شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أول صباح في حياتي
* أول صباح في حياتي... من الذي يستطيع أن يذكر أول صباح في حياته مادام قد استقبل الحياة ذات يوم، ودرج مع الأحياء يستقبل معهم الأصباح كما يستقبل الأمساء، ويرفع عينيه إلى النجوم ويبهره القمر، هلالا، ثم مراحل من استدارته، إلى أن يصبح بدرا...
ولكن أنا... أنا أذكر أول صباح في حياتي... أدركه، ولعله حتى بعد أن أوغلت في طريق العمر وحتى بعد أن رأيت مئات من سويعات الصباح، في طفولتي وأيام صباي، وفي شبابي بكل ما عرفت في أيام ذلك الشباب من أفراح ومآسِ، ومن تغلب على المشاق والمتاعب أو اندحار وتراجع أمام الواقع بكل تجهمه وعبوسه... ماأزال أذكر أول صباح في حياتي... وكأنه أول ساعة من عمري.
لا أعرف كم كان لي من العمر، في ذلك الصباح... في تلك الساعة من المسيرة التي رأيت نفسي أبدؤها... بل لم أكن أعرف إلى من كنت أنتمي من أولئك الذين كانوا حولي أو كنت أنا حولهم.
كلهم في ذلك الصباح الباكر، والشمس ماتزال ملتمس سبيلها إلى الغرفة التي وجدتهم يوقظونني فيها... كلهم يصرخ في وجهي، أن أفتح عيني، أن أتحرك.. وأن أغادر الفراش الذي عرفت ـ في ذلك الصباح فقط ـ أني أنام عليه، وإلى جانبي مخلوق صغير مثلي يتعثر في مشيته، ويصر على أن ينهض كلما تعثرت قدماه، وأن يستأنف المشية المتعثرة الطائشة وأن يمد يديه ليتناول بهما أي شيء تقع عليه عيناه. وهو غالبا ما يرتفق خاصرة فتاة سوداء تنتقل به من مكان إلى آخر، وتسكت صراخه المتواصل بمزقة من الشاش تغمسها في الحليب ثم تحشو بها فمه. وفي يدها طرف هذه المزقة تسحبها من حلقومه كلما بدا لها أنه يكاد يبتلعها... ولم أعرف أن ذلك المخلوق المزعج كان شقيقي إلا في ذلك الصباح...
ومالا يزال يذكرني بذلك الصباح ((حتى اليوم)) رائحة تلك الأكلة التي كانت تملأ أنفي ورئتي، وقد عرفت فيما بعد أنها (الحيسة)، تصنع من معجون التمر ومحمّس الدقيق بالسمن... وفي ذلك الصباح فقط عرفت أن التي تصنعها هي أمي، وأن الرجل العجوز الذي خفقني على قفاي، لأكف عن مناداتها ففَّمْ وأن أناديها (أمي)، هو أبوها، وجدي.
وأن يكن ذلك الصباح هو أول صباح عرفته، ولم أستطع قط أن أنساه، فإني لا أشك أن جميع الذين كانوا حولي... أمي وجدي وخالتي والفتاة السوداء، وأخي على خاصرتها، وتلك السوداء الأخرى العجوز التي كانت تقفل الصناديق والغرف بعد أن تكدس فيها مالا حصر له من الأمتعة والأثاث وتجمع المفاتيح وتنظمها في حبل مجدول من الصوف الأسود، كلهم لو قدر لهم أن يعيشوا حتى اليوم ـ لما استطاعوا أن ينسوا ذلك الصباح.
ومع ذكراي التي لا تنسى عن أول صباح عرفته في حياتي، أذكر أني قد عرفت إلى جانب جدي الذي خفقني على قفاي... أمي التي كنت حتى هذه الخفقة لا أعرف إلا أنها ففَّمْ وخالتي الجميلة في ميعة الصبا، وأخي الذي يدير ساقيه حول خاصرة الفتاة السوداء، ثم تلك السوداء العجوز الاخرى، التي تكدس الأثاث والصناديق في الغرف وتحكم رتاج اقفالها وتنظم المفاتيح في الحبل المجدول من الصوف الاسود، مع رائحة (الحيسة) التي ملأت خيشومي ورئتي وظلت تسيل لعابي دون أن يؤذن لي بتناول لقمة منها، وقد عرفت وأنا أخرج من المنزل ويدي في يد أمي تارة، وفي يد خالتي تارة أخرى، وقدر الحيسة على رأس الفتاة السوداء، وأخي على كتف أمي، وجدي يحكم اغلاق باب المنزل، والعجوز السوداء تُعول وتبكي وترطن بالتركية كلاما ترفع معه يديها إلى السماء، وتقف لحظات ثم تتهالك على العتبة... عرفت أن الزقاق الذي يمشون خارجين منه واحدا وراء الآخر، اذ لا يتسع لمشي اثنين في صف واحد، هو زقاق (القفل) من أزقة حي الساحة في المدينة المنورة، واني قد ولدت في ذلك البيت، كما ولدت فيه امي وخالتي وعدد من الأخوال يتردد على لسان أمي اسم واحد منهم، مات بعد أن بلغ العاشرة من العمر. ويصعب عليَّ أن أتذكر كيف وجدت نفسي مع جدي العجوز وأمي وعلى كتفها أخي، وخالتي تتناول قدر (الحيسة) من الفتاة السوداء والدموع تملأ عيون الجميع، ما عدا جدى الذي رأيته واقفا على باب عريض ظننته باب بيت تجاوره بيوت كثيرة مفتوحة الابواب متشابهة الاشكال وجميعها بلون واحد، وكل واحد منها قائم على عدد من العجلات الحديد.. ولم يطل وقوفنا مع أمي وخالتي وأخي فقد ملأ الفضاء دويُّ صفارة، التفت لأرى على امتداد بصري في اتجاه دوي الصفارة الذي تكرر، دخانا أسود وجرما هائلا أسود ايضا يملأ الساحة ضجيجا وجلبة وينفث هذا الدخان الذي بدا لي وكأنه قد حجب ضوء الشمس.
وامتدت يد جدي إلى الفتاة السوداء يتناول منها أخي ويضعه بجانبه ثم عاد يمد يده ليتناولنى وقد رفعتنى أمي بين ذراعيها، فيطرحني أرضا كما يطرح قطعة من متاع، ثم عاد يمد يده ليساعد أمي وخالتي على الصعود والوقوف إلى جانبه، حيث يقف، وأرى الجميع يبكون، وهم يرون الفتاة السوداء تولول واقفة على الأرض، رافعة بصرها إلى أخي الصغير ومعها خلق كثير ممن عرفت ـ فيما بعد ـ أنهم الأصدقاء يودعون جدى الشيخ، وأن هذا البيت الذي تسلقوا اليه بمساعدة جدي، يزدحم، ليس فقط بعشرات من الناس شيوخا وشبانا.
ورجالا ونساء وصبية وأطفالا. وانما أيضا باكداس من الحقائب والأكياس واللفائف والصناديق إلى جانب كميات من الحطب والفحم والمواقد. والسلال والزنابيل، ومع كل ذلك قدر ((الحيسة)) الذي بدا لي ان خالتي هي التي عهد اليها بالمحافظة عليه فكان بين يديها.
وقد الزموها أحد أركان المكان قريبا من النافذة. والى جانبها أمي وعلى صدرها أخي الذي لا أدرى كيف التزم الصمت في هذه اللحظات.. فلم يكن يصرخ كعادته، ولم يعد فمه محشوا بتلك القطعة من الشاش المغموسة في الحليب، أما أنا، فقد احتضننى جدى الشيخ واقتعد عددا من الحقائب تحتى معه بحيث كان يتاح لي أن أرى عبر النافذة المرتفعة تلك الجموع الغفيرة من الخلق تتلاحق وهى تتصايح، وتتزاحم، تتنادى، وفي العيون مع الدموع ما أصبحت أعرف اليوم أنه ((جحوظ)) واحمرار الرعب والفزع، والاحساس بالتشرد والضياع الداهمين.
ولا أذكر كم مضى من الوقت، فقد غلبني النعاس وأنا في حضن جدى، ولكنى لا أنسى ان زلزالا عنيفا قد ايقظني من نعاسي، ففتحت عيني. وأخذت أدير حملاقَّي فيما لم يسبق أن رأيت مثله قط... فالأرض تمشى... الجبال تمشى، والاشجار الصغيرة المتناثرة هنا قد ابتعدوا إلى الوراء ومن ورائهم عن بعد، كانوا هم أيضا يمشون دون أن يحركوا أرجلهم... ورفعت بصرى إلى جدى الشيخ، فرأيته ينظر إلى بعيد وفي عينيه، وعلى لحيته وعلى تسيل الدمع من عينه، عبرات وشفتاه تهمسان بالصلاة على النبي، وبآيات من القرآن الكريم استطعت أن احفظ منها لكثرة ما سمعت الشيخ يرددها فيما بعد، ((ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)).
ولم يكن في وسعى أن ادرك لهذا الزلزال الذي ايقظنى من غفوتي، وتعذر أن افهم كيف يمكن أن يظل هذا البيت الذي أشرف من نافذته واقفا حيث هو بينما الأرض والأشجار والمباني البعيدة والجبال هي التي تمشى ـ والى الوراء وانا أعرف أن المشي انما يكون دائما إلى الأمام.
ولم استطع أن اسأل جدى الشيخ شيئا. فهذه الدموع التي تملأ عينيه، وتتلألأ على لحيته وتجمد على خديه، تؤكد انه ليس في حال يستطيع معها أن يتكلم، أو أن يقول شيئا سوى هذه الهمسات التي تتلاحق من شفتيه بالصلاة على النبى وبما يتلو من آيات من القرآن الكريم.
والتفت إلى ذلك الركن الذي التزمته خالتي وإلى جانبها أمي وبينهما ((قدر الحيسة)). وتململت في حضن جدى بحيث استطعت أن ألفت انتباهه إليّ، ولم تغب عن الشيخ رغبتي في الذهاب إلى حيث تجلس أمي وخالتي فرفعني بين ذراعيه، ودلانى إلى أن لامست قدماى الأرض، فانطلقت أعدو اليهما ورأيت أخى مستغرقا في النوم في حضن أمي تحت ملاءتها، ورأيت الحجابين المسدلين على وجه أمي وخالتي مبللين. وفي يد كل منهما منديل، تدسه أسفل الحجاب فترقأ به ما تفيض به عيونهما من عبرات.
ولم أفهم مالذى يبكى هذا الجد، وهو الذي كان لا يكاد يطأ عتبة المنزل حتى يخفت كل صوت وتتلاشى كل نأمة، خوفا من عكازه وتحسبا لحرصه على أن لا يسمع الجيران صوت النساء في منزله، ثم ماالذى يبكى أمي وخالتي؟ وجال في ذهنى الصغير ان شيئا ما يحدث في هذه اللحظات، وفي هذا الذي آوينا اليه مع كل هؤلاء الناس، وفوق ما تراكم من الأمتعة والحقائب واللفائف والصناديق. ومع ان خيالي بدأ يتصور حالة من الرعب تسيطر على الجميع، ووجدت نفسى أيضا أكاد أصرخ باكيا، فقد سطعت رائحة الحيسة في القدر بين أمي وخالتي وأحسست لذعة الجوع، إذْ لم اتبلغ لقمة من طعام منذ ايقظوني في ذلك الصباح ومع ذلك لم أجرؤ على أن أطلب شيئا. وأنا أرى هذا البكاء.. فتذرعت بالصبر واقتربت من حضن خالتى فضمتنى إلى صدرها، واضجعتنى على فخديها... وتركت يدها الناعمة تمر على جبهتى فاستغرقت في نوم عميق...
ولا ادرى أن كان نومى في حضن خالتى قد طال أم قصر، فقد سمعت أمي وخالتي توقظاني وفتحت عينى وجلست لأرى جدى أيضا، وأخى على صدر أمى، وقد تحلق الجميع حول قطعة من قماش عليها قدر الحيسة وطبق من الجبن وكسر من ارغفة الخبز والى جانب الشيخ ابريق يسكب منه الشاى لأمي وخالتي ويخرج لكل منهما قطعة من السكر وهو مايزال يهمس بالصلاة على النبي وبتلك الآية من القرآن. وكنت جائعا، واشتهيت أن أمد يدى وأن أقتطع ما أشاء من قدر الحيسة التي ما زلت مشغولا باشتهائها منذ رأيت أمي تصنعها، عندما أيقظوني في الفجر. ولكن الشيخ كان هناك وقد تعود ان لا يسمح للصغير بأن يمد يده إلى شئ وان انتظر ليعطيني هو أو أمي أو خالتي نصيبي من أى لون من الوان الطعام. ولم يطل انتظارى فقد امتدت يد جدى إلى القدر بملعقة ملأها ثم وضعها في طبقه ثم ثانية وثالثة، ثم بقطعة سخية من الجبن، وبجزء من رغيف من خبز الحنطة وزاد على كل ذلك أن ملأ كوبا من الشاى وضع فيه قطعة السكر...
ومع أن جوعي كان أشد من أن يجعلني التفت إلى شيء مما حولي فقد رأيت أن الركن الذي تحلقوا فيه قد أحيط بستارة من قماش تحجب عنهم انظار الآخرين، وأن أمي وخالتي قد أزاحتا عن وجهيهما حجابيهما، والاهم من كل ذلك أن هذا المكان الذي اصبحوا يجلسون فيه ويتناولون طعامهم كما كانوا يتناولونه وهم في منزلهم الذي خرجوا منه في ذلك الصباح، لا يكف عن الاهتزاز والتأرجح مع هذه الضجة التي تصم الآذان..
وقطع الشيخ همسه بالتلاوة ليقول:
سوف لن يبقى في المدينة أحد... هكذا أمر الباشا وقد سمعت أنه لم يأمر باخلاء المدينة إلا بعد أن استأذن السلطان..
وسمعت أمي تقول:
لكن العم محمد سعيد، ومعه زوجته الخالة فاطمة، والعم عبدالقيوم وزوجته ((خاتون))... رفضوا أن يسافروا وهم مايزالون في بيوتهم.
ورأيت جدي يضحك ساخرا وهو يقول:
لا يستطيع الباشا اكراههم على السفر. ولكن من أين يأكلون؟
سوف لن يجدوا ما يأكلونه، بعد أقل من شهر... كل الأكل سيوفر للعسكر...
وقالت أمي:
حسنا... ولكن نحن وهؤلاء الذين يسافرون معنا، إلى أين؟
إلى الشام بالطبع... قلت لكم هذا منذ اكثر من شهر..
وقالت خالتي:
وهل سنجد عبدالغني في الشام؟
وضحك الشيخ ضحكته الساخرة...وقال:
عبدالغني؟... لست أدري اين يكون؟ لا أظنه يختلف عن زاهد.
سافر هذا ليعود بعد ثلاثة شهور وقد انقطعت أخباره وها هو ابنه قد بلغ الرابعة ـ ولم نتلق عنه أي خبر.. وزوجناك أنت من عبدالغني... قلنا هو ايضا ابن عمك من لحمنا ودمنا، وقد سافر ولم يصلنا منه شيء.
وقالت أمي:
ربما يكون قد استشهد في الحرب.. اننا نسمع من الذين كانوا يقدمون إلى المدينة بهذا (البابور) أن الذين استشهدوا كثيرون.
استشهدوا؟؟؟.... حبذا لو صدق ظنك فليس أحب عند الله من أن يستشهد المسلم، وهو يجاهد الكفار في هذه الحرب... ولكن زاهد سافر إلى روسيا ليجمع من المسلمين فيها هذه الأموال التي اعتزموا أن يؤسسوا بها الجامعة الاسلامية، والأرجح أنه مايزال هناك ولن نراه قبل أن تنتهي هذه الحرب التي أغلقت الطرق.. وأرسل ضحكة ساخرة قصيرة خافتة وهو يرتشف آخر ما في كوبه من الشاي ثم قال:
أما عبدالغني... لكم عارضت في زواجه من خديجة ولكنه النصيب، واصرار أمكم حميدة يرحمها الله. لانه من أبناء قبيلتها وأخرج من جيب في صدره منديلا كبيرا مسح به فمه وهو يقول:
لا شك اننا سنجده في الشام، سيأتي من يقول لنا أنه...
ثم التزم الشيخ الصمت. وهو يغمر خديجة بنظرة اشفاق اكتفى بها عن أن يفضي بما في نفسه عن زوجها من شكوك وظنون. وحين أخذت أمي تجمع الأطباق وأكواب الشاي والملاعق واحتضنت خالتي أخي على صدرها، نهض الشيخ عن المائدة وارتفق يدي إلى مكاني معه على الحقائب، أمام النافذة حيث عاد إلى التلاوة والصلاة على النبي. وإلى تلك النظرة الشاردة في الصحراء تتلاحق في أفقها البعيد سلاسل الجبال، في ألوانها الزرقاء الداكنة، أو الحمراء الشاحبة، تحجبها نتف من السحاب، فيغيب بعضها وتتلامح قمم بعضها ناهدة كأنها تدعو عشاقها في عالم وراء الأبد السحيق..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1366  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج