شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ضياع شهريار
شهريار، وسيافه الرهيب - وقد لا أخطىء إذا زعمت أن اسمه هو الاسم الذي اختير في بعض ما يحكى عن الخليفة (هارون الرشيد) للسياف الواقف لا أدري أين من القاعة التي تشهد والخليفة في صدر المجلس، حوار العلماء، وقضايا الرعايا، ثم ذلك الأمر التقليدي الذي يصدر إلى (مسرور) أو هو (سرور) بضرب عنق... أو أعناق من استحقوا في تقدير الخليفة، أن تضرب أعناقهم، في القاعة، وجلساء الخليفة لا يتوقفون عن الحوار، أو عن تناول الأفاويه، والنقل من الفستق واللوز وكؤوس الزنجبيل. كأن الرقاب أو الأعناق التي ضربت والرؤوس التي تدحرجت، والجثث التي تتدفق منها الدماء، لا تعني شيئاً أكثر من أن (العدل) يأخذ مجراه... وليس في أن يأخذ العدل مجراه ما يستحق حتى مجرد الالتفات بنظرة رثاء أو إشفاق.
شهريار هذا، تتحدث عنه الكاتبة المبدعة (غادة السمان)، وعن شهرزاد معه في هذه الأيام، حديثاً يشعرنا بأن أيام شهريار تلك، قد انتهت، وكذلك أيام شهرزاد في حللها وحلاها، وتحت قدمي شهريار، تحيط بها باقات الورد، ومباخر الطيب، والعود تقص قصصها، إلى أن يرتفع صياح الديك، معلناً أن الصباح قد أدركها، فليس عليها إلا أن تسكت عن الكلام المباح... وينصرف السياف الواقف أبداً بالمرصاد، ويذهب شهريار في شخيره التقليدي، لتغفو شهرزاد، وقد ضمنت أن لا يضرب عنقها يوماً آخر من أيام حياتها المرهونة دائماً بكلمة شهريار.
تقول (غادة السمان) فيما تنشره لها مجلة الحوادث من مقالات: (انتهى زمن وسائد الحرير، وحكايا الأساطير، وبخور العنبر وسجع التعبير) إذ ترجع شهرزاد وعليها بعد أن عاشت يومها كرحل في المكتب أن تبدأ مع المساء إعداد الطعام لشهريار والأولاد (والسياف) الذي علّق سيفه في المتحف إلى جانب رؤوس النساء المحنطة التي قطعها في عهود غابرة.
وقد كادت شهرزاد تنسى هل خرجت (ذات يوم للعمل) لتكيد لشهريار أم (لتساعده... لتلبي واجباً لا فرار منه أمام وطن بحاجة إلى توظيف نصف طاقته المشلولة... أم لتكون ذاتها... أم لهذه الأسباب مجتمعة؟؟؟
ثم تقول (لقد نمت المرأة العربية خلال ربع القرن الماضي مئات السنين، ونضجت بسرعة خارقة... وكي يستمر ذلك النمو لا بد من رعايته.
وتنهي (غادة) مقالها بسطرين (أعرف أن انتقال شهريار من قاعة عشق النساء وإعدامهن إلى غرفة المطبخ لغسيل الأطباق ليست نقلة هينة... ولكنها ليست أصعب من عمل شهرزاد كرجل عصري في المكتب، وكأنثى عتيقة في البيت... وحرصاً على بقاء البيت لا بد من التطور... ولكن كيف؟؟؟).
والأرجح أن شهريار، وشهرزاد، اللذين تتحدث عنهما (غادة السمان) أصبحا على هذه الحال، في عالم لا صلة له، بكثير من بلدان العالم العربي، التي لا يزال شهريار فيها، هو نفسه شهريار التقليدي العريق... ولا تزال شهرزاد هي نفسها أيضاً تلك (الجارية) أو الغانية). ولا يزال (السيّاف) الذي يضرب الأعناق موجوداً ولكن، ليس في القاعة، أو عند الباب أو خلفه، وإنما بين شفتي شهريار... الذي قرأ وسمع مئات المرات، أن كلمة الطلاق التي يقذف بها في وجه شهرزاد، عندما يشاء، لأي سبب أو حتى بدون أسباب، لتجد نفسها، وربما معها الطفل في الثامنة، والرضيع مقبلاً على تمام الحولين... تخرج من البيت... إلى الشارع... إلى المصير الرهيب الذي ينتظرها حتى ولو عادت إلى بيت أبيها وذويها... إن هذه الكلمة... هي أبغض الحلال إلى الله... لقد سمعها، وسمعها قبله الألوف من أمثاله، الذين قذفوا هم أيضاً بها وجوه زوجاتهم فتقوّض بناء الأُسر، وتشتّت شمل الأطفال، فإذا انتهى أمر حضانتهم إليه، فإن زوجة الأب - شهرزاد الجديدة - تنتظرهم، بكل ما تختزنه من ضيق بهم ورغبة في الخلاص منهم... فإذا قدّر لأمهم أن تتزوج رجلاً، غير أبيهم، فإنهم يواجهون تجربة وجودهم بين (أُمّين) كل منهما في عصمة رجل، هو (الأب) هنا... و(العم) هناك... تجربة يعيش كل أوجاعها وعقدها وردود أفعالها، ألوف ممّن كانوا أطفالاً، وهم اليوم رجال ونساء في مجتمع، آن للقيادات الفكرية الإسلامية فيه، أن تتداركه بالتقنين الذي لا يحرّم ما أحلّه الله سبحانه، ولكنّه - في الوقت نفسه - يرسّخ في ضمير الرجل ووجدانه، أن الزوجة، ليست الجارية أو الغانية... وأن هؤلاء الأطفال الذين تشتتهم وتبعثر كيانهم كلمة الطلاق، نعمة أنعم الله بها على الرجل والمرأة، لبناء مجتمع إسلامي متماسك ولا سبيل إلى هذا التماسك والتضامن إلا بأن يعكف الأب والأم معاً على تنشئتهم النشأة الإسلامية الصحيحة، البعيدة عن التهتك والاستهتار بالقيم في الشريعة السمحة، التي استهدفت في كل ما جاءت به من إباحة وتحريم، خير الإنسان... وخير الرجل والمرأة على حد سواء.
ولا أجد حرجاً في أن أقول إن ما منّ الله به على البعض، من سعة في الرزق، وبسطة في العيش، وكثرة في المال، لا يعطي هذا البعض الحق في أن يرجع (شهرياراً) بين شفتيه غالباً ذلك السيف، الذي ينقض به على مصير الزوجة ومعها من أنجبت من أطفال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :553  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 122 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.