شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الخامس
من هم الأعداء... سؤال ظل يتردد في نفسي طوال الوقت الذي قضيته أمام باب المنزل... أبناء الجيران الذين ألعب معهم كل يوم... هل يمكن أن يكونوا أعداء؟؟؟ وحتى أبناء ساحة المناخة، ما الذي يجعلني أوجه إليهم طلقة المدفع، ولا أعرف أحدا منهم... والقشاع بين أبناء الساحة وأبناء المناخة يبدو كأنّه لعبة رغم ما يدور بينهما من معارك... وهذه المعارك، هي من (أصول اللعبة)... وكان المدفع أو (المزيتة) المشحونة في يدي... بدالي انه لم يعد لهذا المدفع لزوم أو فائدة مادام لايوجد أعداء... وجال في ذهني: ان المهم هو تجربة هذا (الاختراع) والتأكّد من انه مدفع بالفعل، وإن كان في حجم هذه (المزيتة).. والتجربة لا تحتاج إلى وجود أعداء توجه إليهم الطلقة.. يمكن أن توجه إلى فضاء الشارع، وعلى الأخص في تلك اللحظة، حيث لم يكن فيه أحد من الأطفال أو غيرهم.. وكان الوقت ظهرا.. فأخرجت علبة الكبريت... وأشعلت الفتيلة التي أخذت بعض الوقت لتصل إلى البارود... وما هي إلا لحظات حتى انطلق المحشو في المزيتة بصوت خافت الفرقعة... ولكن الذي لم أفهمه... هو ان المزيتة رجعت إلى الخلف وابتعدتْ أكثر من ثلاثة خطوات... وهذا أعطاني فكرة ان الطلقة تذهب إلى الأمام... أما المزيتة فترجع إلى الوراء... ويمكن أن تؤذيني لو كنت واقفا في مجال رجوعها السريع.
وأسرعت، بالمدفع في يدي، وعلبة البارود في جيبي إلى المكان في الحنية تحت السلم، الذي أخبيء فيه (الكبوش) وغيرها من لوازم اللعب (الممنوع). وقبل أن أستلم السلالم إلى الطابق الأعلى، أفزعني، بل جعلني أنكفىء إلى الأرض صوت قصف المدفع من جبل سلع... وتوالى القصف مرات وأنا منبطح على الأرض... وفي نفس الوقت أسمع صوت (أمي بشرى) تناديني، وتُطمِئن أمي بأني لابد أن أكون عند باب المنزل، وطالت فترة القصف المتلاحق، بحيث وجدت نفسي أسترجع قدرتي على النهوض، وفي نفس الوقت الإسراع بالصعود إلى الطابق العلوي حيث أجد أمّي وقد جلست تستقبل القبلة رافعة يديها وإلى جانبها الخالة أم العم محمد علي هوندجي الذي انقطعت أخباره، وقيل انه في محطة اسمها (هدية) ينتظر الفحم الذي نفد فتوقف القطار، ولا يدري عن حالة أحد... وكان هدير القصف المتلاحق من جبل سلع يجعلنا جميعا نتساءل في أي اتجاه يا ترى، تنطلق قذائف المدافع؟؟؟ كان مما استقر في أذهاننا أن القذائف موجهّة للهجوم في منطقة العوالي وقُبا... ولكن اليوم لاشك انها موجهة إلى جهة أخرى ومادمنا نسمع هديرها الرهيب، وكأنها سوف تهبط على رؤوسنا، فإن أمي رجّحت انها موجهة إلى منطقة وراء البقيع... وقالت بصوت مرعوب..
:ـ يعني بيهجموا من جميع الجهات...
وتدخلت أم العم محمد علي لتقول:ـ
:ـ يمكن كمان بيهجموا على (البابور)..
وهنا لا أدري كيف ألهْمَِتْ أمّي أن تقول مُطمئِنة العجوز الخائفة على مصير ابنها.
:ـ العم محمد علي في (البابور) معاه عسكر... وكل عسكري عنده (رشّاش)..
وانقطع هدير القصف... وبدا كأن المعركة انتهت... فقالت أمي:
:ـ الباشا ما يوقف المدافع إلا لما يشوفهم أموات على الأرض، أو هربوا.
ولم تمض بضع دقائق حتى دخل علينا (عمي)، وفي ملامحه مسحة من مشاعر القلق... ودار ببصره في أرجاء المجلس، ثم قال:
:ـ فين كوزيده؟؟ فين كانت لما سمعتوا فرقعات المدافع؟؟
وأسرعت بدرية زوجة العم محمد علي تقول:
:ـ هيه دايماً مع حسين... تهزه على رجلينها، ولمّا ينام تنام هيّه كمان جنبه.
:ـ طيب.. الحمد لله... والحقيقة لازم ما تخافوا من أصوات المدافع.. عشان اللي بيهجموا، بيشوفهم الباشا، ويعرف كيف يوقف هجومهم... واليوم لازم كتيرين منهم ماتوا... عشان عددهم كان كبير... وحاولوا يدخلوا من باب الجمعة،... عشان مافي في هادا المكان عسكر...
وبعد ان جلس على أحد المقاعد فترة من الوقت نهض. ورأيناه يهبط إلى الطابق الثاني ولا أدري لماذا خطر لي أن أمشي وراءه... رأيته يفتح باب مكتبه... وحين رآني خلفه لم يمنعني من متابعته... ورأيته يتجه نحو البندقيتين (أم خمس) المعلّقتين في صدر الغرفة ويتناول احداهما يختبر حركتها، ثم يتناول الاخرى... ثم يلتفت اليّ يقول:
:ـ الليلة، اسماعيل ومحمد علي، رايحين يباتوا عندنا...
ثم اضاف:
:ـ يمكن نحتاج ندافع عن انفسنا... ما أحد يدري ايش اللي يمكن يسير..
وكانت هناك بندقية ثالثة معلقة هي ايضا ولكنها على مبعدة من البندقيتين.. فقلت:ـ وهادي التالتة يا عمّي... أنا كمان أقدر أكون مع محمد علي واسماعيل... وأبتسم، وهو يُصغي اليّ، ثم تناول البندقية وقال:ـ
:ـ هادي يسموها (أم أصبع)... ما تشيل غير رصاصة وحدة...وكمان اللي يستعملها لازم يكون عنده صدر قوي.. يتحمّل صدمتها... وأنت صغير... هادي تطرحك في الأرض وهنا، فتح البندقية... وتناول من (المجند) الذي يحمل رصاصها، رصاصة، عرضها في كفه وهو يقول:
:ـ انظر... كم هي كبيرة... والرصاصة نفسها كبيرة الحجم... هذه عندما تصيب الهدف، تمزق كل ما حول الاصابة.. رهيبة جداً يا عزيز... وهي من صنع اليونان...
وعندما خرجنا من الغرفة، كان الذي يدور بذهني، قوله: يمكن نحتاج ندافع عن انفسنا... وتساءلت، لماذا اسماعيل ومحمد علي فقط؟ عمّي وأنا... أنا أيضاً، لأزم ندافع عن أنفسنا... وما عندنا إلا البنادق الثلاثة.. لازم تكون عندنا بنادق... أم أصبع ما تصلح لي... لو عندنا أربعة أم خمس، خلاص كلنا يمكن ندافع عن أنفسنا.
وهنا راودتني فكرة المدفع (المزيتة) التي رأيت إنها (مجرد لعبة)... فهل يمكن أن أصنع مدفعاً قوياً... وليس لعبة... إذا لم نحصل على بندقيتين (أم خمس) ؟؟ فالمدفع القوي، يمكن أن يساعد في الدفاع... ولكن كيف؟؟؟ كيف يمكن ان أصنع مدفعاً (على أصله).
وسرعان ما ابرق في ذهني اسم (أبو دربالة).... الذي نشتري منه (الكورة المزقرة) و (المقلاع)، وكذلك (المزويقات) و (المداوين) و (العجلة الحديد) التي نطلقها بين فكين من (سيخ)، وننطلق معها في الشارع ويروقنا صوت انطلاقها، ونحن نتسابق في الشارع بها...
أبو دربالة، الذي نعرف محلّه الكبير، في الدكاكين المشرفة على ساحة المناخة من الطابق السفلي (للحماطة)... وقضيت وقتاً أفكر فيما إذا كان يوافق على فكرتي في صنع المدفع وقلت بصوت هامس:ـ أنا عندي البارود والقطن... والفتيلة.. ويمكن أن أحشوه مع القطن بكمية من الحجارة أو (الدّحَل) الحديد.
وكان لابد أن أذهب إلى محل (أبو دربالة) في وقت لا تكون فيه الساحة مشغولة (بالقشاع) ولذلك فقد، قررت أن أذهب إليه قبيل الظهر... وتوجست شيئاً من التحسب في الذهاب إليه وحدي، إذ المشهور عنه انه رجل (جبار)... يضرب بالمطرقة على نافوخ الذي لا يحسن التفاهم معه.
ورأيت ـ في اللحظات التي كنت أدير فيها هذه الفكرة في رأسي ـ جاري في البيت المقابل لبيتنا وهو (إبراهيم مفتي)... الذي تضرب أمه عليه حصاراً عنيفاً، فلا يخرج للعب الا بإذن.. ولا يذهب إلى أي مكان إلا مع (الدادة صفا) أو مع (العبد العجوز) الذي نادراً ما يُرى خارج البيت، متوكّئاً على عصاه، ليقضي للسيدة (أم إبراهيم) بعض حوائجها الخاصة من السوق.
وأسرعت أقول لإبراهيم:
:ـ انتوا عندكم بنادق.. ورصاص.... تدافعوا عن أنفسكم...؟؟
:ـ عندنا بنادق ورصاص.. لكن (دادي أمان) هو اللي حاططهم في الدولاب.. وخالي هو اللي عنده المفتاح... هو اللي يجي، يزيّت البنادق ويمسحها ويرجع يحطها في الدولاب.
:ـ لكن ما عندكم في البيت رجَّال غيرك، و (دادك العجوز)... مين اللي رايح يدافع عنّكم لو دخلوا المدينة؟ عندنا نحن.. محمد علي واسماعيل.. وعمّي بنفسه.. وكمان أنا...
:ـ خالي ديما يقول: هوّه عنده جماعته و (رجاله) ولازم ما نخاف من شي...
:ـ كيف ما نخاف؟؟؟ والناس بيقولوا ان اللي يهجموا ويدخلوا المدينة ما عندهم غيرالقتل... الدَّبح بالسيوف... والسكاكين...
:ـ بيقولوا كده... وفي الحقيقة أمي خايفه كثير... لكن خالي بيدْبح (طلي) ويعزم جماعته على الغدا أو العشا... ويقول كلهم رايحين يدافعوا عنّنا... وخطرلي، بعد أن وصل بنا الحوار إلى هذا الحد، أن أسأل إبراهيم رأيه في أن تكون عندنا مدافع.. ورأيت في عيني صديقي مشاعر الدهشة:
:ـ مدافع؟؟
:ـ ايوه مدافع.. لكن صغيرة نقدر نصوب منها على اللي يهجموا.
:ـ طيب ومنين نجيب هادي المدافع؟؟
وهنا.. أدركت أني قد وصلت إلى غرضي في الحديث معه فأسرعت أقول:
:ـ أبو دربالة...
:ـ أبو دربالة؟؟؟ عنده مدافع صغيرة؟؟
:ـ أمشي معايا.. نروح عنده... وأنا اللي أتكلم معاه... وهو اللي يعرف يصنع المدفع اللي أعرف أنا كيف يسوّيه.
ووافق إبراهيم... وأسرعنا في الذهاب إلى محل (أبو دربالة)... وقد وجدناه جالساً على كرسي شريط طويل... وفي يده (منشّة) يطرد بها الذباب عن وجهه... وقفنا أمامه... فالتفت إلينا وهو يقول:
:ـ ها ايش تبغوا؟؟؟ ما عندي (دَحَلْ)... لكن عندي مداوين ما في زيّها... ورخيصة.
ووجدت نفسي أقول بجرأة... لا... لا يا عم أبو دربالة... نحن اليوم جينا نبغا (مدافع).
وفرقع الرجل ضحكة صاخبة وهو يتساءل مندهشاً:ـ مدافع؟؟؟ بتقول مدافع؟؟ واسرعت بالدخول في الموضوع... شرحت له فكرتي... ابتداء من المزيتة.. إلى المدفع الذي أعتقد أنه يستطيع صنعه لي...
والتفت (ابو دربالة) إلى زميلي (ابراهيم مفتي) وسأله:
:ـ وانت كمان تبغا مدفع، زي صاحبك؟
:ـ لا.. لا أنا ما أبغا مدفع... نحن عندنا بنادق.
وضحك (أبو دربالة) مرة أخرى وهو يقول:
:ـ وأنا عندي مدافع... لكن ما أبيعها إلا للحكومة، أو للرجال.. يعني أبوكم أو خالكم.. الحاصل واحد كبير..
واستوقفني هذا الكلام، ودار بذهني أن أطلب منه رؤية المدافع التي يقول انه لا يبيعها الاّ للكبار... فتقدمت من مركازه خطوة وقلت:
:ـ أنا أخليّ ابويا يجيك ويشتري منّك.. بس ابغا اشوف هادي المدافع عشان أقول له عنها. وهنا نهض عن المركاز.. وقال:ـ
:ـ هيا تعال أورّيك..
ومشى إلى داخل المحل، ثم استدار فيه إلى مكان مظلم تقريبا ولكن يمكن أن ترى العين بعض ما فيه... وكان أشياء كثيرة... مرتّبة ترتيبا يدل على انه أعد كل ما في المكان للعرض والبيع.. ووقف عند زاوية إلى اليمين، عليها ستارة من حصير مثل الذي نجده في الحرم.. وزحزح الستارة لتظهر مساحة كبيرة فيها عدد من المدافع، التي كنت أرى مثلها في بعض الصور...
ولم أملك إلاّ أن أسأله وفي صوتي نبرة الدهشة...
:ـ يا عم... كيف اشتريت هادي المدافع؟؟ مين اللي باعها لك؟
وهنا أعاد الستارة إلى الأرض، لتختفي المدافع عن الأنظار.. وأخذ يقول:
:ـ هادي مسائل أتكلم فيها لما يجيني أبوك... هوّه يعرف انّو عساكر الشريف بعدما سلّمت المدينة.. يعني بعد ما راح فخري... والحكومة استغنت عنهم.. كانوا يبيعوا السلاح اللي كان عندهم... وأنا بعت كتير من البنادق، وحتى الرشاشات وكمان الرصاص لكن ما قدرت أبيع المدافع...عشان ما في أحد يقدر يشتريها...وترى عندي (الدانات)... عندي كتير.. وكان ابراهيم قد آثر عدم الخول معي ولذلك، انحنى العم أبو دربالة قليلا ليهمس في أذني:
:ـ ترى لا تقول لصاحبك شي... وقول لي... أبوك فين يشتغل؟؟
:ـ أبويا (ضابط) في (الخستخانة).. واليوم قال لنا: (نحن يمكن لازم ندافع عن أنفسنا) وكان قد استدار للخروج من هذا المخزن.. ومشى وأنا خلفه... وهو يردد:
:ـ نحن يمكن لازم ندافع عن أنفسنا؟؟ يعني يمكن يدخلوا المدينة... اسمع قول لأبوك.. أنا مستعد أعطي الباشا، هادي المدافع، والرشاشات والبنادق.. وهوّه اللي يعرف يسلّح بها اللي لازم يدافعوا عن أنفسهم.. تقدر تقول لأبوك هادا الكلام؟؟
:ـ أيوه أقدر...
:ـ وقول له كمان.. أنا أعطي الباشا كل اللي عندي.. وما أبغا فلوس... وربنا يستر العاقبة...
:ـ أقول له.. يا عم... بس أنا أبغا مدفع لنفسي..
:ـ فاهم.. انت تبغا مدفع زي مدفع (المزيتة)... ابشر.. تعال بعد بكرة أعطيك مدفع على قدّك... لكن قول لي منين تجيب البارود؟؟
:ـ أنا عندي البارود... أبويا هوّه اللي بيصنع البارود اللي يحتاجه الباشا..
:ـ ايوه سمعت.. سمعت انهم بيصنعوا البارود اللي يحتاجه الباشا.. طيب دحين راح الوقت... تعال بعد بكرة.. تلقى المدفع اللي تبغاه.. لكن قول لأبوك كل الكلام اللي سمعته منّي.. وقول له كمان.. أنا عندي بارود.. أسلّمه للباشا مع السلاح.
ومرة أخرى، مال على أذني وهمس:ـ ترى لا تقول لأحد غير أبوك، الكلام اللي سمعته منّي... وكنا الآن قد وصلنا إلى المركاز الذي يجلس عليه.. وكان ابراهيم واقفا، وقد بدا عليه الضيق ولذلك أسرعت أقول له... هيّا.. نروح البيت... أصلي أنا شفت أشياء كثيرة... ما في أحد في المدينة عنده زيّها... ومشينا مسرعين.. وما كدنا ندخل الشارع الذي فيه بيوتنا حتى سمعنا صوت (دادة صفا) من بيت ابراهيم... و (أمي بشرى) من بيتنا.. وهما ترددان الكلام... عن غيابنا..
ورأتني (أمي بشرى) وأنا أدخل البيت... ولذلك وجدتها في الدهليز... تنذرني بأن أمي سألت العيال اللي بيلعبوا عني.. وعرفت اني غايب... وعشان كده.. الله يعلم كيف رايحة تربيك.... ثم التزمت الصمت لحظات.. لتقول..
:ـ أحسن لك، تطلع على طول عند الخالة (هوندجية) وهي اللي تقدر تخلّيها تسكت عنّك.
وطلعت على طول، متلصصا على رؤوس أصابع قدميَّ... إلى الطابق الذي أجد فيه الخالة (هوندجية) وزوجة ابنها... وكانتا هناك.. ومعهما أختي الصغيرة، نائمة إلى جانب الرضيع..
وظلت محاولة الحصول على المدفع الذي يصنعه أبو دربالة معلّقة لا حل لها بضعة أيام... كما ظلّت أقواله عن استعداده لتسليم ما في مخزنه من المدافع والأسلحة... ظلت حبيسة في صدري لا أدري كيف أفضي بها إلى عمي كما وعدت الرجل... والسبب أني أتحاشى افتضاح علاقتي به... ومنها حكاية المدفع الذي وعدني بصنعه.
وخلال هذه الأيام، اشتد قصف المدافع من قلعة سلع، كما اشتدت المخاوف من هجومهم ليلا أو نهارا ـ بدليل ان القصف كان لا يتوقف إلا وقتا قصيرا ليعود حتى في الليل إذ كنا نرى من نوافذ الطابق العلوي القنابل أو هي (الدانات) وهي تنطلق ملتهبة في اتجاهين هما العوالي، وما وراء (باب الجمعة) ولا أذكر الآن أين يقع هذا الباب وما وراءه.
ومع احتدام القصف، وتزايد المخاوف، اشتد الحصار كما اشتد انغلاق الدكاكين التي تبيع المواد الاستهلاكية أصبحت المدينة كأنها مدينة أشباح، تمشي في الشوارع والأزقة فلا ترى إلا الأطفال، الذي يسمح لهم باللعب في الزقاق قبيل الظهر، أما بعد الظهر فالجميع في المنازل... وقد يبدو بعضهم مع أمهاتهم أو مع الدادات من نوافد الرواشين إلى أن يهبط الليل، فيسود الظلام ـ والكل يعلمون أن الرجال وراء الأبواب وفي أيديهم أسلحتهم استعدادا للدفاع إذا نجح الهجوم ولم يكن من سبيل للإطمئنان إلا دوي وهدير القصف من جبل سلع... انه يعني ان عبدالمجيد باشا لم ينم ولا ينام، مادام يرى محاولات الهجوم، ولا ندري كيف كان يراها، ولم نكتشف ذلك إلا بعد انتهاء الحرب عندما أتيح لي ومجموعة من الأطفال الصعود إلى جبل سلع، ونجد في عدة مواقع منه مناظير، حاولنا أن نرى بها... فرأينا من يمشي بين النخيل في العوالي أو من يسوق حمير السواني في قبا وقربان، فإذا تركنا المنظار، لا نرى شيئا من هذه التفاصيل...
وأصبحت الشكوى من الجوع عامة.. لعدم وجود ما يُشترى أو يؤكل في الأسواق.. شعرنا بها في المنزل، إذ لم يبق عندنا ما يؤكل إلا القنيطة واللحم (المصبّر) في الصفيحتين اللتين أرسلهما عمي، وقد كانا (نعمة كبرى) لأن غيرنا من الجيران، أصبحوا لا يجدون حتى خبز الشعير..
وعادت بي الذاكرة إلى صور الجوع الذي عانيناه ـ أمي وأنا والذين ماتوا ـ في حلب، وتساءلت ترى هل سوف يموت الناس بالجوع ـ ويحملون إلى المقابر في مثل تلك العربات إلى حيث يدفنون معا..
أذكر على سبيل المثال... ان مشاعر الجوع في المنزل قد أصبحت الشغل الشاغل للجميع بمن فيهم الخالة (هوندجية) وزوجة ابنها الشابة (مريم).. إذ يبدو ان ما كانت تختزنه من التموين الذي يجيئها به ابنها محمد علي كلما عاد من رحلاته بالقطار قد أوشكت على النهاية..
والعجيب ـ ولعله الطبيعي ـ أن الأطفال قد انطلقوا في شوارع وأزقة الساحة، يخرجون في الضحى ويبدأون ممارسة نشاطهم... وكان لهذه الظاهرة الفضل في ان ((اسماعيل ومحمد علي))، قد أخذا يتهاونان في منعي من الخروج مع أختي إلى الشارع، بل وحتى الذهاب بعيدا عن الباب... والاشتراك في اللعب بالكبوش. وفي اليوم الذي نسمع فيه أن هناك معركة قشاع بين عيال الساحة، وعيال المناخة... كنا نحن الصغار من أبناء الساحة، نجمع الحجارة لنضعها أكواما في الحماطة يعتمد عليها الكبار الذين يحسنون حصب خصومهم في ساحة المناخة بالمقاليع.
ولم يفتني وأنا أجمع الحجارة على سطح الدكاكين مع كوزيدة أن أتذكر ان دكاكين العم أبو دربالة.. تحت هذا الموقع ... ولابد انه الآن يتفرج على القشاع وهو جالس على مركازة.. ويبيع ما يصنعه من ((المزاويق)) و ((المداوين)) والمقاليع المصنوعة من الصوف، يشتريها رخيصة من الذين يصنعونها ويعرضونها في مواقعهم تحت أشجار النبق في ساحة باب المصري. ثم يبيعها بالثمن الذي يفرضه على (المشاكلة) الكبار أمثال أحمد حواله والزمزمي والطيار.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :940  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 76 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.