شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الإنفاق... وتفجير الحقد
بعيداً عن الوعظ، والنصيحة، وما في مفهومهما، إذ لم يعد أحد يجهل أن كل ما يتدفّق منهما فيما يكتبه الكاتبون، أو ينادي به ويدعو إليه الدعاة لا مكان له في قلوب، أو عقول، الذين يوجه إليهم هذا الوعظ، أو هذه النصائح، رغم ما يحرص عليه الكاتب أو الداعية، من دعم أقواله بما جاء بعد القرآن الكريم، والصحيح من السنة، إلى جانب الثابت والمشهور من أحداث التاريخ القديم، الإسلامي وغير الإسلامي، بل ومن أحداث التاريخ المعاصر، التي نشهد نتائجها، في حياة الأمم والشعوب.
ولذلك، فإني حين التفت اليوم إلى ظاهرة الإنفاق والذي يتجاوز كل حدود المألوف والمعقول أو المقبول، ليصبح تبذيراً، وإسرافاً، لا يستهدف غرضاً سوى الاستغراق أو الإيصال تحليقاً في آفاق الترف و((الفخفخة)) والمظهر، الذي لن يزيد في القيمة أو المركز الاجتماعي لأن هذين العنصرين من مكوّنات الشخصية، لا يجهلهما المجتمع، ولا تنساهما ذاكرة الناس، ولن تمحو حقيقتهما أنهار الذهب، أو الملايين من الريالات أو الدولارات. والأعجب بعد ذلك أو قبله، أن الذين يُدعون لمهرجان الإنفاق - في حفل ساهر لعقد قران الابن أو الابنة - يستعيدون ما يذكرونَه عن حقائق عناصر تكوين الشخصية، وهم يشهدون ما يبهر أبصارهم، من مظاهر البذخ والترف... وقد يصل البهر، إلى حد عدم القدرة على تصور أن يوجد في هذا البلد، وعلى أرض الحرمين الشريفين، من يعيد إلى الأذهان قصة (قارون)، ولعلّ بعضهم تبلغ به الدهشة والبهر جداً ينسى معه نهاية قارون، فيردِّد يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ (1) وينسى أنه (كان مضرب المثل في الغنى والغرور، فبغى وتكبّر فخسف به وبِداره الأرض) (2) . وأذكر أو أُذكر بقصة قارون، لأن التذكير بليالي ألف ليلة - على سبيل المثال، وهو ما درج الكتاب على الاستشهاد به، على السرف والبذخ، يعتبر تافهاً لا قيمة له، بالنسبة لما قرأت، وسمعت أن مواطناً قد أنفقه في ليلة زفاف ابنه أو ابنته... وما قرأته، أقل مما تهامس به الناس... فما قرأته لم يزد على اثني عشر مليوناً من الدولارات، وما سمعته، زاد على خمسة وعشرين مليوناً من هذه الدولارات... ولا أستطيع أن أتصوّر - مجرد تصور - كيف يمكن إنفاق اثني عشر مليون دولار لحفل زفاف في ليلة واحدة أو حتى في أسبوع أو شهر. أذكر منذ سنتين أني كتبت، عن ذلك الذي أعد ثلاثين خروفاً للمدعوين في حفل زفاف ابنته أو ابنه... ولم يستطع كل المدعوين أن يأكلوا أكثر من خمسة خراف فاضطر صاحبنا أن يشحن ما لم يؤكل من الخرفان والأرز المطبوخ، ومعه كل الزوائد (والتحابيش) في شاحنة قامت بقذف كل هذه (النعمة) من نعم الله على ذلك المواطن في (ملقف) النفايات، حيث لا يوجد من يستفيد منه حتى من الحيوان فضلاً عن الإنسان. يومها، لا أدري إن كنت قد أثمت، حين وصفت هذا العبث البشع بأنه (كفر بالنعمة) واستهتار بفضل الله سبحانه حقه علينا الشكر والعرفان. وهاأنذا لا أملك اليوم إلاّ أن أحوقل وأحسبل، حين أسمع عن هذا الذي أنفق تلك الملايين من الدولارات لحفل زفاف ابنه أو بنته وفي ليلة واحدة... وما أسمعه عن البذخ والإسراف كثير في الواقع، وعلى الأخص تلك الأيام التي نسميها أيام الطفرة، ولم أكن أصدّق شيئاً مما أسمع... كنت أعد كل ما يقال مجرد إشاعات يراد بها تشويه السمعة والتشهير بخلق الله، وحجتي أنه ليس مما يصدر عن عقلاء، وليس مما يتّفق وحق النعمة على المسلم. ولكن ما قرأته وسمعت عنه منذ أسابيع. نسف حجتي، وأكّد لي أني الوحيد الغافل عن نماذج الكفر بالنعمة من المواطنين.
وهباءً، ونفخٌ في قربة مثقوبة... أن أعظ أو أنصح، أو أسرد سلسلة المأثور من الحكم والمواعظ، أو أن أقول، إن هذه الملايين من الدولارات، إذا كان لا يوجد في المملكة من يحتاج إلى شيء منها - وهو زعم باطل - فإن الجياع في أوطان المسلمين، بل في بلدان العالم الثالث كلّها، يتلهفون على فتات موائدنا التي تمتلىء بها عربات النفايات كل صباح.
ولكن... ليس هباء، ولا مجرد وعظ، أن أقول إن معظم أحداث التاريخ المعاصر وما استتبعها من اضطرابات وقلاقل في حياة الأمم والشعوب، لا تزال متواصلة مشهودة، كانت، نتيجة لما يفجّره مثل هذا الإنفاق، أو هو التبذير والبذخ والإسراف من مخزون الحقد في نفوس الذين لا يملكون إلاّ الحسرة، ولذعة الجوع، والحرمان، وهم يرون ما يهدر من الأموال على الليالي الساهرة وليس في حفلات الزفاف فقط، وإنما فيما تشهده بعض مرابع الأنس، في بلدان الغرب والشرق، بل وخلف الجدران من الدارات حتى في الوطن.
لا أعرف ما هو حكم الشريعة الإسلامية السمحة، على أمثال من تروى عن بذخهم القصص والأخبار... قد يكون صحيحاً أنه لا حجر على من ينفق مما يملك من مال اكتسبه من تجارة أو عمل أو إرث... ولكن هل يصح أن يترك له حق التصرف الذي يثير ويفجّر الحقد في نفوس إخوانه من المواطنين؟؟؟ وهل يصح أن يهدر هذا الكَمُّ من الأموال، بينما في بلدان العالم الإسلامي من يتضور جوعاً ويتلهّف على كسرة الخبز، وجرعة الحليب؟؟؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :576  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 140 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج