شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نقش على الماء بين الرؤية والتشكيل
بقلم الدكتور: صابر عبد الدايم
أستاذ الأدب والنقد بجامعة أم القرى كلية اللغة العربية
لقد تعددت الاتجاهات الشعرية والمدارس الأدبية في العصر الحديث؛ وهذا التعدد وإن أدى إلى تصادم أصحاب الاتجاهات أحياناً، لا يلقى باتجاه في مهب الريح، أو زاوية النسيان؛ وتظل التعددية الفنية، والتنوعية الرؤيوية... آية دالة على اتساع الفضاء الشعري..، وتنوع مداراته، وخصوبة آفاقه.. وديوان "نقش على الماء" للشاعر محمد صالح باخطمة.. يحلق... في فضاء هذا التنوع..، ويتخذ لنفسه مداراً متحداً مع مدرستين متأصلتين في مسيرة الشعر العربي الحديث، وهما.. اتجاه جماعة أبولو..، ومدرسة "المهجر"...
وهذان الاتجاهان.. الشعريَّان.. يرتبطان بالمدرسة الرومانسية ارتباطاً وجدانياً.. وفنياً، ولهما أثرهما الغائر في تجارب أجيال متعدِّدة من الشعراء العرب المعاصرين...
والشعر عند أصحاب "النزعة الرومانسية" ليس محاكاة للحياة والطبيعة.. بل هو خلق جديد، وأداة الخلق ليست العقل ولا الملاحظة المباشرة بل الخيال المبتكر، أو المؤلف بين العناصر المشتتة في الواقع الراهن، أو في ذكريات الماضي.. بل وفي إرهاصات المستقبل – كما يقول د/محمد مندور.
.. وهذا التيار "الرومانسي" لم يصبغ الشعراء جميعهم بصبغة واحدة، بل كل شاعر غدا له مذاقه.. ورؤيته.. وبصْمته.. فالشعر أسرة أفرادها القصائد – كما يقول "د/زكي نجيب محمود"، والقصيدةُ الواحدة إن كان لها أخت توأم تطابقها كل المطابقة، فقدت مميزاً من أهم مميزات الشعر، بل مميزات الفن على اختلاف أنواعه، وهو التفرد الذي لا يقبل التكرار، لا في ماض ولا في حاضر، ولا مستقبل، وإذن فتباين أفراد الأسرة هنا أمر محتوم.. وليس هو بالعَرَض الذي يحدث أو لا يحدث دون أن يتأثر الموقف بحدوثه.
والشاعر "محمد صالح باخطمه" لم تجرفْه موجات التجديد الشعري، المتناحرة، ولم يُفْتن بسرابها الخادع البراق، - وإنَّما نراه في ديوانه يستجيب لأصداء نفسه، وتموجات مشاعره، وانعكاسات هذه الأصداء والتموجات على رؤيته للآخر..، وموقفه من حركة الحياة، وهو موقف ـ إيحائي هامس ـ يظل بمنأى عن "الجهارة الخطابية واللغة التقريرية" والتجارب الحماسية الصارخة..
.. وعلى الرغم من عدم تعدد ألوان التجارب الشعرية في ديوان "نَقْش على الماء"، فإن تجربة الشاعر "الوجدانية" تتنوع أبعادها، تنوعاً ثرياً على مستوى الرؤية والتشكيل.. وهذا التنوع.. لا يقحم نفسه في الحقول الشعرية الحديثة.. الغامضة.. التي تتنوع أُطُرها الفنية وتتعدد طرائق توظيفها للغة والتراث، واسترفاد الموروث العربي والإسلامي، والإنساني..
وتظل التجربة الموهبة هنا متفتحة نوافذها للقارئ، لا توصد باباً، ولا تصد شعوراً، وإنَّما ثمارها ناضجة وقطافها دانية، لا غموض يحجبها ولا تعقيد يخنقها.
والرؤية الشعرية في هذا الديوان تشع بهذه الأبعاد المتعددة:
أ- البعد الذاتي.
ب- البعد التأملي.
ج- البعد الإنساني.
د- البعد الاجتماعي.
أ- البعد الذاتي..
