شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الختان.. فاصل بين مرحلتين
:ـ. خلاص يا عزيز... أنت دحّين رجّال... وسيد الرجال.
ومع أني لم أدرك، العلاقة بين عملية الختان هذه التي تمّت ـ ودون أن أشعر بها ـ يوم أمس، وبين أني أصبحت (رجّال... وسيد الرجال)... إلا أني أدركت حقيقة أن الفترة التي انقضت من حياتي ـ قبل عملية الختان ـ كانت فترة ((طفولة)). بمعنى أني لم أصبح (رجلاً) إلا بعد عملية الختان... وعلى التحديد، منذ يوم أمس.
وما دمت قد أصبحت رجلاً، و(سيد الرجال) كما قالت أُمي، فإن أشياء كثيرة لم تعد تليق بي، ومنها، الجلوس، مع السيدات، حين يجتمعن في المجلس، وقلت لنفسي متسائلاً: (رجل ،، ويجلس مع الحريم؟؟؟)... ومنها أيضاً، البندقية ((أم خمس)) التي يمنعني كل من الجنديين، أن أضع يدي عليها... لم يعد في منطقي ما يمنع أن ألمس هذه البندقية... بل وأن أُحاول معرفة الطريقة التي توضع بها الرصاصات الخمس... لم أكن اجهل أن ذلك مستحيل، فكل من إسماعيل، ومحمد علي، يعلق بندقيته من (سَيْرِها) وهو
الشريط من الجلد بنّي اللون في مسمار معقوف، مضروب في الجدار... لا يَسمح لي اطلاقاً بمحاولة انزالها أو اكتشاف أسرارها.
وكان غريباً أن أكون مستلقياً على هذا الفراش الوثير، وما زلت جريح عملية الختان، وأن يدور تفكيري حول هذه البندقية... ثم حول عدم الجلوس مع السيدات... وأحسست هنا بأن عملية الختان، وإن كانت قد جعلت مني رجلاًً و(سيد الرجال)، فانها حرمتني من رؤية الكثيرات، من الصبايا اللائي كُنَّ يجتمعن، إما عندنا، وأما عند من تقوم أُمي بزيارتهن، وقضاء فترة من المساء معهن، وعلي الأخص بيت (عثمانية) وفيه الخالة (عزيزة أسعدية) تلك الجميلة التي تعزف على العود، وتغني بصوتها الرقيق الجميل، وتستدنيني إلى جانبها حيث اشترك في التصفيق... وربما في الغناء أيضاً بصوت خفيض. ومع هذه المشاعر استيقظت في ذاكرتي، صُوٌر ومرَاءٍ للجميلات اللائي عرفتُهن في طفولتي، ومنهن ـ وعلى الأخص ـ بدرية... تلك التي كنت أنام بينها وبين أُمي، في بيت الخالة فاطمة (جادة) في زقاق القفل... حكاياتها الكثيرة التي تحكيها بصوتها الأغن، وأريج عطر البنفسج، الذي يفوح من شعرها الغزير الذي ترفع عنه (المِحْرَمة) لينطلق سابحاً على المخدة تحت رأسها... وطاف بذهني في هذه اللحظات، أنها زوجة ذلك الرجل، الذي ترددتْ أخبار عن أنه يمكن أن يطلّقها اذا لم تنجب له (ذرية)... ووجدت نفسي اتساءل: (ترى هل طلّقها؟؟؟)... ولا أخفي اليوم (وأنا في هذه المرحلة من العمر) أني في تلك اللحظات وأنا على السرير قلت لنفسي: (اذا كان قد طلّقها.. فما الذي يمنع أن يزوجني إياها؟؟؟ ما دمت قد أصبحت رجلاً... و(سيد الرجال).. ثم تساءلت مستغرباً: (أين هي يا ترى؟؟؟ لم نرها منذ انتقلنا إلى هذا البيت في منطقة ((مقعد بني حسين)).. وحكمت بمنطقي، أو هو وجداني الملهوف عليها، أن أُمي (مالها حق).. كيف تنساها وتنسى الخالة فاطمة جادة... ثم بيتنا في زقاق القفل.. كل هذا خرج من حياتها بعد أن تزوّجت عمّي... وعلى الأخص منذ انتقلنا للسكنى في هذا البيت الذي قالت عنه أنه (ملوكي). بل منذ أصبح لها صديقات هن: (الهوانم)... زوجات زملاء عمي.. وكلهنَّ لا يتكلّمن العربية ويختلفن عن غيرهن من السيدات بأنهن، حاسرات الرؤوس، يتركن شعرهن منسدلاً على أكتافهن ولا يَلْفُفْنَه في (المحِْرمة) كما تفعل ((بدرية)) والخالة فاطمة (جادة).
وأحسست بخطوات (مَنَكْشة) الثقيلة مقبلة إلى الغرفة.. وهي تسعل سعلتها المتحشرجة وما كادت تدخل، حتى بدأت تُردد (ما شاء الله.. ماشاء الله).. ثم قالت أنها تريد أن تأخذني إلى الحمام... وحين قلت لها أني أستطيع أن أذهب بنفسي.. ضحكت، وأفهمتني أن جرح الختان يستلزم تصرفاً لابد أن تساعدني عليه.... ولم أملك إلا أن أوافق... وسألتها عن أُمي... فقالت، أنها مع السيدات اللائي جئن منذ الضحى... وهن في المجلس... وبعد أن افرغ من (حكاية الحمام)... سيأتين لزيارتي...
* * *
وما كادت (مَنَكْشة)، تساعدني على العودة إلى الفراش والاستلقاء، وتنشر على جسمي ذلك الغطاء السميك المزخرف من الحرير... حتى بدأت حركة زيارة السيدات... كل منهن لا تكاد تراني حتى تردد... (ما شاء الله).. وهي تبتسم... ومنهن من تلمس جبهتي... لتطمئن عليّ... ومنهن من تنحني، وتقبل جبهتي... ثم تأخذ مكانها على أحد المقاعد الثلاثة الموضوعة في الغرفة، للزائرات.. والزائرين.. كل ذلك، بدا لي طبيعيّاً، فأنا جريح عملية الختان.. وتلك هي العادة التي يتبّعنها.. ولكن الذي استرعي انتباهي، أن كلاً منهن تصر على أن تدخل يَدَها تحت الوسادة.. لماذا؟؟؟؟ لم أفهم شيئاً.. وتعددت الزيارات، ومنهن، من جاءتها (مَنَكْشة) بفنجان القهوة (التركي).. أو بكوب الشاي... ولذلك يطول جلوسهن وتدور بينهن الأحاديث.. بالعربية، إذا كن من أهل المدينة.. بالتركية إذا كنَّ من صنف: (الهوانم) التركيات.. ولكن لابد لكل منهن قبل أن تغادر الغرفة أن تمد يدها تحت الوسادة التي تحت رأسي.. ولا أخفي أني بدأت أتطلع شغوفاً بأن أعرف سّر امتداد الأيدي الناعمة تحت هذه الوسادة... ولكن كيف؟؟ لا سبيل إلى ذلك، وهن جالسات... أو قادمات، وعلى الأخص حين ترافقهن أحياناً أُمي بنفسها... والسعادة تملأ محياها، والابتسامة العريضة تكاد لا تفارق ثغرها... وبينما كنت أعالج تعديل وضع رأسي ورقبتي على الوسادة الممتدة بعرض السرير، جرؤت على أن أحاول اكتشاف سر الأيدي التي تمتد تحتها... ولكن ذلك بدا متعذراً تماماً، لأن أُمي خفّت إلي، وأخذت تساعدني على هذا التعديل... تمنيت لو أنها أعفت نفسها من هذه المساعدة، لأن غرضي المستكن في نفسي، ومعه الرغبة الملحة في اكتشاف سر تلك الأيدي التي امتدت تحت الوسادة.. هذا الغرض لم يتحقق، فاستسلمت، أو تظاهرت بالاستسلام، ولكن الآن دخلت سيدة تعودت أن أسمع أمي تناديها (خالة) بالتركية.. وهي أُم (عزيزة أسعدية) عازفة العود الجميلة... وكالعادة بدأت السيدة بترديد (ما شاء الله.. والحمد لله).. ولمست جبهتي بيدها، وفي أكثر من أصبعين من أصابعها خواتم من النوع الثمين... ولكنها الوحيدة التي لم تمد يدها تحت الوسادة... وانما أخرجت من حقيبة صغيرة مطرزة بالخرزاً وهو اللؤلؤ حلية من نوع (الروش) صغيرة، ومن الذهب ومعلَّقة بما يسمى (فيونكة) و (كورديلا) حريرية بيضاء... وشبكَتْها على الوسادة... والتفتت إلى أُمي تقول لها بالتركية، ما فهمت فيما بعد أن البروش فيه كلمة (ما شاء الله)...
لم تفتني مشاعر الامتنان أو الفرحة التي انتشرت على محيا أُمي... اذ يبدو أنها أدركت أن الهدية غالية الثمن... من مستوى لا يستهان به... من جانبي التزمت الصمت وانقشعت عن ذهني غمامة سر الأيدي التي تمتد تحت الوسادة... فهي (هدايا).. وسرعان ما قدّرت أن المخزون من هذه الهدايا تحت الوسادة، أصبح يستحق أن تخرجه أُمي، فأراه من جهة... وتراه هي أيضاً... إن لم يكن لشيء فللمقارنة بين هدية (الخالة أُم عزيزة أسعدية) وبين هذا الذي ازدحمت به الساحة تحت الوسادة..
ووجدت الجرأة أن أقول لأُمي...: (تحت المخدة أشياء كتيرة... ما تبغي تشوفيها؟؟) فلفت نظري، أنها قد بدا عليها الاهتمام، فعلاً... ثم تراجعت إلى الباب، فأغلقته، ثم أنهضتني وجعلتني أجلس لترفع الوسادة.. وكانت المفاجأة بالنسبة لي أن كل الموجود، هو (نقود).. قطع نقدٍ فضية مما كان هو الذي يتداوله الناس في تلك الأيام.
وقطع النقد الفضية هذه، كان أكبرها أو أعظمها أو أثمنها (المجيدي) نسبة إلى (السلطان عبدالمجيد الذي كان الخليفة العثماني قبل الحرب). وقد لفت نظري، ومعي أُمي بالطبع أكثر من قطعة نقد من الذهب... وكنت لا أجهل الجنيه (العسْمَنْلي) ولكن هناك قطع أخرى، ذهبية... ولكنها ليست من نوع الجنيهات العسمنلي.. فهمت فيما بعد أنهم يسمونها (الغوازي).. ومفردها (الغازِيَّة)، وهي تختلف حجماً وسُمكاً.. ولكن هناك بين هذه الغوازي قطعة نقد ذهبية أكبر حجماً من الجنيه (العسمنلي)... ومعلقة هي أيضاً بكورديلا حمراء... رأيت يد أُمي امتدت إلى تلك القطعة قبل أي قطعة أُخرى... وقرأت ورقة مربوطة في ((الفيونكة)) وفهمت فيما بعد أن اسمها ـ وأعني القطعة الكبيرة ـ (أبو فرج الله)... وأنها تساوي خمسة جنيها (عُسمنلي). فهي أثمن قطع النقد الذهبي الذي كان الناس يتعاملون بها في عهد الدولة العثمانية وجمعت أمي جميع الغوازي الذهبية... ومعها (أبو فرج الله)... وتركت القطع الفضية وهي (المجيدي)، و (نصف المجيدي) تركتها حيث هي. منتشرة تحت الوسادة.
ومن المفروغ منه، أني لم يسبق لي أن امتلكت هذا العدد الضخم من (المجايدة).. وما دامت كلها قد وضعت تحت الوسادة، فهي ملكي... مهداة إلى شخصي... فأنا منذ اللحظة مالكها... ولا أستطيع أن أصف اليوم، الفرحة التي غمرت مشاعري كلها، إلى حد أني أحسست بأني (محصور) ولابد أن أسرع إلى الحمام أو ما يسمونه (بيت الما).. فلم أتحرك، بل ولم استصرخ (منكشة) لتأخذني إلى الحمام.. فاذا بالحصر ينفلت على الفراش الوثير.. وذُهْلت، وأنا أقع في هذا الخطأ أو هذه الفعلة الشنيعة.. وعلى الأخص على هذا الفراش الوثير من الحرير المزخرف والمُوشى.. ولكن ما باليد حيلة كما يقولون.. فلم يكن أمامي إلا أن التزم الصمت والهدوء... وحين أحسست بوقع أقدام تقترب من غرفتي... تظاهرت بالنوم العميق.. كانت التي دخلت الغرفة، ورأتني مستغرقاً في ذلك النوم الكاذب العميق، هي (أُمي باجي) التي حين فتحت عيني قليلاً رأيتها وبين ذراعيها، صينية فيها وجبة الغذاء... وقفت إلى حافة السرير، فتظاهرتُ بأني قد فزعت، وأسرعت إلى الجلوس... ومع هذه الحركة ـ وهي واقفة ـ أسرعت إلى ازاحة الغطاء المُسدل على جسمي متظاهراً بالفزع والاشمئزاز... ولكن ما أشد ما كانت هذه العجوز السوداء رقيقة المشاعر.. إذْ أسرعت تضع يدها على كتفي وتحملني على الاستلقاء كما كنت... ثم أخذت تردد كلمات التدليل التركية، وبنبرة فيها من الأسف على ما وقع، وعلى حالة الفزع التي تظاهرت بها.
لم يطل بي الأمر حتى خلّصتني هذه العجوز من الموقف كله... ثم أخذت تردد كلمة معناها (لا تخف... لا تخف...)... ثم تشير إلى مكان جرح الختان.. تريد أن تفهمني أن السبب هو الجرح... وفي نفسي حمدت الله على الخلاص من الأزمة. وعاد ذهني إلى الاشتغال بقطع النقد الفضية تحت وسادتي... كان السؤال الحائر هو: هل يتركونها لي حيث هي تحت الوسادة؟؟؟) أم أن أُمي ستجمعها وتأخذها كما جمعت وأخذت جميع القطع الذهبية من الغوازي و (أبو فرج الله) وحتى الجنيهات الذهبية (العسمنلي)... وبعد أن تناولت وجبة الغداء، بمساعدة الباجي وذهني محموم بالتفكير في (الأموال) المنتشرة تحت الوسادة. وجدتها؟؟؟ وجدت الطريقة التي أحول بها دون انتقال هذه الأموال من مكانها إلى حوزة أُمي كما هو المنتظر بالطبع.
ما كادت (أُمي باجي) تترك الغرفة، والصينية في يدها.. حتى التفت إلى ما تحت الوسادة... لم أفكر في عدها وإحصائها.. وإنما عمدت إلى قسمة المنتشر تحت الوسادة إلى شطرين متساويين تقريباً... فهذه الشطر القريب من الجدار يذهب إلى الجدار، ثم اتدبرّ اخفاءه تحت (الكرْيولة).. أما الشطر الثاني، الذي بقي، وكنت لا أشك في أن أحداً لم يحُصه بعد فقد وسَّعت انتشاره على الوسادة ليظهر، وكأن أحد لم يمسَسْه أبداً.
وبهذا الترتيب... أقنعت نفسي. بأني (المالك الوحيد لكل ما ذهب إلى جهة الجدار ولم يكن أسهل من أن أدحرجها كلها إلى تحت (الكريولة)... وأن أعيد وضع الوسادة الطويلة المزخرفة الممتد على طول السرير.. فالقطع الفضية كلها الآن.. تحت السرير... وهي تحت تصرفي... بها استطيع أن أحقق الكثير مما ظللت أتمنى تحقيقه فلا يمنعني إلا أني لا أملك المال..
وقد يكون مما يجعل القارىء يدرك تفاهة الأماني والآمال، حين أفاجئه اليوم بأن أعظم الأماني في تلك السن، كانت أن أركب حماراً؟!! أتجول به في المناخة... وفي برحة باب الشامي... وكذلك في السلطانية... تلك المنطقة التي تطل على الحديقة الجميلة، التي لم نكن نراها إلا مُتلصصين من خُرم الأبواب... أو من ثغرات في الجدار.
وأُمنية ركوب الحمار... يمكن أن تكون وليدة (الحصان) الذي كان يركبه (عمي) يذهب به إلى عمله في الصباح ويعود راكباً عليه وهو ببزته الرسمية بعد الظهر...
الحصان أُمنية بالغة الضخامة... وهي مستحيلة تماماً... أما الحمار فها هي النقود ملكي... وتحت السرير... لا يدري عن مكانها مخلوق... وفي المناخة يؤجّرون الحمير.. للأطفال.. ويمشي وراءهم (حَمَّار).. ليقيهم شر السقوط...
فمتى أخلص من جرح الختان... لأذهب إلى المناخة وفي جيبي النقود، التي استطيع أن استأجر بها حماراً... تخيّلت شكله... أبيض... قصير.. بردعتُه حمراء... وأذناه مندفعتان إلى الأمام... و... و... الخ.
وهكذا أستطيع أن أقول أني خرجت من عملية الختان... بمكافأة غالية... النقود...
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :787  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج