع أن يشارك في حمل الراية هناك أو ((هنا)) في القلب والوجدان ((يا طيبة))، مبدعون من أمثال محمد إبراهيم الدبيس، الذي أعطى من نفسه وجهده الكثير لإلمام الفكر والأدب، وأحمد العرفج الذي يجمع في كتاباته بين الفكر والإبداع، وبشير الصاعدي، ومحمد سالم الصفراني، وعيد الحجيلي، وأبو الفرج عسيلان، ونايف الزايدي، ومجدي خاشقجي وطارق حريري، وشقيقات لهم مبدعات من أمثال لميس منصور، وهناء أبو الفتوح وليلى الجهني، وكاتبات متألقات من أمثال سهيلة زين العابدين حماد، ووفاء الطيب إدريس، ونورة عبد العزيز الخريجي، وبثينة إدريس، ولعلّ السياق يقتضي أن أشيد بدور رائدات التعليم الأهلي في المدينة ومن أمثال المعلمة زينب مغربل، والأستاذة شرف علمي، فهؤلاء وغيرهن علمن بنات البلدة الطاهرة القراءة والكتابة قبل أن يكون هناك تعليم نظامي ورسمي للفتاة في بلادنا، بلاد النور والإيمان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1261  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 281 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.