والذاتية تسيطر على "الديوان" بدءاً من العنوان "نقش على الماء" وهو يجسد رؤية الشاعر، وخبرته بالحياة، وكأن كل مكابدة الإنسان ومعاناته، ما هي إلا نقش على الماء.. لا أثر له.. فور الانتهاء من ملابسة الحدث للزمن، وهذه الرؤية الذاتية.. تقترب من آفاق العالم الشعري عند "عبد الرحمن شكري"، حيث التعانق الحميم بين العاطفة والعقل، وعدم الانبهار بظواهر الحياة، والرغبة في سبْر أغوار النفس..، والانطلاق من الذات للتكيف مع حركة الوجود المائجة بالتفاعلات.. والتيارات المتدافعة.
وأصداء هذا البعد الذاتي يعلو إيقاعها في القصائد الآتية:
(أصداء الشاطئ ـ الشوق العائد ـ القلب الشاعر ـ أطياف شاردة ـ حكاية قلب ـ قبض الريح).
.. ولنستمع إلى شاعرنا وهو يدافع عن فنّه..، ويُعْلن أنه ما زال قابضاً على جمْره..
هو في أعماق روحي بارق حلو التمني
في ليالي السهد والآهات يشدو يبعد الآهة عنِّي
عجباً يا قلب أنت اليوم في شك وظن
حيث يخلو الكون إلا من صدى لحني المرنّ
فإذا الأطيار من فرط الأسى تبكي لحزني.
.. وفي قصيدة "هذا أنا" تتجلى فلسفة الشاعر، وتبرز هويته ويكشف لنا عن ملامح ذاته في تفاعلها مع الآخرين، وفي موقفها مع تيارات الزمن المائجة.
يقول ـ مخاطباً ملهمته ـ:
قالت صف نفسك: لا تكذب
قل لي من أنت ولا تهرب
أنا يا ملهمتي صمتُ الأيام
وأنا فرحتها إذْ تخصب
لي حكمة شيخ مختبر
لي نزقُ الأطفال المتعب
إني كالبحر إذا يصفو
وأنا كالبحر إذا يغضب
رأس كالطود.. فلا ريح
تثنيه ولا حرّ يلهبْ
لي قلب.. يهوى من زمن
لم يحقد يوماً أو يعتبْ
عمري.. ما عمري.. أغنية
من قبل لقائك لم تكتبْ
هذا أنا.. من جمع الأضداد
أو يَمْلك رجْل أن يكذبْ
.. والديوان يفصح عن ذات الشاعر في كثير من التجارب.
(ب) البعد التأملي..
وتتعانق الذات.. مع التأمل.. في هذه النقوش التي أراد لها صاحبها أن تكون نسمات رقيقة.. تلمس وجه النهر.. ولا تكون عواصف تثير الزوابع وهكذا يكون التأمل الشعري، لغة هامسة، وعاطفة صادقة وتجاوباً مع الظواهر الكونية.. وانفعالاً بها.. واندماجاً في مشاهدها..، وفي هذا المناخ التأملي.. يفكر القلب.. ويشعر العقل.. فإذا التجربة مزيج من العقل والعاطفة.. والفكر والإحساس..
وما الطبيعة في الواقع سوى مرآة الإنسان.. كما يقول "ميخائيل نعيمة.. فألغازها.. وأسرارها، وخيرها وشرها.. وجمالها.. وقبحها، ليست سوى انعكاسات ألغازه وأسراره، وخيره وشره، وجماله وقبحه، كما يكون الإنسان تكون الطبيعة من حوله.. فمفتاح الطبيعة ليس في الطبيعة عينها، بل في الإنسان نفسه، وذلك المفتاح هو المعرفة".
.. والشاعر في نقشه على الماء.. يترك هذه النقوش الغائرة في جبهة البحر..
.. يقول في نداء المستغيث الحائر أمام سطوة البحر، واستبداد أمواجه، وعالمه المجهول:
أيها البحر.. وكم تطوي من السر الدفين.
كم طوت أمواجك الصماء آلام الحزين.
كم شجيٍّ جاء بالدمع فأرْواك السخين.
* * *
أيها البحر.. وكم تاهت على شطك رُوحي.
منذ عامين وكان الشط مفتون الصدوح.
يوم أرسلت مع الموج بأنات جروحي.
كنت يا بحر تناديني.. وتذكي من طموحي.
* * *
.. إن هذا العزف على الوتر الرومانسي.. والاحتماء بالطبيعة يعيدنا إلى الإيقاع الرومانسي الممتزج بالخوف والحيرة والقلق.. والإحساس بالاغتراب الزماني والمكاني، يُعيدنا إلى صوت إبراهيم ناجي.. وأبي القاسم الشابي.. وإلى حقل التجارب الرومانسية الصادقة..
و "نداء الغروب" من أعمق التجارب التأملية في هذا الديوان.. فالشاعر يبحث عن "بلاده المحجوبة" ويرثي ميراثه الضائع..، ويبكي جمال واقعه الشاحب.. وذلك في إيقاع جديد.. ونغمات قصيرة.. تشبه نبضات القلب السابح في نجاواه، وصدى الخطوات الباحثة عن أليف تاه..
.. وما أشبه هذه النغمات التأملية بإيقاع "نسيب عريضة" في قصيدته "يا نفس" وأصداء "نعيمة" في قصيدته "التائه"، وغيرهما من تجارب الشعر المهجري.. وهو يتماثل مع هذه التجارب رؤية، وصوراً وأساليب ومفردات لغوية إيحائية..
يقول الشاعر:
في ثنايا الوجودْ
لم أجد من أثرْ
غير ناي حزينْ
صار يشكو الضجرْ
أخرسته السنونْ
بعد طول السمرْ
كان حولي ضياءْ
مفعم بالأملْ
كم أنار الطريق
من طوايا الزللْ
أطفأته الرياح
وطواه الأجلْ
كان حولي صحابْ
أينهم يا دروب
أقفرت بي الدنا
أرهقتني الخطوب
كدت وحدي أذوب
خلف قلب يلوبْ
يسأل العابرين
عن رفيق غريب
(ج) البعد الإنساني
والخيط التأملي في شعر محمد صالح باخطمة.. لا ينقطع حتى في التجارب الإنسانية التي تنفتح على قضايا الإنسان ومشاكله..، وتنأى عن الدوران الحبيس في فلك الذات، ومن هذه التجارب قصيدته التي جمع فيها بين الحب والسياسة..، وهي أشبه.. بالقصة الشعرية.. التي تنتظم تجربة الشاعر.. وموقفه من صراع السياسة المحموم، .. وما جره من ويلات ومشاكل عالمية.. تكاد تأكل الأخضر واليابس.. ويتكرر في هذه التجربة أسلوب الاستفهام، كثيراً.. إيحاءً بالحيرة والقلق، والخوف، وتتكرر كلمة "قصة".. في أول مقطوعة من هذه القصيدة.. إيحاءً بأن الصراع السياسي قصةً داميةً متكررةً في كل زمان وفي كل مكان.. في كل العصور. ولدى كل الشعور.
.. ولنتأمل قصة الشاعر ـ الراكض بين الحب والسياسة ـ حيث يقول:
قصتي أغرب ما غناه مفتون وما راوٍ رواهْ.
قصة الظامئ للنور.. وفي النور ارتعاش من رؤاهْ.
قصة التائه في الكون فلم يهدأ ولم يبلغ مناهْ.
قصة ردّدها الليل وغناها على طول مداهْ.
هل رأيتم غير دنيا مُزِّقتْ أرجاؤها ضلَّتْ هداها.
قسَّموها بين ضدين وكل منهما يبغي اتجاهاً.
واحد في الشرق.. والآخر في الغرب.. وكل يتباهى.
بالردى والذرة الحمقاء والدنيا إذا اسودت رؤاها!!!
(د) البعد الاجتماعي
والبعد الاجتماعي في تجربة الشاعر.. ليس رصداً مباشراً لما ينفعل به من ظواهر وأحداث اجتماعية خاصة أو عامة.. ولكن التأمل.. والحرص على الخصوصية في التناول يغلف التجارب الاجتماعية.. وهي مزيج من الحب والسياسة.. والالتحام بالقضايا الاجتماعية المتعددة.
ومن هذه التجارب الاجتماعية: قصيدة "إليه.. إلى الذي أعنيه ولا أسمّيه".
وهو يصور فيها نموذجاً ـ اجتماعياً مرفوضاً ـ يتجسد فيه التصاعد والإدعاء والجهل:
متقلب هو كالزمان ويرتدي ثوب النبالة..
وهو الحقود ـ وإن تظاهر بالمودة في خباله؟؟
ومداهن أبداً يغيِّر جلده. في كل حاله ـ !!!
وقصيدة "رجل تحوّل".. تجسد رمزاً من رموز حياتنا الماضية قبل اختراع الآليات الحديثة التي تجمدت داخلها الأحاسيس.. والمشاعر..، وفقدت الرسائل المكتوبة مكانتها الأولى.. وتأثيرها العميق في النفوس، ولم يعد "لساعي البريد" أو "موزع الأشواق" دور في عصر.. صناديق البريد، وعصر "المحمول" و "الإنترنت".
وجاء وصف الشاعر دقيقاً طريفاً حين قال: بأنه "موزع الأشواق"، وكأنه القمر يهل.. مضيئاً بما يحمل من نجاوى وخواطر:
وموزع الأشواق حين يهل تعرفه الخلائق من بعيدْ
متأبطاً رزم الرسائل ليس يعرف ما بداخلها سعيدْ
هو لا يغيب.. وكل أشجان الأنام إذا تأخر تستزيد
ما عاد يأتينا ويشهد رَفَّة الأهداب إن وافى كعيد
هل نامت الأشواق. هل ماتت، فلا خل تذكر لا جديد
أم هل كبرنا –فالرسائل للصغار.. زماننا أضحى بعيد
زمن مضى رجل تحول.. أو تطور صار صندوق البريد؟!!
- من معالم التشكيل الفني:
إن قارئ هذا الديوان لا يصدم بتعقيد معنوي.. أو لفظي، ولا يقف حائراً أمام غرابة الصورة الشعرية ـ والصورة التعبيرية ـ.
.. ولكن تنساب كلمات الشاعر.. وأساليبه.. وصوره.. في سلاسة.. وعذوبة.. مع الاحتفاظ بوهج اللغة الشعرية الموحية في كثير من التجارب، وأول ما يستحق التنويه به من معالم التشكيل الفني – هو النغم والإيقاع لدى الشاعر.. فقد حافظ على أوزان الشعر وقوافيه.. مع التنوع في الأطر العروضية.. ففي الديوان نجد القصائد ذات القافية الواحدة، ونجد الرباعيات والخماسيات.. والموشحات.. وحتى "شعر التفعيلة" نجده.. على استحياء وندرة.. في هذا الديوان.
.. ومرثية الشاعر "حمزة شحاته".. تقترب من عالم شعر "التفعيلة" إيقاعاً ورؤية، وصوراً، ولبنات لغوية إيحائية رامزة.. يقول في هذه المرثية "الفارس غاب":
يا من علّمني أن الغربة
في النفس
وليست في بعد الأوطان
يا من علمني أن العالم سجن
والسجان هو الإنسان
الفارس غاب
ركب الفرس المغسول بضوء الفجر
وسارْ...!!
- وقصيدة "أغادير فجر" أو "أغاريد فجر" موشحة مكونة من ثلاثة مقاطع، ولكن لكل مقطع نظامه الإيقاعي في المطلع.. والغصن والقفل متماثلان.
- يقول في الجزء الأول من هذه القصيدة "الموشحة":
أعِدْ لي مع الفجر لحن الأملْ
فإني من الشوق لما أزل
على ظمإ لسناه الخضلْ
أعده فما اشتاق قلبي سواهْ
وما رق شعري لغير نداهْ
لخفق الحنينْ
إلى ساكنين
شغاف الفؤاد فمنهم رؤاهْ.
والشاعر في تعامله مع بحور الشعر.. نراه ينظم على البحور.. المألوفة مثل "الرمل.. والمتقارب، والمتدارك، والوافر، والبسيط" وبقية البحور.. ذات الإيقاع المألوف.. المنسجم مع حاسة التلقي عند الإنسان العربي.. وهذا يتوافق مع طبيعة التجربة الواضحة لدى الشاعر.. فهو لم يضع بعض تجاربه في قالب "البحر المديد" أو "المنسرح" أو "المجتث" أو "المقتضب"، لأن النظم عليها يحتاج إلى معاناة، ومعرفة بتشكيلات هذه البحور العروضية وزحافاتها وعللها.
- ونلاحظ أن الشاعر يكثر من النظم على بحري "الرمل، والمتدارك"، وهما من البحور التي لم يكثر من النظم في قالبيهما القدماء.. وإنما أكثر منهما المحدثون.. وذلك لسرعة إيقاعها ومواءمته لسرعة إيقاع العصر.. واضطراب الحركة والرؤية التي تصاحب الإنسان في عصرنا الحديث، وكأن الإيقاع الشعري يصور الحالة الشعورية والنفسية المصاحبة للشاعر، .. وهو غير منفصل عن قضاياه المعاصرة وعن هموم أمته وآلامها وآمالها.
.. ولنصغ إلى هذا الإيقاع الشجيّ.. من قصيدة أصداء الشاطئ، وهي من بحر الرمل التام. يقول:
كان لي بالأمس شدو وهوى
قد توارى اليوم في طيّ النحيبْ
ههنا صغت لحوني باسماً
وأراني اليوم أخطو في وجيبْ
لا أرى من أمسي الزاهي صدى
فأنا اليوم على الشط غريبْ
وعلى وتر "المتدارك" يعزف الشاعر هذه الإيقاعات الجميلة التي تذكرنا بقصيدة "الحصري":
يا ليل الصب متى غده
أقيام الساعة موعده
وقصيدة شوقي:
مضناك جفاه مرقده
فبكاه ورحم عوده
يقول الشاعر مناجياً "القمر":
ذهب السمار وما شعروا
أني مفتون يا قمر
أسفح آهاتي مبتسماً
أشدو ودموعي تستتر
في بعض رجاء مصطبر
لولاه لفاضت تنهمر
يا ليل عساك رفيق شج
الحب له وعد... قدر
تهديه ذخائر عن شغف
زمر الذكرى تتلوها زمر
ويتميز إيقاع "المتدارك" بخفته وسرعة تلاحق أنغامه؛ وموسيقاه الواثبة تناسب سرعة الإيقاع في هذا العصر، وهي أيضاً انعكاس لشدة الانفعال، وتأجج العاطفة وتوقدها.
* * *
وهناك عدة ظواهر فنية وأسلوبية يزخر بها الديوان ومنها:
- الصور الشعرية التي تجسد المعنى.. في إطار من الخيال الغريب المؤثر الذي ينأى عن التهويم والاستطراد.. فالخيال هو "العدسة الذهبية التي من خلالها يرى الشاعر موضوعات ما يلحظه أصيلة في شكلها ولونها"، كما يقول "ورد زورث".
- ونلاحظ أن الصورة لدى الشاعر "محمد صالح باخطمة" تدور في إطار "الخيال" الرومانسي، وتقترب أحياناً.. من الصورة التقليدية المألوفة في شعرنا العربي، .. وتبتعد الصورة الشعرية هنا عن الصورة التجسيمية التي يتسم بها "البرناسيون"، وليست هي من الصور المهمومة المشوبة بالغموض والتكثيف كشأن الصورة عند "الرمزيين" الذين يعطون الأهمية الأولى للظلال لا للألوان.
.. ومن قصيدة "حلم" تشرق هذه الصور الأليفة.. التي لا تحجب المعنى، ولا تثقل السمع، ولا ترهق الفكر.. فهو يصور محبوبته.. حين زاره طيفها.. في عدة صور جزئية.. وهي على الرغم من طرافتها.. لا ترسم لوحة متكاملة أو صورة كلية للمشهد الشعري الذي يلقى إلينا بتفاصيله.. فهذه المحبوبة "السمراء".
- أخت الأماني البكر، وهي "فرحة الفجر الوليد" وهي "بسمة الدهر" وهي "مرفأ العمر".. وهذه الصور تنتظمها الأبيات التالية التي تمثل المقطوعة الثانية من قصيدة "حلم".. وكأن هذه الصور - من مكونات ذلك الحلم الشعري.. يقول الشاعر:
سمراء يا أخت الأماني البكر والقلب المعنّى
يا فرحة الفجر الوليد وشدو صب بات مضني
يا بسمة الدهر البشوشة.. يا خيالاً ليس يفني
يا مرفأ العمر الحنون إذا علا موج.. وجنا
أنا إن نسيت فلست أنسى كم تغني
قلبي وفاء.. حين أرسل آهة لحناً أغنا
- وكثيراً ما يصوغ الشاعر صوره في قالب التشبيه.. ويكرر التشبيهات في البيت الواحد، ومع ذلك لا نشعر بتراكم الصور. ولا تعقيدها..
يقول في المقطع الثاني من قصيدته "حكاية قلب":
ربما اشتاق لأيام الهوى قلبي الظمى
وتغنيت بحب.. كان يوماً في دمي
وأعدنا سورة الشوق.. كلحن مبهم
لونه كالآه.. كالقول.. الذي لم يفهم -
.. وفي هذه التشبيهات الثلاثة الأليفة لدى السامع ـ إيحاءات كثيرة بما يريد أن يقوله الشاعر:
فسورة الشوق.. وهي خواطر نفسية غير مرئية ولا مسموعة تتجسد في صورة مسموعة فتصير لحناً غير مبين. ثم يشبه الشاعر اللحن بأن لونه كالآه.
.. وهنا تتراسل الحواس.. فاللحن صوت، وحين يكون له لون، ينتقل من حاسة الإدراك السمعي إلى حاسة الإدراك البصري..، ثم ينتقل الشاعر إلى حاسة أخرى.. وهي حاسة النطق، والسمع.. فيقول:
لونه كالآه.. كالقول الذي لم يفهم..
.. وهذه الصورة التي تعتمد على مبدأ "تراسل الحواس" تجسم انفعال الشاعر، واستغراقه في عوالم تجربته.. وكأنه يستعيد صوت شاعرنا القديم الذي يقول:
فعينَي ناجتْ واللسان مشاهدْ
وينطق منِّي السَّمعُ واليدُ أضغتِ
وللشاعر تعبيرات جديدة طريفة.. تثير دهشة القارئ المتذوق، وتوحي بدلالات متعددة تثري التجربة، وتنبئ عن شاعرية متمكنة.. وتأمل معي هذه التراكيب الشعرية.. وما تثيره من موجات إيحائية حولها، "الموعد الأخضر" ـ الصوت المخضوضر ـ في بحته ألوان صدى ـ لم يأت القمر الأسمر ـ الضحكة الكسلى ـ السمرة الريا".
والشاعر كثيراً ما يقدِّم تجاربه في إطار قصصي، أو إطار حواري.. يكسب القصيدة تماسكاً .. وتآلفاً؛ وفي بعض التجارب يأتي الحوار في صورة مناجاة ذاتية.. بين الشاعر وبين نفسه.. كما في قصيدة "الموعد الأخضر".
وللشاعر بعض التجارب الرامزة التي يمكن تعدد قراءتها.. وتأويلها، فهي تحمل عدة تفسيرات.. وهذا نهج شعري متميز.. وكنت آمل أن يكثر الشاعر من أمثال هذه التجارب، التي تتصدرها قصيدته "سيدة الأوقات" فإن الذهن ينصرف إلى أكثر من معنى.. وتأويل.
.. ووفق الشاعر في إهدائها إلى شاعر التأملات الكبير الأستاذ محمد حسن فقي.. فشعره.. ينحو كثيراً هذا المنحى المتعدد الأبعاد التأويلية.. فَمَنْ هذه؟ "سيدة الأوقات" إنها الزمن كله..
أنْتِ الفصول جميعاً.. قد جمعتِ بها
حلو الشمائل لا قَصْد ولا قَتَرُ
أنت الربيع إذا ما هلّ مبتسماً
فيه النسائم فيه العطر والزَّهَرُ
أنت الخريف سحاباتُ محملةٌ
فيها العطاءُ.. تباهَتْ وهْي تنهمِرُ
- وهي كما صورها الشاعر: الشتاء والصيف والربيع والخريف والصبح، وهي الحاضر والمستقبل والماضي.. إنها سيدة "الزمن".
فأنتِ سيدة الأوقات.. حاضرها.. وما مضى أو سيأتينا به العمر.
- وبعد.. فهذه إطلالة على عالم الشاعر المضيء الجميل.. وكنت آمل أن أترك القارئ يكتشف بنفسه تضاريس الحقل الشعري الخصْب.. ولكنني آثرت أنْ أشارك القارئ متعته.. وذائقته الفنية.. فكانت هذه الإضاءة النقدية تحية للشاعر المجيد.. وإن شاء الله لن يكون ما قدمه نقشاً على الماء ولكنه أثر بارز النقوش في صرح حياتنا الثقافية.. والشعرية.
.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1067  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج