شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل العاشر
رابغ وموت الجمال والدكتور فهمي الحشاني
قبل أن نصل إلى رابغ أخذ أصحاب الجمال يرددون أنهم يخافون أن الجمال كلها سوف تموت... ولا أدري السبب حتى اليوم ولكن الذي وقع هو أننا عندما وصلنا رابغ وأنزلت الشقادف عن الجمال... رأينا الجمال تستلقي على الأرض... وتخرج ما في جوفها بكميات كبيرة.. ثم لا تمضي ساعة أو ساعتان، حتى تموت فعلاً...
قال (الجمّالة).
:ـ أنهم كانوا يأكلون من (الربيع) ـ ويقصدون العشب الذي ينبت بعد الأمطار ـ ولابد أن فيه أعشاباً سامة.
المهم أن الجمال قد ماتت وكنا قد أوينا منذ وصولنا إلى أحد المقاهي... وبسط كل منا لحافة وفراشة على الكراسي الشريط... وكان صاحب المقهى قد أفهمنا أن أجرة كل كرسي ربع مجيدي في الليلة.. تدفع كل مغرب... وهنا تدخل زميلنا وأكبرنا (محمد شريف) وتفاهم مع الرجل على أن ندفع المطلوب يوم السفر... وأضاف يقول:
:ـ لا تخاف... نحن من الحكومة... هيّه اللي طلبت إننا نروح مكة...
:ـ لكن هادي الجمال ماتت... مساكين الجمّالة كيف رايحين تسافروا مكة بدون جمال؟؟ وكانت هذه الكلمة التي استقرت في أذهاننا وأخذ بعضنا يردد همساً...
:ـ إيوه صحيح... كيف رايحين نسافر إلى مكة؟
وازدادت المشكلة تعقيداً... عندما أخذ كل من المجموعة يراجع ما يملك من نقود... ولكن من جانبي كنت مطمئناً، لأن فهمي الحشاني الذي كان مركازه على امتداد المركاز الذي أنام عليه فكان رأسي يقابل رأسه عند النوم.. انتهز فرصة استغراق الزملاء في النوم... ليفتح كيس النقود لأرى أن الجنيه الذهب وعدداً من (المجايدة) ماتزال فيه...
* * *
وكان المقهى الذي نعيش فيه قريباً من المسجد، ولذلك ما كدنا نسمع صوت المؤذن للفجر حتى استيقظنا جميعاً وأخذ كل منا إبريقاً من الصفيح، ملأناه من (الزير) الكبير بمغراف من النحاس الثقيل.. وكان قضاء الحاجة يستلزم المشي مسافة بعيدة عن المقهى والمسجد وعدد من البيوت الصغيرة من الطين والحجر.
وبعد الصلاة رأيت فهمي الحشاني يفتح حقيبة صغيرة كان حريصاً على أن يحملها أينما نكون.. ودفعني الفضول أن أرى ما فيها... ولم يكن فيها ما يهم... سوى أربطة من الشاش الطبي وأدوات طبية وزجاجات صغيرة من صبغة اليود التي تستعمل للجراح... وكذلك سمّاعة من التي ترُى معلقة على أعناق الأطباء، ولم أستغرب إذ أعلم انه كان (مضمداً) وسمعت منه إلى ذلك اليوم أنه يتمنى أن يدرس الطب... ثم يرفع يديه ضارعاً إلى الله أن يحقق له أمله الكبير.
* * *
وبعد أن أشرقت الشمس رأينا الجمّالة مجتمعين في المقهى، وكل منهم يتساءل: هل الحكومة ستعوضهم عن الجمال التي فقدت؟ وقال أحدهم:
:ـ لكن هيه ما أشترت الجمال.. هيه مستأجرتها.. وإن كان رايحه تدفع لنا شي.. ماهو غير الأجرة... هادا إذا وصَّلنا الحملة إلى مكة... ونحن مقطوعين في رابغ وتساءل آخر:
:ـ وهادي الشقادف مين اللي دفع قيمتها؟
:ـ هادي ما يدري عنها أحد.. إن جاك ظني... اللي دفع قيمتها هو (المقوّم).
وارتفع صوت صاحب المقهى يقول:
:ـ خلاص.. المقوّم هو كمان اللي يدفع لكم الأجرة وهو اللي يجي يبيع الشقادف.. في رابغ لها زباين يحتاجوها للحج. ثم التفت إلينا، وقد تجمع بعضنا يشربون الشاي بعد أن تناول كل منهم فطوره مما في (خرجه) من الحلوى والبقسماط وربما الجبنة والتمر... التفت إلينا صاحب المقهى، وقال في نبرة ضاحكة:
:ـ لكن إنتو... ليه رايحين توصلوا مكة؟
وقال أحدنا:
:ـ الشقادف موجودة... ولابد نلتقي اللي نستأجر منهم الجمال.
:ـ أصحاب الجمال هنا ـ لابد ياخذوا الأجرة قبل ما تسافروا... خايفين لا يحصل لهم زي اللي حصل للمساكين اللي ماتت جمالهم.. يعني عندكم فلوس تدفعولهم الأجرة مقدم؟...
وأتضح بعد قليل من التشاور والكلام مراجعة الموجود عند كل واحد من النقود، أننا لا نملك الكفاية من المال... وصارحنا صاحب المقهى بالحقيقة... فالتزم الصمت فترة كان يفكر خلالها ليقول:
:ـ ما عندكم غير إنكم تراجعوا الشيخ بن (مبيريك)... وهوّه أمير رابغ وانتو كلكم من الحكومة، ولابد عنده حل.
وكان رأيا سليماً فعلاً... فهو أمير رابغ.. يعني هو الحكومة... وكلنا مطلوبين للسفر إلى مكة بأمر الحكومة...
وهنا تساءل فهمي الحشاني.
:ـ لكن فين مكان هادا الأمير؟
فقال صاحب المقهى:
:ـ بعيد شويه... عند (الفرُضة)... فهمنا أخيراً... أن علينا أن نذهب إليه في منزله بالقرب من الميناء..
وقاد الحملة وبدأ تنفيذ الفكرة فهمي الحشاني الذي قال:
:ـ اسمعوا.. نحن كلنا مطلوبين للحكومة لدراسة الطب... وأنا رئيسكم.. وأنا دكتور.. هيا نتوكل على الله...
وصاحبنا دليل يعرف موقع بيت الشيخ بن مبيريك أمير رابغ... وكان بيتاً كبيراً، وإن كانت معظم جدرانه مبنية بالطين... وعلى الباب الكبير كان الحراس متمنطقين بالسيوف، وفي أيديهم البنادق، وقد جعلنا فهمي الحشاني، والسماعة معلقة من عنقه يتقدمنا جميعاً.. وقبل أن نقف كان الدليل قد أخبر الحراس أننا (الذخاتره) جاءوا من المدينة، وهم يريدون مقابلة الأمير.
ويبدو أن مظهر فهمي قد اقنع الحراس بأنه (الدختور)... فانبرى أحدهم يقودنا إلى ساحة واسعة،... ثم إلى باب مفتوح دخل منه وأشار بيده أن نتبعه... وتبعناه فعلاً يتقدمنا فهمي الحشاني..
ودخلنا مجلساً واسعاً يتصدره على (الأرض) رجل شديد السمرة بلحية وخطها الشيب وعلى رأسه ((شال)) من نوع الصوف الأبيض يحبط به عقال (قصب).
وقال الحارس يخاطب الأمير:
:ـ هذا الدختور.. ومعاه الدخاترة اللي كانوا رايحين مكة... ويقول اللي دفهم علينا جمالهم ماتت...
وتقدم فهمي من الأمير، ماداً يمينه لمصافحته فنهض الأمير وصافحه... ثم أخذ كل منا يصافحه.. وبعد أن جلسنا على الأرض كجميع الذين في المجلس... وقد أجلس فهمي إلى جانبه وقال:
:ـ يا دختور أنا بخير والحمد لله لكن عندي ولدي ـ عمره 7 سنين كان يلعب، وطاح على حجر، وانجرح... لكن الجرح ما طاب وفيه قيح... يا ريت تشوفه يمكن عندك دوا.
وجاء الصبي، يمشي بشيء من العرج... ولم يتردد فهمي في فتح حقيبته مستعداً لعلاج الجرح.. قام بتنظيفه أولاً. وعلى قطعة من القطن أراق شيئاً من صبغة اليود... وعلى قطعة أخرى وضع مرهم ربما كان مما يصلح للجراح ذات الصديد... وصرخ الولد من حرقة صبغة اليود على الجرح... فتداركه فهمي بقطعة القطن وعليها المرهم، وربط الموقع في الساق برباط من الشاش... وقدم زجاجة المرهم، مع لفة من الشاش والقطن قال للأمير:
:ـ لازم ما يفك الرباط إلاّ بكره... وهادا الدوا المرهم... تتغير القطنه. وبعد ما تحطوا عليها من هذا الدوا.. وكلها ثلاثة أو أربعة أيام ما يبقى شيء بحول الله.
ثم زاد فأقترح أن يكشف على الأمير نفسه... وضع السماعة على صدره... وعلى ظهره... وانتهى من هذه العملية وهو يقول:
:ـ ما شاء الله... الأمير في قلب العافية.
* * *
:ـ كنا ننتظر أن يأمر الأمير بالجمال التي تحملنا في الشقادف إلى مكة.. فإذا به يقول:
:ـ ما عندنا جمال هادي الأيام، كل اللي عندنا يرعى في البر... وعسى ما يحصل لها مثل اللي حصل للجمال اللي ماتت من عشب الربيع.
وبدت على وجه كل منا مشاعر الخيبة... إذ كيف نعيش في رابغ؟؟ وإلى متى؟؟. ولكن فهمي قال
:ـ ترى الحكومة هيه اللي تدفع أجرة الجمال... المهم إننا نسافر...
وقال الأمير ببساطة.. بعد أن سأل أحد رجاله... عن (أم الخير) وأجابه هذا بأنها ماتزال في (الفرضه) ويقصدون (الميناء).
قال الأمير:
:ـ خلاص... ما عندكم إلاّ إنكم تسافروا بالبحر... (وأم الخير) ساعية مبروكة، وربانها رجّال طيب... ودايما ينقل لنا الارزاق من جدة... وينقل أكياس التمر من رابغ... تمر رابغ مطلوب في جدة ومكة زى تمر المدينة ـ
وبضحكة صغيرة قال:
:ـ أمّا (الحوت)... رايحين تاكلوا حوت عمركم ما تاكلوا أحسن منه... هوه بنفسه اللي يقليه.. ويطبخ معاه الرز... نحن دايما ينزل عندنا... والعيال كلهم يحبوه..
وحين كان الأمير يتكلم عن الحوت والرز تذكرنا أن صاحب المقهى هو الذي يجهز لنا وجبات السمك... أذكر أننا لم نذق طعم لحم الخروف عنده إلا مرتين.. وكل واحد يدفع ثلاثة قروش... ومن عندنا الشاهي والسكر... وأذكر اليوم ما عرفنا أن اسمها (البطَّة) وهي الوعاء الذي يوقد تحته النار باستمرار ويتوفر فيه الماء المغلي لتجهيز طلبات الشاي للزبائن الذين كثيراً ما يبيتون ليلة أو أثنين، في ذهابهم إلى مكة أو في طريقهم إلى المدينة...
وقد كنا نشعر بالأسى والأشفاق على أصحاب الجمال التي نفقت ولكن تفتق ذهن كبيرنا محمد شريف عن فكرة سرعان ما اتفقنا عليها جميعاً. وهي أن يأخذ أصحاب الجمال التي نفقت جميع الشقادف ومعها قرب الماء... وكان المبرر ـ الذي أقنعنا به هو أن هذه الشقادف ملك الحكومة، أو المخرج الذي زودنا بها.. ومادامت الجمال قد نفقت وخسر أصحاب الجمال هذه الخسارة الفادحة، حلال عليهم الشقادف يأخذونها فيبيعونها لمن يرغب فيها من أهل رابغ للحج. وتم الأمر كما اتفقنا وقد عبر أصحاب الجمال عن رضاهم وزاد محمد شريف فكتب لهم ورقة وقعنا عليها، وفيها تمام البيع.
وبدأنا نستعد للإنتقال إلى الميناء حيث ترسو فيها السفينة أم الخير... قام كل منا بلف وربط اللحاف والمخدات وقطعة السجادة والخرج الصغير الذي فيه بقية الحلاوة الطحينية والرز والعدس والدقيق، والسمن إلخ.
وحمل كل منا أغراضه... وأخذنا نودّع صاحب المقهى الذي تسامح مع الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا المبالغ الصغيرة التي عليهم.
وكان الطريق إلى الميناءطويلاً جداً بحيث كنا نضطر إلى الجلوس للإستراحة بعض الوقت، وأخيراً... ها هو البحر.. وهذا هو الميناء.. وهانحن نرى السفينة أو الساعية (أم الخير...). استقبلنا الربان ويسمونه (الناخودة) بكلمات الترحيب ولكنه رفض أن ندخل السفينة إلا في الفجر بعد الصلاة. وكان له ما أمر. ولم يكن صعودنا إلى السفينة مشكلة.. فهناك سلم قصير معلق على طرف السفينة ـ وممتد إلى أرض الرصيف... تسلقناه واحدا بعد الآخر.. وكان سطح السفينة واسعا.. يتسع لفرش ما ننام عليه. واختار كل منا المكان المناسب، وكان هناك في الصدر مُرتَفع هو موقع الناخودة، وتحت المرتفع باب صغير، يفتح إلى ما عرفنا فيما بعد أنَّه المخزن الذي تحفظ فيه السلع التي يخُشى عليها من المياه، وكذلك المكان الذي يؤُوَى إليه إذا اشتد البرد أو احتدم عصف الرياح. والأهم الذي لفت نظرنا هو الساريتان اللتان تحملان الشراعين.. وكان هناك شباب مساعدون للناخوذة ـ هم الذين يتسلقون إلى أعلى السارية ولا ندري ماذا يفعلون لينشروا الشراعين.. وأخذت السفينة تغادر الرصيف الذي وقف عليه جمهور من الأهالي وربما كانوا من العمال الذين يفرغون السفن عند وصولها، ويحملونها عند إقلاعها.
وكان نسيم البحر لطيفا أحسسنا معه كأننا قد خرجنا من الفرن إلى الجنة.. إذ كان الحر في رابغ شديدا... النسيم متوقف كأن أبوابه قد أغلقت تماما. وهذا مع الرطوبة بحيث يشعر المرء كأنه يختنق.. مع العرق يتفصد من أجسامنا...
أقلعت السفينة، وأصبحت في عرض البحر... كانت الأمواج قليلة الارتفاع وأقرب إلى الهدوء إذ قليلا ما شعرنا بأثرها... وبعضنا استغرق في نوم عميق...
وكالعادة منذ تركنا المدينة كان محمد شريف هو الذي يتولى مسؤولية الغذاء بالذات وهو الرز والعدس، وعندما كنا في المقهى كان الرز والسمك... بينما كان الآخرون، ومنهم أنا وعبدالقادر أولياء وعبدالحميد أبو الطاهر نقوم بغسل الأواني... وتجهيز الشاي وغسل الفناجين إلخ...
وبعد أن قطعت السفينة بنا مسافة طويلة رأينا عمال السفينة يعود كل منهم إلى الناخودة في مقعده المرتفع وفي يده ثلاث أو أربع سمكات اصطادوها... وكلها متوسطة الحجم ولكن اثنتين كانتا كبيرتان جدا... فرح بهما الناخودة.. وسمعنا العم (فالح)... وهو اسم الناخودة ينادي.. مين فيكم اللي يطبخ الرز ويسوي لنا السلطة... ترى عندنا مخلل وطرشي من جدة بس لابد من السلطة والرز.. وكان العمال قد نظفوا السمك وأعدوه للقلي... ووضعوا الصاج أو الطاجن الأسود الكبير على (الدافور الكبير) كما وضعوا الكفاية من الزيت.. في هذا الطاجن.
وقام محمد شريف بما طُلب منه... طبخ الرز وأعدّ السلطة من مجموعة الخضار الموجودة في مخزن العم فالح...
كل هذا قد تم والسفينة تشق البحر في رقة وهدوء.. والشراعان الكبيران قد امتلآ بالريح المواتية الهادئة.
وجلسنا للغذاء... والعم فالح يزودنا بقطع من السمك الكبير اللذيذ الذي ربما لم نطعم ألذّ منه من قبل.. بل كان هذا الغذاء والسفينة تبحر بنا في عرض البحر هو ألذّ غذاء تناولناه منذ خرجنا من المدينة المنورة.
وسألنا العم فالح متى نصل جدة؟
فأجابنا وهو يضحك:
:ـ إذا ساعدتنا (الحَايْه) بكرة في العصر نكون في رصيف جدة إن شاء الله... قولوا يا رب.. ورفعنا كلنا أيدينا ونحن نقول:
يا رب..
واقتربنا من وقت الغروب... كانت الشمس مشرقة لا تحجبها أستار أو تحيط بها الغيوم.. ولكن قبل أن تغرب تماما... تكاثفت حولها الغيوم السوداء وأخذت الريح تشتد وتملأ الشراعين... والسفينة تشق البحر والأمواج التي شاهدناها تهتاج وتتلاحق وترتفع حتى لقد أخذت تتجاوز حافة السفينة لتغمرنا بالمياه.
وسمعنا العم حامد يقول لا تخافوا... هادي يمكن تمطر الليلة... لكن الحاية معانا... يمكن نوصل جدة في الصباح بحول الله...
وأصيب بعضنا بالدوار، والاستفراغ وأظلمت السماء، وبدأ الليل ثقيلا مرعبا... وليس في السماء، فوقنا والبحر حولنا إلا الظلام الدامس ثم البرق والرعد... وأمطرت السماء مطرا ثقيلا وكانت الريح شديدة البرودة بحيث اضطر بعضنا إلى التلحف بما لديه من الأغطية... ولا ندري كم كان الوقت من الليل، ولكن باستثناء المصابين بالدوار ظللنا تحت رحمة المطر الثقيل، بحيث لم يبق في ساحة السفينة كلها مكان لم تغمره مياه المطر من جهة، ورشقات الأمواج المتلاحقة في عبث صاخب من جهة أخرى، بينما يقوم العمال الشبان ولاشك بأن العَمْ فالح قد أشفق علينا، فرفع صوته يأمر العمال بفتح الباب الذي ينتهي إلى المخزن... وقال:
:ـ ادخلوا... واجلسوا.. استلطفوا الله إلى أن يكف هطول الأمطار.
وما كدنا ندخل هذا المأوى حتى تنفسنا الصعداء لم يكن فيه أثر للمطر وكشحات الموج، وقد اتسع لجلوس كل منا بجانب الآخر متزاحمين وفي نفوسنا شيء من الخوف من استمرار الحال طويلا ومما يمكن أن يحدث من أحداث ما أكثر ما سمعنا عنها وسمعنا عن الذين غرقوا مع السفينة نفسها وذهبوا طعاما للحيتان الكبيرة..
* * *
ولا ندري كم قضينا من الوقت في هذا المخزن الذي رحمنا الله فيه من الأمطار والأمواج، وقد جلس العم فالح معنا وقتا قصيرا ثم خرج ليقود السفينة، فهو ربانها.
وغلب بعضنا النوم... وكان للظلام والدفء تأثيرهما... نام بعضنا وربما في ذهنه أحلام الغرق والحيتان، فنراه يرفع رأسه مرعوبا.. ثم يعود إلى النوم. ولم يستيقظ إلا على صوت العم فالح يقول:
:ـ هيا يا عيال... هادي جدة قدامنا، قوموا شوفوها.
وخرجنا من مخبأنا واحدا بعد الآخر لنرى ضوء النهار... ونرى معه مدينة جدة ولكن بعيدة جدا... كنا نرى مبانيها الكبيرة ومآذن المساجد لكن لم نر أحدا... لم نر أناسا يمشون أو يتحركون... وقال أحدنا للعم فالح:
:ـ هادي بعيدة كثير يا عم فالح... والسفينة وقفت كيف نوصل البلد؟
وقال العم فالح متسائلا:
:ـ انتو ما بتشوفوا الشراع؟.. ما في نسمة هواء... رمينا البروسي ووقفنا ولابد إننا ننتظر (الحاية)..
:ـ ولكن متى تجي هادي الحاية يا عم فالح...
:ـ العلم عند الله... يمكن بعد ساعة ويمكن بكرة...
:ـ طيب ما في طريقة نوصل بها البلد ونحن شايفينها؟
:ـ لا يا ولدي... ما في غير (لَنْش الكرنتينة) وهادا ما يتحرك إلا بأمر الحكومة للبواخر الكبيرة... زي هادي اللي بنشوفها قدامنا... هاديك (تالودي) باخرة مصرية... وهاديك اللي هناك اللي لونها أسود وأحمر باخرة هندية رايحة تاخذ حجاج الهند...
:ـ طيب وبعدين؟
:ـ ولا قبلين... ننتظر الحاية وربنا كريم..
وظللنا في السفينة (أم الخير) في انتظار الحاية التي ظلت مصرّة على الامتناع عن المجيء... ولم تكن (أم الخير) هي الوحيدة العاجزة عن الحركة إلى أن (تهب) الحاية وفي وقت لا يعلمه إلا الله.
كان هناك عدد من السفن الواقفة في عرض البحر وكلها في انتظار الحاية للوصول إلى جدة.
تعودنا أن نقضي الوقت في لعب الورق أو أي ألعاب أخرى... ولم يكن الأكل مشكلة فالبحر يعطينا ما يكفي ويزيد من السمك... كنا نأكل ونشرب الشاي، معه الماء العذب الذي يحتفظ العم فالح للشرب وللشاي فقط... أما الوضوء للصلاة فمن البحر...
ثم بدا لي فسألت العم فالح، عن القوارب الصغيرة التي نراها على حافة الباخرة الهندية... أليس من الممكن أن نطلب منهم إسعافنا؟
وضحك العم فالح وهو يقول:
:ـ هادي مسألة لازم يؤمر بها القبطان إذا وجدوا أنها حالة إسعاف أو أحد بيغرق، أو جماعة معرضين للخطر... الأحسن يا وليدي ترفعوا أيديكم وتقولوا يا رب.
ورفعنا جميعا أيدينا... ونحن نقول:
:ـ يا رب.
ومع فجر اليوم الثالث أحسسنا بأن الجو قد تغير... كانت الريح قد بدأت تهب فتبعث في أرواحنا شعوراً بأننا قد خرجنا من جوف نفق كبير جدا عجز حتى البحر عن الخروج من إطباق صمته وسكونه واحتباس أنفاسه.
وما هي إلا دقائق حتى رأينا العمال يتسلقون الساريتين، ويأخذون في نشر الشراعين... ومع أن المفروض أن يمتلىء كل شراع بالرياح... ولكنها كانت رياحا كسولة بطيئة الهبوب، ومع ذلك فقد ارتفع صوت العم فالح وهو في مكان القيادة، يقول:
:ـ كمان شوية ونرفع البروسي... هادا أول الحاية... قولوا: (الحمد لله).
وأسرع بعضنا يقف متطلعا إلى جدة التي ظلت تكايدنا يومين وليلتين ـ نراها ونحلم بالوصول إليها دون جدوى.
وتم رفع (البروسي)... وأحسسنا أن أم الخير أخذت تتقدم... وتشق البحر فيما يشبه الرفق والدلال... وسمعنا العم فالح يقول:
:ـ معليه... الحاية ضعيفة، لكن ما عاد إلا نوصل الرصيف بحول الله.
وهتفنا ونكاد نتقافز فرحا...
:ـ متى يا عم فالح؟
:ـ قبل صلاة العصر بإذن الله.
وقد كان الوقت ضحى.. فمعنى كلامه إذن أننا سنظل في حالة الانتظار هذه... أو في رؤية استمرار جدّة في المكايدة والدلع إلى ما بعد الظهر.
* * *
وأخيرا أخذت (أم الخير) تقترب من الرصيف الذي كانت تصطف أمامه أكثر من ثلاثة سفن.. لابد أن تفرغ حمولتها... ثم يأتي دور سفينتنا..
المهم أننا رأينا عددا كبيرا من الناس منهم العمال، ومنهم ربما التجار أو عمالهم الذين يتناولون السلع في الصناديق أو الأكياس ولكن كان الأهم بالنسبة لنا نحن (طلاب مدرسة الطب)... هو أين سنستقر؟ إلى أين نذهب؟.. أين يا ترى المستشفى الذي لابد أن يكون موجود مثل مستشفى المدينة وهل يعلم مدير المستشفى أننا طلاب (مدرسة الطب.؟) ثم كيف نذهب إلى مكة، وقد ماتت جمالنا في رابغ ولم نصل إلى جدة إلا بالبحر على (أم الخير) ؟
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :965  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 81 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج