شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الوعي الوحدوي
والتعبير طارىء يصعب عليّ شخصياً أن أحدد، كيف، ومن ابتكره، أو ربما أُلهِمه... وهو يثير عندي، وعند كل من يعايش واقع التفتّت والتمزّق العربي، سؤالاً عن هذا الوعي... هل كان قط غائباً عن ضمير الشعوب ووجدانها؟؟؟ وبالتالي، هل بلغ هذا الغياب، الحد الذي أصبح العربي في الأرض العربية كلها، يفتقر إلى أن يعيه أو يدركه.
يتعذّر، أن نزعم إمكان القطع بإجابة حاسمة، تقول بالغياب المزعوم، أو الحضور المفروض، ولكن الأخذ بظاهر الواقع (السياسي) وما يفرزه، في حياة هذه الشعوب من تراكمات تمتد وتتوسّع لتشمل أو لتدخل، حتى في حرية الحركة بين بلدان هذا العالم، بل في حرية تصدير واستيراد الكتب والمطبوعات، بل قل حتى في حركة التجارة... الأخذ بهذا الظاهر يحتم ترجيح مقولة غياب هذا الوعي، وبالتالي الحاجة إلى إيقاظه من سباته، إن لم يكن إلى خلقه من جديد.
ولكن هل كان الواقع السياسي قط، دليلاً صادقاً أو مقبولاً، على غياب هذا الوعي أو حضوره؟؟؟ تُرى مَنْ في أي مجتمع عربي، وطوال الفترة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم يجهلُ، أن الواقع السياسي كان ولا يزال واقع أنظمة الحكم، التي استطاعت أن تفرض نفسها على الشعوب، وأن تفرض بالتالي موقف كل منها من الآخر، وفي الموقف المفروض دائماً وجهة نظر النظام بالنسبة للدولة الشقيقة... ووجهة النظر هذه خاضعة دائماً لمتطلّعات أو مفاهيم أو مشاعر رئيس هذا النظام، وفي الأغلب الأعم، تكون هذه المشاعر موثقة الارتباط، بالعلاقة المشهورة أو المستورة، بالشرق أو بالغرب، مما لا يعني في النهاية، أقل من أن العلاقة بين البلدين العربيين الشقيقين، أو بين عدد من البلدان العربية في المشرق أو المغرب، محكومة لمصالح تلك العلاقة الموثقة، بين النظام، وبين الشرق أو الغرب.
تلك، قضية مفروغ منها، أكاد أجزم بأنها أصبحت معلومة حتى عند عامة الناس، فضلاً عن المتعلّمين، أو المثقفين أو المتعاملين مع قضايا السياسة العربية القائمة... ليس بين هؤلاء، من يجهل، أن نظام الحكم في بلده، هو الذي يفرض عليه أسلوب التعامل مع البلد الشقيق، في السفر، وفي التجارة، وفي الإقامة، ناهيك بالعمل، أو التنقل بين مدن البلد الواحد الخ... ومن هنا، يصبح وصف (الشقيق - أو الشقيقة) بين بلدان الدول العربية، وصفاً فارغاً من المضمون (سياسياً)... لأن التعامل معه، لا يختلف عن التعامل مع (البلد الأجنبي)... والأجنبي هنا قد نتوهّم أنه يعني الأوروبي أو الأمريكي، أو غير العربي إطلاقاً، بينما الحقيقة الصارخة والمخجلة، أنه يعني في أنظمة الدول العربية، كل من يحمل جواز أو جنسية دولة أخرى. بل لعلي لا أسرف، إذا قلت، أن أسلوب التعامل مع العربي في بعض الدول غير العربية، بل وغير الإسلامية، أفضل كثيراً، من التعامل معه في بعض الدول العربية (الشقيقة).
فإذا تجاوزنا الواقع السياسي، في حياة شعوب الأمة العربية في مشرقها أو مغربها، وتوخّينا أن نلتمس مستوى الوعي الوحدوي - هذا التعبير الذي قلت إنه طارىء - فإن تجربتي شخصياً تؤكد أن هذا الوعي موجود، وراسخ، ويكاد يتعذّر أن يغيب عن وجدان هذه الشعوب لحظة واحدة. فلقد أتيح لي أن أزور - وقد أقمت فترة من الزمن - في كثير من بلدان العالم العربي وكان ما يدهشني، أن لا أشعر بتلك الغربة التي أشعر بها حين أكون في بلد غير عربي، وليس ذلك فقط في الفندق أو المطعم أو الملهى، وكلّها مرابع تُفترض فيها المجاملةُ وحرارة الترحيب ونظافة الخدمة، وإنما في كل مكان يحدث أن أتواجد فيه زائراً أو متسوّقاً، أو مراجعاً لشأن من الشؤون... واللغة العربية الواحدة أو هي المشتركة بيني وبين الناس في هذه البلدان، هي المفتاح السحري، الذي يصل بيني وبينهم، ويفتح لي السبل الممهودة إلى وجدانهم، فلا تنقضي الدقائق، في حوار عابر، حتى نجد أنفسنا - أنا والآخر - قد نسينا أن كلا منّا من بلد تفصله عن بلد الآخر مئات أو ألوف الأميال. فإذا ارتفع صوت المؤذّن لصلاة الظهر أو العصر مثلاً، فإن ذلك إيذان مباشر، بأن أقوى عامل من عوامل الوحدة، قد احتضننا معاً، فلست غريباً عن (الآخر)، وليس هو غريباً عني... تلاحم يكاد يشعر كلا منا بأنّه على أرض واحدة لبلد واحد.
وليس هذا المستوى من الوعي الوحدوي، مقتصراً على المدن والحواضر، وإنما هو كامن في الريف، وفي القرى الصغيرة، التي لا يربطها بالعالم إلاّ الراديو، ويدهشك، أن أولئك القرويين البسطاء، يعيشون الإحساس بقضايا العالم العربي، معايشة عفوية، فهم يألمون للأحداث التي تقع في هذا البلد أو ذاك، وهم يفرحون ويسعدون، للأخبار السارّة - وما أندرها - عن أزمة تجاوزها أو انتصر عليها بلد شقيق... مما لا يعني أقل من أن الوعي الوحدوي كامن في وجدانهم، لم تستطع أن تزلزله كل تلك النظم والقوانين التي فرضها نظام الحكم.
فإذا قيل، في مجال التطلع إلى وعي وحدوي، أو إلى (وحدة) بين شعوب الأمة العربية إن المسؤولية تقع على أنظمة الحكم، فإن ذلك لا يعني أن تضطلع هذه الأنظمة بعمليات توعية وإقناع بمطلب هذه الوحدة بين جماهير الشعب في كل بلد، وإنما الذي يجب أن يعنيه، أن تُراجع هذه الأنظمة واقع علاقاتها ببعضها البعض، وأن تفتح قنوات هي التي تسدّها للتواصل بين الشعوب.
ولا أدري كيف يمكن أن تقتنع أنظمة الحكم العربي، بهذا المطلب، الذي تتطلع إليه جماهير الأمة العربية وتحلم به... وحين أقف من القضية موقف الحائر الذي لا يجد السبيل، وهو يرى ارتفاع السدود بين كل بلد والآخر، أذكر تلك الأمسية التي أتيح لي ومعي مجموعة كبيرة من مثقفي ومفكري العالم العربي، أن نحظى فيها بشرف الاجتماع، بصاحب السمو الملكي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد، في قصره العامر في الرياض، في ندوة فكرية كان سموه يرئسها، ويطرح علينا مواضيع الحوار فيها. وكانت فكرة الوحدة العربية من أهم ما طرحه سموّه في تلك الندوة التي لا تنسى... وكان آخر ما اختتم به سموّه تلك الندوة قوله: - (تعميق الوعي الوحدوي مسؤولية المثقفين...) وكانت تلك الجماعة من مثقفي ومفكري العالم العربي، حين تتداول كلمة سموّه، تنتهي، إلى أن عملية التوعية التي يرى سموه أن يضطلعوا بها، أن تمارسَ وتتجه أو تصب، في الواقع السياسي، الذي كان دائماً، ولا يزال هو المسؤول عن التمزّق والتفتّت من جهة، وعن (تغريب وتغييب) الوعي الوحدوي سياسياً، وليس واقعاً معاشاً وراسخاً في وجدان الشعوب.
أمّا كيف، يستطيع المثقفون ورجال الفكر، أن يمارسوا عملية التوعية هذه بالنسبة للواقع السياسي، أو مع أنظمة الحكم، فسؤالي يظل مطروحاً إذا عرف المثقفون الإجابة عنه، فإن الواقع السياسي، يعرف من جانبه، كيف يغيِّبه، كما يغيب ويغرّب الوعي الوحدوي ومعه أسباب التمزّق التي جعلت من عالمنا العربي، في المجتمع الدولي نموذجاً فريداً للعجز والخيبة والكساح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :611  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 117 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج