شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الرابع
كان هدير المدافع وأزيز طلقات الرصاص، يملأ أجواء المدينة ليلا، ونهارا... وكنا نحن الاطفال والصبية قد أخذنا نألفه، فلا يوقفنا عن اللعب.... ولكن الذي جدّ هو اننا أصبحنا نطور اللعب... وانصرف اهتمامنا إلى (القِشاع) بين (الساحة) و (المناخة) وهناك لعبة أخرى، مضحكة ولكنها هي التي أصبحنا نمارسها بإصرار... وهي القشاع بيننا نحن (أبناء الساحة)... كان أحد أبناء عائلة (البري) من أبناء الساحة هو الذي اقترحنا، أو (علمنا) كيف نمارسها... وهي نوع من القشاع أيضا، ولكن السلاح الذي نتقاشع به ليس الحجارة، أو العصى، والسكاكين، التي (يتقاشع بها الكبار) في المناخة.. وإنما هي (بعر الجمال)...
وتفصيل الحكاية يطول .... ولكن أهم ما فيها اننا أصبحنا لا هم لنا إلاّ أن نجمع ( بعر الجمال ) ...
نضع البعرة في (المقلاع) نقذفه في وجوه الذين يواجهوننا باعتبارهم أعداء كما يقذفوننا هم، بنفس السلاح... والميدان هو (البرحة أمام السلطانية)...
وفي هذه المرحلة، كانت أختي قد أصبحت ترافقني، في هذه الاشتباكات.... وإذ لم تكن تستطيع التعامل مع (المقلاع)، فقد كانت مهمتها أن تجمع أكبر قدر من (بعر الجمال) وتزودني به (بعرة وراء بعرة)، أثناء القشاع... ثم تطورت المسألة إلى مرحلة المشاركة في (القشاع) بين أبناء الساحة والمناخة... فكانت مهمتها، أن تجمع كل ما تستطيع جمعه من الحجارة، قبل موعد القشاع بعد صلاة العصر... تجمعها في كومة، وتضع عليها مجموعة من أوراق البقدونس أو النعناع ليعرف الآخرون انها تخصني... وكان موقعنا نحن الأطفال في سن العاشرة، أو أقل، هو مكاننا المختار (الحماطة) التي تشرف على المناخة وهي ساحة المعركة بين الطرفين ليس بالحجارة والمقلاع، بل بالعصى الغليظة (المزقَرة) التي تعلمنا ان اسمها (النبّوت)... ولكل فريق من الفريقين شيخ أو أكثر من شيخ، يسمونه (المِشْكل) الذي يقود المعركة بمهارته في حركة النبوت وبراعته في النزال، الذي لابد أن يصعق الخصم بضربة النبوت في (الرأس) وكثيراً ما تسيل الدماء وتملأ وجهه... ولكنه لا يخرج من المعركة... بل يستل من (حزامه) سكينا يهاجم بها الخصم، أو حتى مجموعة الخصوم من الفريق الآخر فإذا هجم بالسكين تتحول المعركة من قشاع بالنبابيت، إلى قشاع أو التحام بالسكاكين... فيسقط هذا، وذاك على الأرض... أو يهرب من يجد أنه لا سبيل إلا الهرب والخروج ووجهه مغمور بالدماء التي فجرتها الضربة بالنبوت في الرأس، أو الطعنة بالسكين في الوجه أو الكتف... وهنا يرتفع صوت الشيخ (المشكل) وقد يكون هو أيضا جريحا بحيث يسمعه الجميع (الدم مدفون.... الدم مدفون).
أما نحن الصغار في الحماطة وفي يد كل منا (المقلاع) نشحنه بالحجر، ونقذف به أبناء المناخة... ونتصايح فرحا إذا ما أصاب الحجر واحدا من الخصوم...
واصطلاح (الدم مدفون) تعلمنا، انه يعني عدم ابلاغ الشرطة، أو حتى الآباء ويكون الرد عندما يسمع الجريح صيحة (الدم مدفون) كلمة متفق عليها بين الجميع وهي: (على مثلها وسواها) التي تعني الثأر في المعركة القادمة.
ولكن أعجب، ما في اشتباكات القشاع هذه... ان بعض الآباء أو الأخوال والأعمام كان يطيب لهم أن يقفوا بعيدا عن الساحة، وترتفع لهم صيحات الاعجاب والتشجيع... ومنهم من يكون مزودا بالبُن المسحوق والمناديل، يكبس به الجرح ويذهب مع الجريح إلى البيت وهو يردد أيضا: (على مثلها وسواها...).
وقد يتساءل القارىء: (أين الحكومة من هذه المعارك الدموية؟؟) والمثير للدهشة حقا ـ في تلك الأيام ـ ان مخفر الشرطة ليس بعيدا عن ساحة المعركة... هناك في (باب الشامي) قوة من رجال الشرطة، مع الضابط... ولكنهم لا يتدخلون بالتفريق بين الطرفين إلا إذا راجعهم أحد الذين جرحوا ـ وذلك لا يحدث إلا نادرا... فإذا رأى المشتبكون في المعركة الضابط، ومعه العساكر... ينقضون ويتسللون إلى الأزقة والمنافذ، ويستحيل في جميع الأحوال أن يعرفوا من هو الذي يجب أن يلقى عليه القبض. وهكذا يظل الدم مدفوناً (إلى مثلها وسواها..) وينتهي الأمر، إلى أن يقع الاشتباك في يوم آخر.
* * *
ولم تمض فترة طويلة لنشعر ان الكثير من الأرزاق لم يعد له وجود في الاسواق... حتى ذلك الدكان الصغير في الركن الذي ننطلق منه إلى الحماطة، لم يعد صاحبه يفتحه لانه لا يجد السلع التي يبيعها لسكان الضاحية، ومنها الخبز... والسكر.. والشاي... والأرز (البكة)، وهو الذي تنبعث منه رائحة مقرفة بعد الطهو... وكنا مع ذلك نأكله بنهم إذ أصبح من المستحيل أن نجد الأرز (المزه) أو (الهورة)... وفي منزلنا كانت مشكلة الخبز محلولة... لان في البيت أكثر من كيسين من الدقيق تقوم (أمي بشرى) بعجنه واعداده للخبز في الفرن... وكنت أنا الذي يحمل (اللوح) وقد وضعت فيه (أمي بشرى) عددا من الارغفة وما زلت أذكر، كيف ان أبناء الجيران، وهم يحملون الألواح، إلى الفرن مثلي، كانوا يتساءلون عما عندنا من أكياس دقيق الحب؟؟؟ فإذا قلت (كتير..) يقول بعضهم: (يا ريت تبيعونا من هادا الكتير... آخر كيس عندنا ما بقى فيه إلا اللي يكفينا ثلاثة أيام.
ومع هذا الشح ونفاذ ما في المدينة من الارزاق، كان هدير مدافع (لاوبس) يتواصل في الليل وأحيانا في النهار... ولكن من أعجب التجارب، اننا لم نعد نرتعب من هديرها... بل قد بلغ ببعضنا الأمر أن يتساءل: (لماذا سكتت المدافع اليوم؟؟).
لم نعد ـ نحن الصبية والأطفال ـ نخاف من هدير المدافع، وقد يكون السبب هو (الألفة) ولكن عندما نجتمع يدور بيننا ـ أحيانا ـ كلام عن (الباشا) في قلعة جبل سلع... وقد يقول أحدنا، لماذا لا يسلم؟؟ فلا يكاد ينتهي من هذه الجملة، حتى تتحملق العيون وتتقطب الحواجب، وتسمع من هذا والآخر قولهم:
يسلّم؟؟؟ يسلّم لمين؟؟
ويضيف آخر: انت ما سمعت عن الشي اللي يحصل علينا، لو دخلوا؟؟
ويضيف آخر: يا شيخ اسأل ابراهيم مفتي، عن الحكايات التي سمعها من أمه.
ويضيف آخر: يا شيخ فال الله ولا فالك، ربنا ينصر (الباشا) اللي بيدافع عن البلد.
ويقول أحدهم: طيب، ليه ما نخليهم يدخلوا ونحن ندافع عن أنفسنا... بيوتنا كلها فيها الأسلحة... وآباءنا، رجال وزيهم الأعمال والأخوال..
وهنا يتدخل غازي إبن الشريف جدوع، ليقول: أنا واخواني نعرف كيف نضرب بالبندقية... وعندنا سلاح كثير... وأبويا قال للباشا، يخلينا نخرج لهم... لكن قال أنو: هو المسؤول...
:ـ. يعني إيه مسؤول؟؟
:ـ. يعني الحكومة هيه اللي امرته يدافع عن المدينة وأهلها.
:ـ. حكومة؟؟؟ هيه فين الحكومة؟؟
:ـ. في مكة... وجدة وينبع... حكومة الشريف..
:ـ. بس... نحن بنسمع، أنو العسكر ما استلموا المعاشات... من زمان.
:ـ. بس... يا ترى ياكلوا منين؟؟
:ـ. الكروانة... كلهم، ياكلوا الكروانة، والتعيين.
ومرت الأيام، والحصارر، وشح الأرزاق أو انعدامها في الأسواق أدى إلى أن نرى جميع الدكاكين، في المناخة، وباب المصري، وغيرهما مغلقة تماما... وعندنا في البيت لم يبق من دقيق الحب شيء، وأصبحت الوجبات التي نجدها هي المخزون القليل من الفاصوليا واللوبيا... وحتى هذه قالت (أمي بشرى) علينا أن نكتفي بوجبة الغداء في الظهر... ولا شيء بعد ذلك إلا في صباح اليوم التالي، حيث لا أدري كيف كانت تؤمن لنا ما يسمى (حريرة) وهي نوع من الحساء، نتناوله بالملاعق... ونظل ننتظر وجبة الفاصوليا أو اللوبيا... ولكن بمقادير محسوبة.
ثم كانت مفاجأة لم تخطر على بال أحد في المدينة كلها... وهي حركة (القطار) لأول مرة، وكان قائده هو العم (محمد علي هوندجي).. سمعنا في المدينة صوت الصافرة فما أكثر ما فرحنا وكل منا يقفز وهو يسمع أن القطار جاء بأرزاق سلمها للباشا ... والباشا بدوره، وزع منها على العسكر وبعض التجار.
وبعد بضعة أيام دخل عمّي، وهو يقول لأمي:
:ـ. محمد علي افندي، طلب، أن تسكن عائلته عندنا، لأنه يخاف عليهم أثناء سفره بالقطار.
وتم تفريغ الطابق العلوي من المنزل من الأثاث، لتشغله عائلة العم محمد علي... وهي مكونة من أمه العجوز... وزوجته الشابة وابنه الصغير في (الكافولة).
وكانت فرحت أمي بالعائلة لا توصف... إذ خففت من وحشة الوحدة عندما يذهب عمّي للعمل... كما كانت فرحتنا بسكن عائلة العم محمد علي، لسبب آخر، وهو انها جاءت بكمية وافرة من الدقيق، والأرز، والسمن، وعلب اللحم... جعلنا نشعر بالفرج، إذ لم تبخل أم العم محمد علي، بالإصرار على أمي أن تأخذ نصيبا وافرا من هذه الأرزاق التي جاء بها العم محمد علي... ولا أدري من أين... ولا كيف تحرك القطار الذي لم يسبق أن تحرك منذ خربته قوات الشريف، في حصارها للمدينة، التي كان يدافع عنا فخري باشا، في عهد الدولة العثمانية.
قد يذكر القراء تلك الفترة من حياتي، عندما كنا نسكن (مقعد بني حسين)... في ذلك البيت الذي تمت فيه حفلة الختان، التي بلغ من فخامتها، أن عزفت موسيقى الجيش، وأضيء الزقاق كله بالأتاريك... وربما الأهم من الذكريات (بنت المنور) وأسرتها التي كنت أحرص على أن أشاركهم وجبة العشاء المكونة من الرز الأبيض وسلطة الخل، والفلفل الأخضر... بل ما لن أنساه قط، ركوب الحمير، بالنقود التي جمعتها بعد أن زحلقتها من تحت المخدة، وتلك العلقة الساخنة والسجن في المرحاض إلخ...
ولكن بعد أن سكنا في هذا البيت الفخم، في حي الساحة، وجيراننا كلهم من أكابر عوائل المدينة، وأخذنا نتعود على انفجارات القنابل وأزيز الرصاص، كما نتعود على الجوع نتيجة لعدم وجود أي شيء يباع في الأسواق... يبدو أني، وحتى أمي نسينا الكثير الذي عشناه في الفترة التي أعقبت عودتنا من الشام، ثم زواج أمي من عمي، وأولئك الهوانم اللائي كن يزرن أمي، وكانت هي أيضا تزورهن... وميلاد أختي التي سهرت ليلة ميلادها وهي في الهندول المتأرجح حتى الصباح.
وكان شغلنا الشاغل هو هذه الحرب التي أعطتنا وقتا طويلا، للعب بأنواعه، وأهمه (القشاع) ببعر الجمال، في برحة السلطانية، وذلك من موقعنا في الحماطة، وبالحجارة في المقلاع نصوبه نحو أبناء المناخة.
ولابد أن أقول، ان نسياني، كل الذي عشناه بعد العودة حتى في زقاق ، القفل وزقاق الطوال ، ثم مقعد بني حسين ـ قبل أن ننتقل إلى هذا البيت في الساحة ـ كان نتيجة لأن أمي نفسها، كانت نادرا ما تخرج لزيارة صديقاتها سواء من (الهوانم) زوجات الأطباء أو من (زقاق القفل وزقاق الطوال).
ولكن الذي حدث فجأة، ـ والحرب ماتزال دائرة بين الباشا في قلعة جبل سلع وبين (الأخوان والغطغط) هو أن أمي سمعت بوفاة (الخالة فاطمة جادة)، ورأيتها تضع وجهها بين يديها وهي تبكي بصمت... ولم تكن تدري حين سمعت بهذا الخبر أين يكون العزاء؟؟؟... وفي صباح اليوم التالي، أخذتني في يدها، ومشينا على طول شارع الساحة في اتجاه المنطقة التي يقع فيها زقاق القفل ـ وأمامه زقاق الحبس ـ. دخلت بي الزقاق وفيه بيتنا المغلق، وأمامه مباشرة بيت الخالة (فاطمة جادة)... كان هذا مغلقا أيضا... طرقت الباب، فلم يجيبها أو يفتح لها أحد... ولا أشك في أنها كانت تتساءل: ـ ترى أين ذلك العم محمد سعيد.؟؟؟ وأين تعيش بدرية وزوجها؟؟.
عاودت طرق الباب... فإذا بصوت سيدة يسمع من الجهة المقابلة... وكانت الخالة (خاتون الهندية)... قالت وهي تخرج رأسها قليلا من الشباك:
:ـ. مين؟؟
:ـ. ثم أردفت تقول وفي صوتها فرحة ودهشة:ـ
:ـ. أختي فاطمة؟؟ الله يجزي الأسباب خير... تعالي.. تعالي خليني أسمع أخبارك. تعالي... خالتك فاطمة (الله يرحمها) والعم محمد سعيد، يقولوا وجعان كتير يمكن يكون عند بدرية... تعالي... أنا في هادا البيت لوحدي... ما عندي غير البيبي... التانيين كلهم سافروا الهند... يا شيخة تعالي...
:ـ لكن فين نعزي، في الخالة فاطمة رحمة الله عليها؟؟
:ـ العزاء عند بدرية.. في باب المجيدي.. يبغالك تسألي جوزها.. وأظن إنّو في المحكمة...
:ـ لكن هيه متى ماتت؟!... يعني قبل كم يوم؟؟
:ـ قبل أكثر من شهرين.
:ـ وماتت هنا في بيتها.. ولا عند بدرية؟؟
:ـ ماتت ـ رحمة الله عليها ـ في بيتها... ما رضيت أبدا تخرج من البيت...
:ـ يا شيخة أنا زعلانة كتير اللي انقطعت عنا وعنكم كلكم.
:ـ ونحن كلنا زعلانين عليكي... انتي أصبحت من الكبَّارية، اللي ما يشوفوا الناس الي زينا.. جماعتك هادي الأيام، هم (الهوانم) اللي سمعنا عنهم.
:ـ اسكتي يا شيخة.. حتى الهوانم هادول ما عاد بنشوفهم... مع هادي الحرب..
:ـ ليه.. يخافوا يمشوا ويزوروكم؟؟
:ـ إيوه كلنا، نبهوا علينا، ما نخرج، لا في الليل ولا في النهار...
:ـ لكن انتو ساكنين فين؟؟
:ـ برضه في الساحة، بعد بيت السيد هاشم... جنب بيت الشريف جدّوع..
:ـ طيب يعني بيتك هادا تاركينو مقفول بعدما ماتت (مَنَكْشة) الله يرحمها؟؟
:ـ طيب جوزي ما يبغا يسكن في زقاق القفل... وعندي بنتي اللي تخاف من الزقاق.
:ـ يا فاطمة يا أختي... هادا البيت هو اللي ولدتي فيه... وعشتي فيه مع أمك الخالة حميدة، وأبوكي عمنا الشيخ أحمد صفا... وكمان هو البيت اللي اتجوزتي فيه أبو عزيز وجاكي عزيز وحتى لما اتجوزتي الدكتور... كنتي ساكنة هنا...
:ـ بس انتي عارفة، إني لازم أكون مع جوزي وبنتي.
:ـ صحيح... عندك حق... لكن ليه ما تأجريه... البيت لما يفضل مهجور يسير خرابه.
:ـ بس فين اللي يبغاه؟؟
:ـ صحيح... شوفي البيوت اللي في الزقاق كلها خالية... كل الناس اللي كانوا يسكنوا في الزقاق.. منهم اللي ماتوا في الشام، ومنهم اللي بيسكنوا في بيوت باب المجيدي... بيقولوا انها بيوت جميلة وشرحة.
وكأنها لاحظت ان الحديث قد طال، وأمي واقفة عند باب بيت الخالة فاطمة جادة فاستدركت وأخذت تقول:ـ
:ـ طيب ليه ما تيجي عندي، البيبي تفتح لك الباب. هيّا تعالي خلينا نهرج.
:ـ مرة ثانية.. انتي عارفة اني لازم أكون في البيت قبل ما يجي جوزي ونتغدى.
:ـ طيب على راحتك... وأنا رايحة أجي أقيِّل عندكم وآكل هاديك الأكلة اللي نسيت اسمها...
:ـ طيب.. هيا في أمان الله...
:ـ في أمان الله يا أختي.. بس لا تقطعينا...
دار كل هذا الحديث، بين أمي والخالة (خاتون الهندية) كما كانت تسمى دائما)، وأنا واقف أصغي، بينما ذاكرتي تبحر، في خضم الذكريات البعيدة، التي أحسست بما يشبه الحزن والتفجع، لأني لم أكن لأذكر شيئا منها لولا هذا الحديث... بل كان شعوري بالجحود عاصفا وأنا أستعرض علاقتنا الطويلة بـ (أمي منكشة) التي ماتت في هذا البيت، وحيدة، وقد أعجزها المرض والشيخوخة عن الحركة، ولم يشعر بموتها أحد إلا ذلك الجندي الذي لا أدري أين هو الآن... وأعني: (اسماعيل)... كان يحرص على زيارتها كل يوم، ويؤمن لها ما تحتاج إليه من غذاء وعلاج... بل تذكرت ان أمي كانت جاحدة لفضل تلك العجوز التي ظلت تحرس البيت أيام غيابنا عن المدينة في الشام... لم أفهم وقتها كيف كان على أمي، أن لا تذهب لتشييع جنازتها، عندما جاء اسماعيل يخبرنا أنها قد ماتت... رحمها الله، ولا أنسى اليوم أن أمي، ظلت تلقي عليها ظل اتهامها بأنها ربما هي التي شاركت في نهب كل الموجود في البيت من الأثاث... ولا أنسى أني حاورت أمي أكثر من مرة، في سوء ظنها.. ولكنها ظلت على ظنها السييء، رغم أن منكشة، واصلت عملها في البيت بعد زواج أمي من زوجها الدكتور... ولم تذهب لتعيش في بيت زقاق القفل، إلا بعد أن أعجزتها الشيخوخة عن المشي. كان عمي هو الذي أشفق عليها، وأمر بنقلها إلى بيتها في زقاق القفل، كما أمر (اسماعيل) بأن لا ينسى زيارتها وبتأمين ما تحتاج إليه، كل يوم.
وعندما مدت أمي يدها لتأخذ يدي كما هي عادتها ونحن نخرج من زقاق القفل ألقيت نظرة فيها الاحساس بالحسرة، على ذلك البيت الذي ذكرتنا الخالة (خاتون الهندية) بالكثير مما شهده من حياتنا ـ
أمي وأنا.. وقبلنا بتلك الأجيال التي عاشت فيه طوال فترة من الزمن، ربما امتدت مائة أو مائتين من السنين، ومع هذا الإحساس الغامر وأنا أمشي مع أمي جال في ذهني شعور، ربما أومض كالبرق، وظل يومض إلى أن خرجنا من الزقاق وأخذنا نتجه إلى بيتنا، وهو اني لم أعد طفلاً... وإلا، فكيف لم يساورني شعور بالحزن والأسى والحسرة كهذا الشعور الذي تملكني في هذه اللحظات.؟؟؟ ولم أجد اجابة، لما تساءلت عنه سوى ان الأطفال، قلما يعانون مثل هذه المشاعر... واني لم أعد ذلك الطفل.
والخروج من زقاق القفل، لابد أن يمر بمدخل زقاق الحبس... وهنا لم أملك إلا أن أسأل نفسي، عن صديقي (يحيى)... الذي تعلمت منه كيف يمكن أن أعيش ـ بعيدا عن أمي وزوجها، وذلك بالعمل في سوق الخضرة... نحمل ما يتسوقه الكبار الذين يحتاجون، إلى من يحمل لهم ما يتسوقونه في (القفّة)... وذلك (المجيدي) الذي أقرضني إياه يحيى، على أن أسدده، من الأجور التي أتقاضاها لقاء عملي.. ترى أين يحيى في هذه الأيام؟؟ وكيف لم أحاول منذ ترافقنا في ركوب الحمير بالهروب من الكتاب... أنا من كتاب العريف محمد بن سالم.. وهو من كتاب (القبة) أن أسأله عنه؟
خطر لي أن أطلب من أمي أن ندخل زقاق الحبس، وأن نذهب إلى بيت العم عبدالنبي، والعم حسين، الذي لم يكن يحيى يخاف من مخلوق كما يخاف من (سيدي حسين)... ولكني التزمت الصمت، وظللت أمشي معها، وفي رأسي هذا الوميض المتلاحق من المشاعر التي كانت نائمة ولم يوقظها إلا هذه الوقفة أمام باب بيت الخالة فاطمة جادة، ونحن نسمع كلام الخالة (خاتون الهندية).
وعندما دخلنا البيت، كان أول ما تساءلت واهتمت به أمي هو مجيء عمي؟؟ وماذا أعدت (أمي بشرى) للغذاء... وسؤال ربما كان الأهم.. وهل هو هناك أي خبر عن العم محمد علي هوندجي؟؟؟ لقد غادر المدينة بالقطار منذ أكثر من 20 يوما... وانقطعت أخباره مع القطار الذي يقوده، ولم يعد أحد يتذكر أنه حرك القطار... وجاء به محملا بالأرزاق... ثم في الصباح الباكر من ذات يوم، ودع أمه وزوجته الشابة الصغيرة، وابنه الرضيع وخرج لأنه سيسافر بالقطار... أمه ومعها زوجته ـ وأحيانا أمي ودادة بشرى ـ إذا قاموا بصلاة الظهر، وبعد نهايتها في جلستهم، ويرفعون أيديهم، وكل منهن تتضرع إلى الله أن يكتب له السلامة وأن يروه يعود... وبعد أن يتفرقن في المنزل، اسمع أمي تقول:
:ـ مساكين... مين لهم لو ما رجع ـ لا سمح الله ـ؟؟
وعندما جاء عمي للغذاء بدا عليه أنه (مهموم) ومشغول الذهن. ولذلك لم يجرؤ أحد أن يسأله شيئا... وجلسنا حول المائدة نأكل غذاءنا من الفاصوليا والكرنب، ولكن بدون أي قطعة من الخبز... إذ لم يعد في البيت دقيق، وما قدمته الخالة أم محمد علي هوندجي، قد نفد وكان المذاق شهيا بفضل ما عالجته (أمي بشرى) من البهارات والتوابل... مما جعل أبي يضحك وهو يقول:
:ـ أمي بشرى شاطرة جدا... الأكل لذيذ.. والكرنب، مادّة مغذية جدا تغني عن اللحم.... ولكن أبشركم... يمكن بعد يومين تكون عندكم (القنيطة)... وصفيحة ممتلئة باللحم...
وتوقفت أمي عن الأكل لتتساءل: هل جاء محمد علي افندي بالقطار (البابور) ؟؟
وعادت إلى وجهه مسحة الحزن والهموم ليقول:
:ـ يقولون ان القطار، معطل في المحطة القريبة من المدينة... المشكلة هي في الفحم... الفحم خلص يمكن أن يترك القطار ويجيء إلى المدينة على جمل... ومن الإستاسيون يأخذ كفايته من الفحم الموجود في المخازن... بس... هادا لازم يأخذ سبعة تمانية أيام... الله يكون في عونه.
وسرعان ما نهضت أمي عن المائدة مسرعة وهي تقول:
:ـ أروح ابشر الخالة (هوندجية) وزوجته. دول بيبكوا عليه ليل ونهار. أبشرهم انه حي وبخير.. وانو يجي على الجمال..
وبعد أن عادت وعيناها دامعتان، لم تنس أن تسأل:
:ـ لكن إيه هيه (القنيطة)... وتنكة اللحم... يمكن دي زي اللي كانوا بيعطونا هيه في الشام.
:ـ هادا في الأيام الأولى قبل ما تشتد الحرب... لكن بعدين ما كانوا يعطونا إلا خبز الشعير الأسود... وفي الشهر مرة واحدة علبة اللحم.
:ـ وسمعنا انو حتى خبز الشعير انقطع... في الأيام الأخيرة.
:ـ أيوه انقطع عن بعض الهاجرين... لكن أنا ـ بعد موت أبويا ـ كنت أروح استلم التعيين... وما انقطع إلا لماً سار التسليم... بين الشريف والانجليز... والباشا التركي.. عشان الأسواق اتملت بكل شيء... لكن يا حسرة.. كانت الفلوس هيه اللي تعبنا كتير في تدبيرها.
:ـ يا ترى كيف كنت تدبريها؟؟
:ـ بشغل التطريز على المنسج... وبالخياطة... اخيط تياب لأطفال الجيران.
:ـ حالتكم كانت أحسن من حالة أهل المدينة... فيه ناس أكلوا لحم البساس والحمير الميتة.
:ـ يا لطيف... كثيرين ماتوا بالجوع... رحمة الله عليهم.
ولم يكن قد خلع بزته الرسمية فنهض عن المائدة وهو يقول:
:ـ لازم أروح مستشفى درب الجنايز قوام... علشان اليوم لازم نرسل لجبل سلع البارود اللي يحتاجه الباشا... وكمان نرسل القنيطة وتنكات اللحم، وعلب الخضار إلى القشلة.
:ـ عندكم كتير؟؟
:ـ ايوه.. عندنا في مخازن المستشفى شي كتير ـ والحمد لله ـ يكفي العسكر أكتر من ستة شهور.
:ـ يا سلام... وهادا مين اللي جاب لكم كل هادي الأشياء؟؟
:ـ من أيام فخري باشا... سلموني هيه قبل التسليم بتلاثة أشهر. وأنا أدخلتها المخازن... وما فتحت المخازن... لأنها أمانة... لكن فخري باشا راح، والخلافة كمان راحت... وأصبح الباشا في جبل سلع... والعسكر اللي بيدافعوا معاه عن المدينة يستحقوها... ولما أعطيهم هيه... ما أكون خنت الأمانة... أنا أعطيها... أخرجها من ذمتي، للعسكر اللي بيدافعوا عن المدينة... زي ما كان فخري باشا بيدافع عنها.
أخذ يتمشى في الغرفة جيئة وذهابا... وهو يفكر... ثم التفت فجأة إلى أمي يسألها:
:ـ لكن فين (كوزيدة)... ما شفتها في الصبح عشان كانت نايمة.. لكن دحين... فينها؟
وضحكت أمي ضحكة صغيرة... وهي تقول:
:ـ هادي طول يومها مع (النونو) ولد (مريم).. تشيله وتمرجحو على رجلينها.
:ـ لكن ما تاكل؟؟؟ يا ترى عندهم أكل؟؟
:ـ الخالة فاطمة، هي اللي تطبخ.. وكمان تسوي الحريرة من الدقيق... وكمان تلحسه من العسل اللي عندها... وكوزيدة بتأكل معاهم... ولا تنزل إلا لما تروح مع عزيز في العصر للقشاع في الحماطة...
وحين أخذ يخطو للخروج من الغرفة، امتلأ الجو بهدير مدافع (الأوبس)... ولكن هذه المرة بطلقات متوالية وسريعة... وكان الوقت عز الظهر... مما استوقف عمي ليقول:
:ـ أظن الباشا رآهم يهجمون ـ ربما من جهة قبا والعوالي...
:ـ ولكن كيف تخرج، تحت هادا الضرب... وبتقول انهم بيهجموا؟؟
:ـ المدافع من سلع يعني الباشا يريد أن يوقف حركتهم... فلا خوف على أي واحد يمشي في المدينة... وأنا اليوم سأركب الحصان إلى درب الجنايز... يعني أقل من ربع ساعة... هيا في أمان الله.
وخرج وسمعنا وقع حوافر جواده منطلقا في الشارع لحظات... بينما ظللنا نحن في المنزل نسمع هدير المدافع يتواصل، ومعه زخات لا تنقطع من طلقات رصاص الرشاش في أيدي الجنود المتمركزين في مدخل قبا.
وما كاد يذهب... وتقوم أمي بشرى برفع الأطباق عن المائدة... حتى انطلقت من جانبي إلى الدهليز... وليس لأستعد بـ (الكبوش) وإنما لأرى (محمد علي) ذلك الجندي الشاب الذي طالما صاحبته في بيت مقعد بني حسين... كان جالسا على دكة الدهليز، وليس في يده بندقية كالعادة... وإنما، ما عرفت فيما بعد انها تسمى (مِزْيَتَة) وهي وعاء اسطواني صغير ورفيع يكون ممتلئا بالزيت، الذي يستعمل لتزييت البندقية... قال انها نسيها وجاء اليوم يبحث عنها وقد وجدها... وعرضها في يده... وهو يبتسم.. ثم وضعها أمامي على الأرض وهو يقول بلهجته العربية المكسرة:
:ـ هادي.. ممكن تسير (مدفع)... بس لو كان فيه بارود... كان يمكن تتعلم تسوّي مدفع كل الأولاد يخافوا منو.
وما كاد ينتهي من كلامه حتى وجدت نفسي أكاد أطير فرحا... مدفع؟؟؟ أحارب به جميع الأولاد؟؟ ولا ينقصه إلا البارود؟؟؟ وأبرقت في ذهني فكرة (اللعبة) التي رأيتها بالبارود؟؟؟ وقلت له:
:ـ إذا كان البارود موجود... كيف تصبح هذه المزيتة مدفع؟؟؟
وأخذ يشرح لي العملية... جاء بمسمار وضعه على الناحية المغلقة من المزيتة، وبمطرقة صغيرة وجدها في رف الدهليز.. فتح بالمسمار خرما في نهاية المزيتة... ثم أخذ يقول:
:ـ هنا... قبل البارود في المزيتة.. فتيلة في هذا الخرم.. ثم بعد البارود قطن... يمنع خروج البارود... بالكبريت.. على الفتيلة... وخلاص... هادا مدفع...
وتخوفت أن أجيئه بالبارود، لئلا يفتضح أمري وقد خططت لسرقة حاجتي من البارود من تلك (العلبة الكرتون) في غرفة عمي... اكتفيت بأخذ المزيتة منه... وأنا أردد بالتركية تشكر إيداريم.. تشكر إيداريم...
وعندما غادر الدهليز، وهو مثلنا يسمع هدير المدافع وزخات الرصاص... قال:
هذا ما لازم يلعب... هادا خطر... يمكن ماما... بابا يزعلو كتير...
ولم أدرك يوما.. وحتى اليوم.. ما الذي جعل محمد علي يعلمني أن أصنع من المزيتة مدفعا وفيما بيني وبين نفسي رجّحت انها لعبة يعرفها... وأحب أن يعطيني بها تفاصيل صنع وحركة المدافع اللي كنا نسمع هديرها..
من جانبي، وقد عرفت كيف تصنع المدافع... أخذت أخطط لصنع هذا المدفع... والبارود موجود... وسوف أصنع المدفع... وأهزم به جميع الأعداء إذا شحنته بالبارود والفتيلة.
إذا شحنته بالبارود والفتيلة، أهزم جميع الأعداء... كان هذا هو الهاجس الأول الذي قفز له قلبي فرحا. ولم أضع وقتا... أسرعت إلى مكتب عمي الذي لم أنس انه حذرني من دخوله، مع ان بابه قد ترك مفتوحا. وإلى تلك العلبة من الكرتون... تناولتها من موقعها بكثير من الحذر... أعددت قبل أن أدخل الغرفة (علبة صغيرة وملعقة شاي) فتحتها لأرى المسحوق الأسود وهو البارود وقد انبعثت منه رائحة معينة... وبالملعقة الصغيرة غرفت أكثر من ثلاث ملاعق وضعتها في العلبة... ولكن قبل أن أعيد العلبة إلى مكانها في الرف، لاحظت ان الغَرْف قد ترك أثره على سطح المسحوق... مما يترتب عليه اكتشاف سرقتي... وبورقة صغيرة هناك سوّيت السطح، بحيث عاد كما كان لا يدل على شيء... وأسرعت بالخروج ملاحظا أن لا أكون قد تركت أثرا لقدميّ في الأرض... وحين أذكر هذا التصرف ومثيله في إخفاء أثر السرقة.. أحمد الله على أن جنبني الاستفادة من هذا الذكاء الخبيث، فلم أمارس نشاطا من هذا النوع في ما استقبلت من أيام العمر... وإن كنت لا أنسى في نفس الوقت ان هذا الذكاء، قد أفادني في اكتشاف بعض الجرائم عندما أراد الله لي أن أعمل في سلك الشرطة فيما بعد.
أسرعت بالبارود في العلبة، إلى دكة الدهليز، وتناولت المزيتة، وصنعت من القطن الفتيلة التي توضع في الثقب نهاية المزيتة.. وأدخلتها ثم سكبت شيئا من البارود، ثم حشوت القطن بمقدار قدرت انه كاف لإحداث الفرقعة عندما يشتعل البارود...
قدرت بطبيعة الحال ان اشعال الفتيلة، وانطلاق المدفع في دكة الدهليز سوف يتسبب في ضبطي متلبساً، ومع ان الارجح ان الذي يضبطني هو (داده بشرى) إلا أني لم أستبعد ان أمي نفسها يمكن أن تهبط منزعجة من صوت الانفجار... وتلك هي الطامة الكبرى... ولذلك فالشارع هو الموقع أو المكان الأفضل لإشعال الفتيلة وانفجار الطلقة من المدفع (المزيتة) وطبعا ـ في منطقي حينئذ ـ أن توجه طلقة المدفع إلى الأعداء.
هنا، فوجئت بأني أتساءل:ـ من هم الأعداء؟؟ وأين أجدهم لأوجه إليهم طلقة المدفع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1128  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.