شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (17)
(إبراهيم فوده) الأديب والشاعر والمفكر، الذي برز من عباءة العلم، وألقت به حلقات العلم الشرعي في البلد الحرام في وسط ساحة الثقافة منذ ما يقرب من نصف قرن، كان أبوه ((أمين فوده)) أحد علماء الحرم المكي، سمعت الأديب المرحوم حمزة بصنوي يقول عنه: كان لا يوعظ الناس بأمر حتى يطبقه في حياته وسلوكه، ومن هنا اتسمت شخصية ابنه إبراهيم بسمات عديدة من أبرزها عفة النفس، وطهارة السلوك، والصراحة المتناهية في قول ما يعتنقه من مبدأ ورأي ولكن في أدب متناهٍ وبلغة مهذبة.
ولج ساحة الأدب في فترة مبكرة من حياته فعندما كانت ((جمعية الإسعاف الخيرية)) في مكة لا تحتفل إلا بمن هم أكبر سناً منه كشحاته والعوَّاد. كان إبراهيم لا يتهيَّبُ صعود منبرها، وبعد زمن أصبح ((إبراهيم)) خطيب المحافل والمنتديات، يرتجل القول حيناً ويكتبه حيناً آخر، فكأنك تُصغي لواحدٍ من خُطباء العرب في عصور ازدهار اللغة الخالدة، سمعته يتحدث في حفل افتتاح نادي مكة الثقافي عام 1395هـ، فأُخذتُ بفصاحة القول عنده، كنت بصحبة رجل الفضل في مكة المرحوم ((الشيخ عبد الله بصنوي)) وكانت علاقة وثيقة تربط بين شقيق أبي محمد ((الأستاذ حمزة بصنوي)) والأستاذ الفوده، - رحمهما الله - وكانت صداقتهما مضرب المثل في البلد الطاهر.
ولقد دَوَّنَ المرحوم الفوده في صديقه - البصنوي - دُرَراً من الشِّعر الذي يحكي قصة صداقة نشأت في دوحة العلم والأدب وتميَّزت بالوفاء النادر، صداقة رُبما أدخلها البعض - اليوم - في عالم الأسطورة ولكنها كانت حقيقة عايشها كل أولئك الذين كانوا يحيطون بالفقيد من أصدقاء ورجال.
وكان الفوده لا يبخل بعلم يعرفه ولا يمنع جاهه عن ذوي الحاجات والمقاصد، كان يقرأ علينا من شِعْره عندما كان مخطوطاً في مكتبته التي تحوي النفائس من كتب المعرفة والأدب، ولقد عبرت له ذات يوم، عن حاجتي للاطلاع على المصادر الأولية في الأدب السعودي، التي كتبها كل من محمد سرور الصبان، وعبد الله عبد الجبار، والسيد إبراهيم الفيلالي، وعبد الله بلخير، ومحمد سعيد عبد المقصود، وعبد السلام الساسي، فكان يعيرني لبعضها ويهدي البعض الآخر بنفس راضية، ولمحت ذات يوم مكتبة في منزل الشيخ البصنوي بحي الشامية حيث كنت أقيم، فإذا صاحب الدار العامرة يقول لي: هذا جزءٌ من مكتبة أخي حمزة وصديقه الفوده، خُذْ ما شئت منها ثم أرجعه إليها، ومن هنا فإنني أدين للرجلين الفاضلين المُهَّذبين ((البصنوي والفوده)) بشيء من ثقافتي وفكري، المتواضعين، كما أدين لعبد الله بصنوي، - أسكنه الله فسيح جناته - بأبوة روحية لن أستطيع أن أوفيه حقها إلا بالدعاء له بالمغفرة والرحمة.
كان إبراهيم كصديقه ((حمزة بصنوي)).. أنيقاً في قلبه، رقيقاً في عبارته كتلك الرِّقة التي تنضح بها كتاباته وخُطبه وأشعاره وكانت دارهُ في كل من ((مكة)) و((القاهرة)) لا توصد أبوابها أمام مُحبِّي الرجل وأصدقائه وغيرهم من عامة الناس. ولقد استطاع الأستاذ الفوده أن ينقل صورة مشرقة عن فكرنا وأدبنا عن طريق تلك العلاقات التي كان يُقيمها مع أدباء ومفكرين من شتى البلاد الإسلامية والعربية، وهو في هذا الدور يشبه إلى حد بعيد الشَّاعرين المعروفين طاهر زمخشري - رحمه الله - وحسن عبد الله قرشي - أطال الله بقاءه - ومع هذا الدور الكبير الذي أَدَّاهُ الأستاذ الفوده فلقد كان - رحمه الله - عزوفاً عن الشُّهرة وأبعد ما يكون عن الرغبة في الظُّهور وهو درسٌ لبعض من يكتبون من الأجيال الصَّاعدة ويتطلعون إلى هرم الثقافة من أعلاه ولا يرتضون أن يصعدوا درجاته في تأنٍ وهدوء، مع أن بعض ما يكتبونه هو شعر ركيك وأدب ممسوخ، وهم يصرون أنهم من سلالة ((ت. س. إليوت، وإزرا باوند، ورولان بارت، وميشال فوكو ودي سوسير)). ويسأل المرء نفسه في أسى وتحسر هل هذا هو الجيل الذي سوف يخلف شحاتة والعواد وحمد الجاسر وعبيد وأمين مدني ومحمد سعيد العامودي، وأحمد جمال وعبد الله عبد الجبار، ومحمد حسن فقي وعبد العزيز الربيع ومحمد العقيلي وإبراهيم فوده، وحسين سرحان؟ هذه الدوحة العظيمة التي تساقطت معظم أوراقها ولم يبق فيها إلا القليل الذي نستظل به من تلك الأعمال الرديئة التي تُصافح أعيننا بكثرة في بعض صفحات الأدب والثقافة وتحتلُّ موقع الصَّدارة منها، بينما يظل الأدب الرفيع والإبداع الأصيل قابعاً في صدور أصحابه، أو منزوياً في الحواشي من صفحاته وملاحق تدعي الإيمان بتعدُّد مناحي الفكر والثقافة، وترفع صوتها عالياً بوجوب عدم الحجر على الآخر وإفساح المجال له، ولكن أين الادِّعاء من الحقيقة؟ فشتان ما بين القول والفعل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :606  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.