شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الختان..
متى أُشفى من جرح الختان، فيتاح لي أن أخرج إلى الشارع، وفي جيبي من النقود المخبوءة تحت السرير، ما يمكنني أن أستأجر به حماراً أركبه، وأتجول به في المناخة، وهي الساحة الكبرى التي تتواجد فيها، ليس الحمير للتأجير فقط، وإنما أيضاً (العربيات)، التي يتستأجرها الناس للانتقال بها في المشاوير البعيدة، كالبساتين والمزارع، في قبا، وقربان والعيون، وخارج باب (الأستاسيون) حيث يصلون إلى المنطقة المعروفة باسم (أبيار علي).
* * *
في الواقع كان من يسّمونه (المضمّد) يجيء كل صباح لتغيير رباط جرح الختان، وتنظيفه... وكان رجلاً كبيراً في السن، أقرب إلى الشيخوخة... ومن آداب السلوك التي علّمونا اياها أن نحترم الكبار... فلا يكاد يدخل الغرفة، حتى أجلس مستعداً لتسهيل مهمته... وأدهشني أنه لم يكن ينبس ببنت شفة.. يلتزم الصمت طوال الفترة التي يقضيها في أداء مهمته... حتى لقد توهّمت أنه أبكم... ومع ذلك وجدت في نفسي من الشجاعة ما جعلني أرفع صوتي قائلاً: (متى يا عم... يمكن... أخرج... أمشي في البيت أهبط إلى الحديقة الصغيرة،؟؟؟) فاذا به يبتسم ابتسامة عريضة مُطمئنِة ويقول بعربية تعلمت فيما بعد أنها لهجة (أهل المغرب):.. اليوم... اليوم يمكن أن ترتدي ((السُّروال)) وأن تخرج وتمشي كما تشاء.. ولولا أني أهاب الرجل من جهة وأحترامه ومن جهة أُخرى، لو ثبت من السرير على قدميّ... ولقبلت يده ولحيته الصغيرة البيضاء... سيطرتُ على أعصابي... ولم أقل كلمة واحدة... وما كاد يجمع أدواته في حقيبته، الطبية من (المعدن) أو (النيكل).. ويخرج من الغرفة، حتى أنزلقت عن السرير واندفعت إلى الحمّام... ورأيت أن لا أثر للجرح، إلا شيء من الاحمرار.. وعدت إلى الفراش... ورفعت صوتي منادياً (أُمي باجي) و (أُمي منكشة)... ولم تكن منكشة بعيدة، اذكانت هي التي قادت (المضمّد) إلى الغرفة.. وهي التي تتقدمه إلى بداية السلالم... جاءت بمشيتها البطيئة الثقيلة... وهي تردد (الحمد لله... الحمد لله)... ثم تقول: (إنتي خلاص... ما شاء الله ما شاء الله).. وحاولت أن ترفع صوتها المتحشرج بزغرودة... ولكنها زغرودة مخنوقة متقطعة ثم قالت: (إنتي تنامي... في الكريوله... أنا أجيب فطور)... واستدارت وخرجت.
وما كادت... حتى رفعت الوسادة لأرى ما تجمّع من جديد من قطع النقد... وكان بينها عدد من تلك الغوازي الذهبية... وكما فعلت في المرة السابقة شطرتُ المنتشر من هذه القطع شطرين دحرجتُ أحدهما إلى الفجوة التي تنتهي إلى تحت السريري... ونشرت الباقي على المساحة كلها لأوهم أُمي بأني لم ألمسها... وبطبيعة الحال تركت (الغوازي) إذْ لم أكن أعرف لها قيمة... ولم أر أحداً يتداولها في الأسواق. واضافة إلى ذلك لم أنس أنها (ذهب) وأن أُمي جمعت مثيلاتها مع الجنيهات العُسْمنلي) وقطعة (أبو فرج الله) الكبيرة... فلا حاجة لي بها.
