شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل التاسع
وتطول جداً تفاصيل رحلتنا إلى مكة بالجمال في الشقادف وربمُا كان من أهم ما فرحت به في صباح اليوم التالي أن القافلة وقفت وأنيخت وفهمنا أن السفر بالجمال يكون في الليل دائماً... أما النهار فللراحة إلى أن تغيب الشمس.
وجاءني فهمي الحشاني رحمه الله، وفي يده كيس النقود الذي أستلمه من عمي... وقال:
:ـ هادي فلوسك يا عزيز... جنيه دهب وثلاثة مجايده وأرباع ما أدري كم... تخليها عندك ولاّ أحفظها لك عندي؟
:ـ أخذت منه (أرباع المجيدي) ولعلها كانت خمسة وتركت الباقي لديه.
ولا حاجة بي للحديث عن الطرائف التي عشناها يوماً وراء الآخر... وكان الذي يلفت نظري هو أن قافلتنا تقف في الصباح عند بئر تُملأ منه القرب بالماء... لاشك أن الجمّال هو الذي يعرفها وأذكر أنه في ذات صباح وقفت بنا القافلة تحت مجموعة من الأشجار، وعلى الأخص أشجار النبق التي لم يكن يجهلها... وهناك بين الأشجار غدير ماء ذكر لنا الجمال اسمه الذي لا أذكره الآن ولم يكن فيه عمق... كنا نرى الحصوة النظيفة تمشي عليها المياه، وأقترح الجمال أن نغتسل إذا شئنا... وكان الأسرع إلى الاغتسال محمد شريف وهو أكبرنا سنا.. ثم فهمي... ولا أدري لم امتنعت أنا وعبدالحميد من الاغتسال واكتفينا بأن ندلي أرجلنا وسوقنا... وكان الماء جاريا وبارداً لذيذاً... وكانت الأشجار ظليلة وقام الكبار محمد شريف، وفهمي الحشاني، وحسن طاهر بطبخ وجبة الرز والعدس... وكانت أشهى أكلة في ذلك المكان.
ولكن بعد صلاة العصر ـ واقتراب وقت الغروب كنا في الشقادف لنقضي طول الليلة فيها.. وكان عبدالحميد قليل الكلام بطبيعته... وحين أراه صامتاً وكأنه يفكر أقدر أنه حزين على فراق أهله.. ووجدت في نفسي الرغبة في أن أجعله يتحدث... يحكيني حكاية مثلاً.. فإذا به يبتسم ويقول:
:ـ لا... أنت حكيني حكايتك لمّا الأغوات في الحرم حطو رجلينك في الفلكة وفرشك ألأغا الكبير؟
وعادت بي الذاكرة إلى أيام إغلاق المدرسة حيث أخذنا نمارس فنوناً من (الشقاوة)... ليس فقط في الشارع... بل في الحرم النبوي الشريف الذي نلوذ به عند الغروب لنزعم للأهل أننا كنا في الحرم للصلاة وهي أكذوبة ارجو الله أن يغفرها لنا.
وكانت جريمتي التي ألقى عليّ القبض فيها وعوقبت عليها جريمة كبيرة.. ماازال اعترف أني أستحق عليها أكثر من العلقة في دكّة الأغوات...
والمفروض أن جميع من في الحرم يتأهبون للصلاة عند سماع الأذان... ويحدث كثيراً أن يستثني الصبية أنفسهم من الصلاة ينتهزونها فرصة، للّعب في الحصوة وحول الحديقة الصغيرة فيها التي لم يعد لها وجود هي والبئر التي يملأ الزمازمة (الدوارق) منها، ليضعوها في فجوات بين الأعمدة... كان الناس يعتقدون البركة في شربها:
ولا أدري الآن أي شيطان لعين وسْوس في ذهني أن أنتهز سجود المْصلين... وأن أضع خلف كل ساجد واحدا من هذه الدوارق.
ولم أتردد في تنفيذ الفكرة السخيفة بينما كان صبية آخرون يلاحظون ما أقوم به، وفي وجوههم الخوف والفزع... إذ أن ما كانوا يرونني أقوم به تصرف خطير... بل خطير جداً.
وضعت خمسة دوارق بسرعة فائقة وراء خمسة أشخاص وشرعت أركض نحو الحصوة فإذا بيدٍ كالحديد تطبق على عنقي وتدفعني أو هي تسحبني في اتجاه (دكة الأغوات)...
وانتهت الصلاة، وأجتمع الأغوات بأرديتهم المعروفة وفي يد كل منهم عصاة أو نبّوت طويل لا يفارق أيديهم، وعلى رؤوسهم لفافة لا يرتديها غيرهم أظن أنهم كانوا يسمونها (كودَبان)، وجلسوا فيما يشبه دائرة في وسطها (سليم أغا) وهو كبيرهم الذي أذكر أنه عاش عمراً طويلاً إذ يذكره الكثيرون الذين يزورون المدينة المنورة حتى الأيام التي كنت فيها رئيساً للمنطقة الثالثة بمكة.
وتكلم الأغا الذي ألقى القبض عليّ قبل أن أصل إلى الحصوة بعد أن ارتكبت ذلك العبث أو الجريمة السخيفة.
وكان كلامه باللغة التركية التي فهمت منها أنه يطلب الحكم علّيّ بالتأديب... ودار الحوار بينهم عن العقوبة التي يجب أن توقع عليّ...
وهنا تكلم سليم أغا من مجلسه في وسط الدائرة وسرعان مانهض أحدهم وغادر الدكة، ليعود وفي يده فلكة مصنوعة بطريقة تختلف عن الفلكة المعتادة في المدارس... وفي اليد الأخرى خيزرانة رفيعة متوسطة الطول.
وفهمت أن عقوبتي هي (الجلد) على الرجلين... وبدأت أردد بصوت مرتفع مع البكاء.
:ـ أتوب.. أتوب..
وكان كل هذا يتم وهناك حول الدكة التي أذكر السجادة الحمراء على أرضها... مجموعة من الصبية من أقراني في السن.
وقال سليم أغا.
:ـ توبة يوك... خطأ كبير.. لازم ضرب...
وما هي إلاّ لحظات.. حتى طرحني الأغا الذي ألقى القبض عليّ أرضاً.. وقام آخر بوضع رجليّ في الفلكة... وقام ثالث من محلة ورفع الخيزرانة الرئيسية، وبدأ الجلد.
تلك الخيزرانة الرفيعة كانت أشد لذعاً وإيجاعاً من أي خيزرانة سبق أن جلدت بها، وتكررت الجلدات وسليم أغا هو الذي يَعُد وأظنها لم تزد عن خمس أو ست جلدات..
وأطلق اللذان يمسكان بطرفي الفلكة رجلي... وأنا أبكي لشدة لذعات تلك الخيزرانة اللعينة وقبل أن أقف... قال أحدهم بعربية مكسرّة
:ـ هادا مرّة... ضرب... مرة ثانية ضرب وحبس كمان...
ومنذ ذلك اليوم التزمت السلوك الحسن في الحرم والحمد لله.
* * *
تلك كانت الحكاية التي سمعها منى عبدالحميد وهو يضحك.. وأنهى ضحكاته وهو يقول:
:ـ كنت أنا من الذين كانوا يتفرجون عليك في دكة الأغوات وكلنا قلنا: يستاهل!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :745  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 80 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.