شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أول رحلة بالطائرة
ولم تكن إلا إحدى طائرات الخطوط الجوية العربية السعودية، في بداية مرحلة تأسيسها. ولا تسعفني الذاكرة اليوم، عن المهمة الرسمية التي انتدبت للقيام بها إما في القيصومة أو في عرعر، وكان من أعضاء اللجنة المنتدبة مثلي لهذه المهمة اللواء علي جميل رحمه الله... وفي مطار جدة القديم أو (الأقدم)، اجتمعنا في انتظار تجهيز إحدى الطائرتين - ولا ثالث لهما إلاّ الطائرة الملكية - وكلّها من نوع (داكوتا) ذات المحرّكين المروحيين... وطال انتظارنا قليلاً، واكتشفنا فيما بعد أن السبب هو أن هناك موعداً محدداً للإقلاع لم نكن ندري عنه شيئاً، ولا نعرف مبرراً للالتزام به...
وحان موعد الإقلاع، بعد أن أسلمنا حقائبنا ومتعلقاتنا لمن قام بشحنها في الطائرة... وفي الطائرة أخذنا مقاعدنا (على هوانا) دون قيد، وإن كنت مع اللواء علي جميل، قد اخترنا المقاعد الأمامية القريبة أو المواجهة لباب غرفة القيادة.
وكان الطيار شاب أميركي اسمه (جوزيف جرانت)... ومساعده أمريكي أيضاً أذكر أن اسمه (زِتْ لوكارت)... وقد انتهزتُها فرصة للتباهي - أمام اللجنة - بأني أستطيع التحدث باللغة الإنجليزية، التي كان الذين يعرفونها في تلك الأيام يعدون من المرموقين أو حتى المحسودين. وبفضل اللغة، أتيح لي أن أدخل غرفة القيادة، وأن أرى لأول مرة لوحة الأجهزة المغطّاة بما لا يعد أو يحصى من الأزرّة التي كان بعضها يضيء لوناً أحمر أو أخضر، هي التي يعتمد عليها قائد الطائرة في عمله. ثم عدت إلى مقعدي بعد أن أخذت الطائرة تنطلق في المدرّج للإقلاع.
لفت نظري اللواء علي جميل، وهو في بزّته الرسمية، أنه كان قلقاً، يتمتم وتتحرك شفتاه بتلاوة وأدعية وصلوات... وأحببت أن أتحدث إليه لطمأنته وتهدِئة ما يساوره من القلق... ولكنه التزم التلاوةَ الصامتة، ولم يُعْن قط بالالتفات إليّ.
ولا أذكر الآن كم استغرقت الرحلة إلى محطة الوصول... ولكن فرحتي بالطيران شغلتني عن حساب الزمن... وعبر نافذة بجانبي، كنت أتأمّل الأرض والجبال، التي نمر عليها مرّ السحاب... وبهبوطنا في المطار، أخذنا نهنىء بعضنا بالسلامة... وهو ما لا نزال نفعله حتى اليوم... وقد ازداد إحساسنا بالفرحة هذه الأيام لأننا قد تعلمنا أن حركة الهبوط أو لحظات الهبوط، هي أشد اللحظات حرجاً وازدحاماً بالكثير من الاحتمالات.
وكان علينا أن نعود من رحلتنا في نفس اليوم، بعد أن نؤدي المهمة التي انتدبنا لها... ويبدو أن الموضوع كله لم يكن يزيد على استجواب أو أخذ معلومات من دائرة معيّنة عن موضوع معيّن... وقد أصرّوا علينا أن نتناول طعام الغداء، فرحّبنا بالدعوة، وعند الساعة الثانية والنصف - بعد الظهر - تقريباً أهاب بنا قائد الطائرة أن نسرع بالركوب ليقلع، ولكن ليس إلى جدة، وإنما إلى الظهران، ثم منها إلى الرياض وبعدها جدة. حاول اللواء علي جميل أن يغير مسار الرحلة إذ لا علاقة لنا بالظهران، ولكن (جوزيف جرانت) أفهمني أننا لا نقوم برحلة خاصة، بل هي رحلة مُجَدْولة، وفي الظهران ركاب ينتظرونه للإقلاع بهم إلى الرياض وجدة... فلم يكن لنا من سبيل إلاّ الإذعان...
وحلّقت بنا الطائرة، ثم انطلقت في طريقها... ولكن بعد فترة قصيرة، ظهر مساعد الطيار (زيت لوكارت)، وفي عينيه شيء أقرب إلى الارتباك والاهتمام... وأمرنا أن نربط أحزمة المقاعد... لم ندر شيئاً عن السبب... ولكن حين ألقيت نظرة على الفضاء عبر النافذة، رأيت عن بعد ما يشبه الغيوم ولكنها بلون داكن أقرب إلى الاحمرار... قلت لنفسي، يستطيع الطيار أن يرتفع، فوق السحب، وأن يطير في أمان... ولكن قبل أن أمسح فضاء الطائرة بنظري، وفي المقعد المجاور اللواء علي جميل، رأيت أن مراوح أحد المحركين لا تدور... وأن الطائرة مائلة إلى اليمين... ولا أدري كيف ولماذا زحمتني عاصفة من الضحك... لفتت نظر اللواء، فسألني قائلاً (إيش بها الطائرة مايلة كده؟؟) فأشرت إلى الجهة التي يرى منها المروحة الواقفة... وقلت (أحد المحركين متوقّف) وألقيت نظرة على بقية الركاب الذين انتبهوا بدورهم، فاصفرت الوجوه،وظهرت على الجميع تعابير الرعب والرهبة... والمشكلة التي لم أجد لها تفسيراً حتى اليوم، هي تلك العاصفة من الضحك التي استولت عليّ... بينما اللواء وبقية الركاب تهتز شفاههم بالدعوات والابتهالات... لم يُطِقْ اللواء علي جميل تصرفي، فقال (إنك لا تقرأ... ولا تبتهل... بل تضحك... أمثالك إلى جهنم وبئس المصير...)... فازداد ضحكي... ولكن لا أخفي أنني كنت أنا أيضاً أعاني حالة من الرعب، خصوصاً بعد أن وجدت أن الطائرة تنطلق في هذا الذي لم يكن غيوماً بل عاصفة غبار... وعندما رأيت (زيت لوكارت) يخرج من غرفة القيادة منزعجاً، سألته عن المشكلة... ففهمت منه أن الرؤية مستحيلة... ولذلك فإننا سنغيّر خط سيرنا إلى البحرين... وحين سألته عن المحرك الواقف، قال ما معناه لا أهمية لذلك... المهم هو انعدام مجال الرؤية في الظهران.
وكان... واتجهنا إلى البحرين، حيث كانت السماء صافية، والبحر بزرقته الجميلة يرحّب بالهبوط - ليس فيه طبعاً - وإنما - بعد لحظات - في مطار البحرين.
وحمدنا الله على السلامة... وبعد إصلاح المحرك الذي استلزم أن نقضي ليلتنا في البحرين... وأن نراها، ونرى أجمل ما فيها في تلك الأيام وهو (بحيرة عذارى) وما يحيط بها من خضرة وأشجار... أقلعت بنا الطائرة، في طريق عودتنا إلى جدة... وما كدنا نجد أنفسنا في مطارها، حتى حمدنا الله كثيراً... والتفت إليّ اللواء علي جميل يسألني: (هل تسافر بالطائرة مرة أخرى... بعد كل الذي جرى؟؟؟).
وضحكت... ولم أجبه بشيء سوى أن يدعو الله لي بالخير... وهاأنذا لا أزال أركب الطائرة، وأذرع بها أقطار الأرض، ومعي النساء والأطفال من أسرتي... وفي نفسي أن الأعمار بيد الله... والحمد لله...
* * *
هل أحرزت الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية ثقافتها الخاصة في الوطن العربي؟
بداية يجب أن نقول ماذا يقصد بكلمة ثقافة؟ وقد لا أجازف إذا قلت إن الفكر في العالم بأجمعه، وليس في العالم العربي فقط لم يصل أو لم يتفق بعد على تحديد واضح لمعنى الثقافة هذا.
ثم بفرض أن ثقافة الانتفاضة، هي المعرفة أو المشاركة بالأعمال الفكرية ذات المردود الفاعل في الفكر العربي، فإن الذي نواجهه في البحر الزاخر الذي ينشر في الصحف والمجلات أو يذاع من إذاعات كل دولة عربية، لم يكن قط أكثر من كلمات مألوفة ومكرورة، منها مقالات ((الشجب والاستنكار والإدانة والتنديد))... كل هذا عرفناه ليس مع الانتفاضة فقط وإنما خلال أربعين سنة عشناها مع الجرح الفلسطيني الراعف.
إن ما ظهر في الصحف ومختلف وسائل الإعلام لا يختلف عن الكثير الذي قيل عن واقع الجحيم الذي عاشته ولا تزال تعيشه الأرض المحتلة منذ عشرين عاماً. والقرّاء يذكرون بطبيعة الحال الكثير جداً من قصائد الشعر، بأجناسه المختلفة، والأكثر من المقالات التي امتلأت بها الصحف والمجلات، وربما الكتب أيضاً، ولكن ما الفرق بين هذا كله وبين ما يتدفق من الكلام - والكلام فقط - منذ بدء الانتفاضة وحتى اليوم وقد أوشكت أن تطوي عاماً من الزمان.
ربما قيل أو يقال إن ((الفكر العربي)) لم ينفعل بالانتفاضة ولذلك لم يستطع أن يبلور ثقافة خاصة بها. وقد لا يكون هذا حقيقياً أو معقولاً، إذْ إن ((الفكر العربي)) منفعل ربما أشد الانفعال، ولكنه الانفعال المكبوت، أو الكامن في أعماق الصدور لا يستطيع أن يظهر ويعبر عن حريق الجراح الراعفة، التي فتحتها في هذا الفكر تلك الهزيمة الكبرى في عام 67، ثم كارثة إخراج مصر عن الصف العربي وهي القوة التي استطاعت في حرب أكتوبر أن تحقق للعرب انتصارهم الأول والأعظم على العدو، ولكن كان هذا الانتصار للأسف الشديد هو أيضاً الرافعة الرهيبة التي عزلت أو فصلت مصر عن الصف العربي، أي إنها أخرجت القوة التي لا تخشى إسرائيل سواها، لأنها القوة القادرة دائماً على أن تجعل إسرائيل لا تنام أبداً، حتى مع هذا السلام الذي تدرك أنه مرهون بيوم ليس بعيداً، وهو اليوم الذي تتزحزح فيه الولايات المتحدة الأمريكية عن انحيازها الغبي ودعمها الفاجر لإسرائيل.
ولا شك إطلاقاً في أن الانتفاضة هي أعظم الحروب التي واجهتها إسرائيل، وفي الصميم من كيانها، وهي الأعظم لأن سلاحها هو هذه الحجارة التي يقذفها الأولاد والصبايا والنساء والشيوخ... هذه الحجارة التي أعادت إلى الأذهان صورة الإنسان الذي كان في الكهوف والمغاور والأدغال، لا يملك من السلاح إلا هذه الحجارة... فكأنَّ أبطال الانتفاضة من الصبية والصبايا قد استطاعوا أن يسخروا من كل الأسلحة الفتاكة التي خرجت من ترسانات الولايات المتحدة الأمريكية، لتقول لهم إنها حجارة الأرض المغتصبة هي التي تحركت وهي التي استطاعت أن تحرك العالم بأسره حتى في أميركا وأوروبا، وأن تجعله يؤمن - ربما لأول مرة - بأن الحجارة التي نحتها الصبية والصبايا من الأرض المحتلة قادرة على أن تؤكد أن القضية الفلسطينية لا بد أن تصبح قضية العالم المتحضر كله... بلى... ليست قضية الفلسطينيين، وليست قضية العرب فقط... وإنما هي قضية العالم المتحضّر الذي يرى حرباً كتلك التي دوّنها التاريخ للإنسان في عصور ما قبل التاريخ ومع ذلك استطاعت أن تواجه اليوم أشد الأسلحة فتكاً وتدميراً، في مشارف القرن الواحد والعشرين من التاريخ.
إن الانتفاضة رغم زخمها وتأثيرها العالمي لم تستطع للأسف أن تفرز ثقافة فاعلة ترسّخ في الوعي العربي، قضية الأرض المحتلة باعتبارها (قضية عربية)... فإذا لم أكن متشائماً أو ذاهباً إلى أبعد مما ينبغي، فإني أعتقد أن إنسان الشارع العربي في الساحة العربية على امتدادها ليس عنده إحساس بقضيته مع العدو الإسرائيلي أو الأمريكي. وتستطيع هذه الجريدة - الشرق الأوسط - أن تبذل جهداً لاستقصاء ميداني في كل بلد عربي، لتواجه حقيقة رهيبة وهي أن كل ما عند إنسان هذا الشارع العربي هو أنه رأى على شاشة التلفزيون مشاهد الطغيان والقمع يواجه حرب الحجارة، يقوم بها الصبية والصبايا... ثم لا شيء بعد ذلك على الإطلاق.
لا أستطيع أن أزعم أني شاهدت الكثير من الأعمال السينمائية أو المسرحية في العالم العربي، ولكن أستطيع أن أزعم أن القليل جداً الذي شاهدته من هذه الأعمال كان تافهاً سطحياً وبعيداً، ليس عن الانتفاضة فقط، وإنما عن القضية كلها طوال أربعين عاماً.
فإذا كانت هناك ثقافة، فلا بد أن نسميها - يوم توحد - ثقافة الجراح العربية... ثقافة الهزائم... ثقافة التفكك وغياب الإيمان بحق العرب في أرضهم، وهذا يجعلنا نتطلع إلى الثقافة التي تجعل الإنسان العربي في الأرض العربية كلها قادراً على أن يرمي بحجارة أرضه أعداءَه - ليس في الأرض المحتلة - بل في الأرض العربية كلها على رحبها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :845  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 118 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.