وكان لا بد أن أعرف كم هي النقود الملقاة تحت السرير فيما يلي الجدار... كنت بالغ الحذر والحيطة، فلم أهبط وأدخل تحت السريرلأجمعها، إلا بعد أن جاءت منكشة بصينية الفطور.. فتناولت (الشريك) والجبنة وشربت كوب الشاي على عجل.. وانتظرتها إلى أن عادت لأخذ الصينية... وبعد أن خرجت وأنا أسمع خطواتها الثقيلة مبتعدة عن غرفتي... هبطت، وتسللت تحت السرير وقد رفعت الجزء المنسدل من الشرشف إلى الأرض، وما هي إلا زحفة صغيرة حتى كنت أمام (أموالي)... كانت كثيرة... كثير منها من (المجايد) والقليل من أنصاف (المجيدي).. جمعتها بعناية ولهفة مع الرعب، من أن تدخل احداهن فتضبطني.. لم يتسع كفاي للكمية، فجمعت طرف ثوبي ووضعتها فيه.. وخرجت وأسرعت إلى مستقري على الفراش.. وكانت العقدة التي واجهتها هي: (أين أُخبىء كل هذا؟؟؟ ودرت بصري في أنحاء الغرفة... فوجدتها.... كانت علبة الصفيح للدخان الصغيرة المزخرفة التي توضع عادة على المنضدة أمام السيدات، وفيها دفتر ورق السجاير (اللف). قفزت إلى العلبة... افرغتها من كل ما فيها من الدخان، في وعاء للزبالة في ركن الغرفة ومع الدخان ذلك الدفتر... وفي العلبة افرغت جميع ما كان في طرف ثوبي من قطع النقد.
اكتفيت بحقيقة أنها (كثيرة)، فلا حاجة بي إلى عدها الآن... يكفي أنها في العلبة التي اخفيتها تحت السرير.. ولكن في متناول يدي.
ودخلت دوّامة التخطيط، للخروج من البيت.. إلى المناخة... والحمير.
* * *
كان الذهاب إلى الكتّاب بعد شفائي من جرح الختان، هو أهم عقبة تعترض سبيلي إلى المناخة والحمير... صحيح أن موعد الكتّاب من الصباح حتى ما بعد صلاة العصر... فليس ما يمنع أن أركب الحمار بعد الخروج من الكتّاب.. ولكن كيف؟؟؟ كيف أعلّل لغيابي عن موعد العودة؟؟ ووجدت أن الحل الوحيد أمامي هو أن لا أذهب إلى الكتّاب في الصباح... والعريف الشيخ محمد بن سالم كان من الذين حضرا حفل الختان، فهو يعرف أني (طريح الفراش).... ولابد أنه يقدر أن علاج الجرح استغرق مدة طويلة... ففي اليوم الذي يطلبون مني فيه أن أذهب إلى الكتّاب، أذهب إلى المناخة وفي جيبي كمية من النقود...أما الباقي فقد أخفيت العلبة، في (بيت الما) في الدهليز... في مكان لا يهتدي إليه حتى الجن.
وهكذا كان... إذ لم يمض يومان حتى بدأت حملة اعدادي للذهاب إلى الكتّاب... والحملة هي حفظ الباقي من جزء عمّ... وكنت قد حفظَت الكثير نسبيا بحيث كنت أسبق جميع زملائي... والفضل في ذلك لأُمي رحمها الله... إذ كانت تتفرّغ لتحفيظي سورة بعد سورة... تاركة كل عمل مهما كان حتى ولو كان لزوجها... وكان هو رحمه الله يعفيها من مطالبه بعد صلاة المغرب، مثل الشاي الذي كان يصر على أن يشرباه معاً... والمضحك، مع أني قد حفظت معظم سور جزء عمّ ولم أعد احتاج إلى اللوح.. ومسحه بالمضر... وكتابته بالحبر الأسود بخط العريف.. المضحك أنه كان عليّ أن أتأبط هذا اللوح.. وأن أقدمه ممسوحاً كل صباح... بعد أن أسمع الشيخ ابن سالم ما كان مكتوباً فيه من القرآن. وأسمع منه كلمة (بارك الله فيك.. بارك الله فيك)..
أما وقد طرأت خطة الهرب من الكتّاب، لأبدأ حركة ركوب الحمير في المناخة.. فقد كان عليّ أن أحتاط لثلاثة أُمور هي:
1 ـ. اخفاء العلبة التي جمعت فيها قطع النقد... وقد أخفيتها في بيت الما في الدهليز.
2 ـ. اللوح، الذي يجب أن أمسحه يوميا.... وأن أعود به مكتوباً بخط الشيخ ابن سالم.
3 ـ. كيف يمكن أن أختفي من عيون (محمد علي أو اسماعيل) وهما اللذان يقومان بشراء حاجيات البيت من الخضار واللحم الخ.
بالنسبة للوح الذي يجب أن أعود به مكتوباً بخط الشيخ... فقد قررت أن لا أمسحه... فيظل مكتوباً وقدّرت أن أُمي لن تكتشف أنه مما كُتب قبل عملية (الختان).
أما عيون (محمد علي واسماعيل)... فقد قلت لنفسي: (أنا الذي يجب أن أراهما، فابتعد عن طريقهما، اذا كانا معاً أو أحدهما ماشياً في الساحة... ثم كيف يمكن أن يخطر في بال أحدهما أن الذي يريانه ـ هو أنا ـ هو نفسه (عزيز راكباً حماراً) ؟؟.
ونفّذت الخطة كما رسمتها في نفس اليوم الذي أمرتني فيه أُمي أن أذهب إلى الكتّاب.. قبلت يدها... ومشيت أمامها متأبطاً اللوح... وفي يدي (جزء عمّ)... وعندما وصلت الدهليز وضعت اللوح في عطفة صغيرة مظلمة في الدهليز، ومعه الكتّاب. وحرصت على أن لا يظهر رنين قطع النقد في جيبي بأن لفْفتُها في منديل صغير.
وانطلقت، وقلبي يكاد يقفز من صدري فرحاً بتحقيق أملي الذي عايشته أياماً وليالي وأنا على الفراش الوثير... ووصلت المناخة، حيث رأيت الحمير، والعربات... واثنين مما يسمّى (الفيتون)... وتقدمت إلى رجل له تلك الهيئة التي أعرفها لمن يسمّى (الحمّار) وقلت له:
:ـ. أبغا استأجر حمار يا عمّ؟
:ـ. وفين تبغا تروح بو؟؟
:ـ. أتمشى.
:ـ. تتمشى؟؟؟ تتمشى فين؟
:ـ. أتمشى هنا في المناخة... وباب الشامي وكمان السُّلطانية.
:ـ. ولكن أنت تعرف تركب الحمار؟؟؟ أنت صغير يا ولدي.
:ـ. لا.. أنا ما أعرف أركب الحمير... أبغا واحد يعلمني ويمشي ورايا.
:ـ. يعني تبغا الحمار... وحمَّاره.
:ـ. أيوه يا عمّ..
والتفت إلي حيث كان هناك مركاز يجلس عليه شابان... ونادى أحدهما. وقال:
:ـ. هادا يبغا يستأجر حمار يتمشى بو.. لكن ما يعرف يركب... يبغا يمشي معاه واحد... هيّا شوف لو حمار صغير على قدُّه.. حمار ما يجري كتير.. ولا (يعَنْفِصْ) وتمشي أنت وراه... حاسب عليه... لايروح ولد الناس يطيح ويتعوّر.. فاهم؟؟؟
:ـ. فاهم يا عمّي...
والتفت إليّ الشاب... وقال.. هيا شوف هادا الحمار جاهز بالبردعة الحمرة.. وصغير... على قدّك لكن ما قلت لي يا عمّي.. كم أنا آخذ منه؟؟
ورفع عمّه صوته يقول:
:ـ. خلينا نستفتح... الِّلي يعطينا هوه خير وبركة.
وساعدني (الحمّار) على ركوب الحمار الجاهز بالبردعة الحمرة.. وأنطلقنا في المشوار.
* * *
واتجهت صوب باب الشامي... ولكن لا أدري كيف التفت يساراً لأرى (كتّاب القبة) الذي يدرس به (يحيى أخو حسين بخاري)... شعرت أن قلبي يقفز من صدري فرحاً.. لو استطعت أن آخذ يحيى معي في هذه الرحلة... أنه هو الذي يعرف ما لم أعرفه بعد من المزارع والبلدان..
قلت (للحمّار)... أبغاك تودّيني عند كتاب القبة.. هاداك.
:ـ. كتاب القبة؟؟؟ عند الشيخ حامد؟؟؟ لا يا خويا.. هادا ما عنده إلا الفرش...
:ـ. لا أنت ما تدخل عنده... ولا أنا... بس ننادي على أخويا.. يحيى.
:ـ. مين اللي يناديه؟؟
:ـ. أنت.
:ـ. لا يا خويا.. لا.. الشيخ ما عنده غير يقوم عليّ بالجريدة اللي في يده.
:ـ. طيب أنت وصَّلني الكتاب... وأنا اللي أناديه..
:ـ. وعطف الحمار.. ووصلنا باب الكتاب.. حيث سمعنا أصوات الأطفال مرتفعة عالية وهي تقرأ ومعها صوت الشيخ الرهيب..
كان الرعب يملأ قلبي... ومع ذلك... كان اغراء اصطحاب يحيى في هذه الرحلة على الحمار أشد من أن يقاوم... وقفت عند الباب... واستعرضت الجالسين من الأولاد... وكان يحيى هو الأقرب إلى الباب... تلك هي طريقته يحرص على الجلوس بعيداً عن مدى جريدة الشيح.
ناديته بصوت أقرب إلى الهمس... فالتفت.. وأشرت له أن يجيء... وكان ذكياً... اذ سرعان ما ذهب إلى الشيخ... وأشار بيده اليّ وأنا واقف في الباب... لا أدري ما الذي قاله فاذا به يسرع اليّ ضاحكاً.. بل مزحوماً بالضحك.. وهو يقول:
:ـ. قلت للشيخ إنت أخويا.. وأهلي في البيت أرسلوك عشان تأخذني... يبغوني في البيت.
* * *
ورأى يحيى الحمار بالبردعة الحمراء.. والحمار.. لم يفهم شيئاً... ولكن لم يكن صعباً أن أشرح له كل شيء... وعدنا إلى صاحب الحمير... واستأجرنا حماراً ليحيى... الذي كان يعرف ركوب الحمار.. واستغنى عن الحمّار... وهو يقول:
.ـ. خلاص... نروح (المصرع).
:ـ. المصرع؟؟؟ يعني فين؟؟
:ـ. يعني بلاد المدني... عند سيدنا حمزة..
وانطلقنا... وكان يحيى يجيد قيادة الحمار ويعرف كيف يستحثه على الركض... فقد انطلقت وراءه... خرجنا من باب الشامي... في طريقنا إلى (المصرع) إلى سيدنا حمزة..
كان المشوار بعيداً... فما أكثر ما ضحكنا... وما أكثر ما تذكرنا حكايات زمان... وما أكثر ما مثل لي حركات الشيخ حامد.. شيخ كتاب القبة... كان رحمه الله جاحظ العينيين أحول... له لحية سوداء كبيرة.. وعلى رأسه عمامة بيضاء... وكان يحيى يصفه.. ويصف هجماته على الأولاد... وينهي كل ضحكة من ضحكاته بأن يخلصه الله من وجهه.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :740  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.