شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سمك.. لبن.. تمرهندي
وهذا عنوان أو اسم لفيلم سينمائي مصري، لم أشهده، وإن كنت قد سمعت السخط عليه والسخرية أيضاً - وليس من موضوعه ومحتواه فقط- بل من الذي عُني بمشاهدته.. فقد كان يضحك ساخراً من نفسه، ويتساءل، كيف طاوعه عقله أو ذهنه ووقته ليجلس لمشاهدة خلط ليس أعجب منه.. مما يؤكد أن التسمية لم تذهب بعيداً عن موضوع الفيلم فعلاً.
وأنا اليوم أجد نفسي مغرى، باستعارة هذا العنوان الطريف، لأني شبه محاصر بجملةٍ من مواضيع، قد لا يجد القارئ جامعاً أو رابطاً بينها، ولكني لا أجد بداً من معالجتها بالكتابة وباختصار، قد يكون مفيداً.. وقد يخلو من الفائدة تماماً، كما هو واقع هذه الخلطة العجيبة بين (السمك.. واللبن.. والتمرهندي) في الفيلم إياه..
وقد خطر لي أن أعدل عن استعارة هذا العنوان، وأن أسمّي أو أجعل عنوان هذا المقال (خُلّيطى)، بضم الخاء وفتح اللام المشدّدة، ولكني توجَّست أن تُفهم الكلمة فهماً يسوِّغه بعض اللغويين، وليس ذلك مما يحسن أن أتورّط فيه، مع القراء من جهة، ومع الذين أعالج الكتابة عنهم من جهة أخرى.
ومن هنا فلا بأس بأن يحمل هذا المقال عنوان (السمك.. لبن.. تمر هندي) وخصوصاً في يوم من أيام شهر الصوم المبارك، الذي تحفل فيه مائدة الإفطار بألوان من الأطعمة والأشربة منها السمك - في جدة خاصة - ومن اللبن الرايب، ولا أدري في الواقع ما هو ((التمر هندي)).. وكيف يعالج ليؤكل أو يشرب.. فإذا كان هو ما نسميه في الحجاز (حُمَر) بضم الحاء وفتح الميم، فإنه مما يمكن أن يتواجد في مائدة الإفطار أيضاًً، لأنّهم يزعمون أن من خواصه (تبريد الجوف) وتهدئة الأعصاب.. إلى جانب أثره الطيب على مشاكل (القولون).
وأول من ظللت أتوخى الفرصة السانحة للكتابة عنه، رسّام الكاريكاتير في هذه الجريدة.. الذي يبدو أنه حلَّ محل الأستاذ ((الخنيفر))، وهو الأستاذ (الوهيبي) الذي كثير ما استوقفني، بإبداعه.. ومنه تلك اللوحة، التي نرى فيها فتاة تتجه إلى (حديقة العائلة).. وقد اصطف في طريقها ثلاثة، أخرجهم الرسام من صفوف الفتيان المراهقين بما أظهر على ملامحهم ليقول لنا إنهم رجال، وربما ((آباء)).. وكان أحدهم يتابع الفتاة بكلمة (عُمْري..).. ويلاحقه الآخر قائلاً (أروح ملح) ويقصد أنه يذوب إعجاباً وولهاً، أما الثالث فيقول (اتنثر) فهو قد ذاب فعلاً، أو انسحق، ولذلك فهو (يتنثر)..
ولقد أراد الفنّان أن ينتقد هذا التصرف من هؤلاء الرجال (الآباء) ولكنه في نفس الوقت قدّم لنا السبب أو المسوّغ الذي جعلهم يتصرفون بهذا الأسلوب الرخيص.. إنها الفتاة المتجهة إلى (حديقة العائلة..) إذْ أظهر الفنان ما يغري من مفاتنها، وإن كانت تسدل على رأسها ووجهها حجاباً شفّافاً، لم يحجب جمال قسماتها، كما لم يحجب صدرها الناهد، وأناملها الرقيقة وهي تمسك بالحقيبة الصغيرة. وكان تعليقها أو ردُّها على سخف الكلمات التي سمعتها من هؤلاء الرجال: (وين البلدية عنكم؟).. تريد أنهم حثالة أو نفاية من النفايات التي يجمعها عمال البلدية في عربات (القمامة).
كانت اللوحة مقالاً، قال فيه الوهيبي الكثير الذي يغني عن صفحات من النقد. وذلك ما أرجو أن تفسح له المجال هذه الجريدة، وجميع الجرائد التي تزخرف صفحاتها أحياناً بكاريكاتير، أصفه بالبَكَم، لأنه يعجز أن يقول شيئاً ذا بال.. وإذا كان لي أن أضيف، فهو رجاء أتقدم به إلى ((إدارة)) جريدة الرياض، بأن تخفّف من زحمة الإعلانات في الصفحة الأخيرة، وتلك ظاهرة قد يبررها منطق أن الإعلان هو عماد الصحافة وأهم مصادر تمويلها.. ولكن ماذا لو أن تتُرك الصفحة للإعلانات بكاملها، وأن تنقل موادها التحريرية، ومنها (الكاريكاتير) إلى الصفحة قبل الأخيرة؟
* * *
من الذي قتل المجنون، هو السؤال الذي طرحه الكاتب الدكتور فهد العرابي الحارثي في مجلة اليمامة في واحد من مقالاته الأسبوعية بعنوان (أحوال).. لقد قرأت المقال أكثر من مرة.. وفي كل مرة كان يزحمني البكاء، ليس فقط حزناً على الشاعر الذي مات (وعلى شفته نصف بيت من الشعر، بعد أن مات وهو يلهث خلف القصيدة) بل انسحاقاً دامياً مع هذه الرَّحى التي ما فتئت تدور فتسحق عطاء الفكر لتذروه رياح التجاهل واللامبالاة، لأن ما يستحق الاهتمام لا يزال هناك.. في حلبة التسابق اللاهث للّحاق بما فوق السحاب من المطامع والشهوات.
يقول الحارثي المبدع في هذا المقال (يوم أن مات الحجي سارت الجنازة في صمت قاتل.. لم يعرف بها أحدٌ من المثقفين.. وما سمع عن موعدها أحد من الصحفيين) ثم يقول: (هذا الحجي مجنون حتى في موته.. لقد استطاع أن يخاتل المثقفين فيخرج إلى عالمه الأبدي دون ((أن يأخذهم معه)) أو يودعهم أو يخبرهم على الأقل بقراره).. (هذ الحجي غريب حتى في حياته ((الأخرى)) فقد استطاع أن يفوّت على الصحفيين الفضوليين حفلة طويلة من الطبل والزمر، مما اعتاد عليه هؤلاء في كل حادث أو مناسبة) ثم يقول عن هؤلاء الصحفيين: (إذ ما إن علموا بوفاته ((بعد أسبوع))، حتى هبّوا كالمسعورين إلى أوراقهم وإلى ذاكرتهم ((المثقوبة)) يكتبون ولكن بلا انفعال.. ويبكون ولكن بلا دموع.. ويلطمون، ولكن بلا خدود أو حتى وجوه ويولولون ولكن بلا حناجر أو أصوات).
قلت يوم قرأت هذا الإبداع، أن الدكتور فهد العرابي الحارثي كتب بدم قلبه وكان ما كتبه مقالَ العام.. بل كان المقال الذي لو كنت مسؤولاً عن مقررات النصوص في مناهج اللغة العربية، لفرضته نصاً، لا يقرأ فقط.. بل يُدْرس.. إذا وجد بين مدرّسي النصوص من يستطيع أو يعرف كيف يدرس الإبداع.
* * *
والدكتورة ثريّا العريض ابنة الشاعر العربي الكبير الأستاذ إبراهيم العريض كثيراً ما تشدني إلى قراءة ما تكتب، في هذه الجريدة، وربما في غيرها.. ولكني وجدت نفسي أطيل الوقوف عند الحوار الذي دار بينها، وبين السيدة (دلال شوقي) في جريدة عكاظ، بعنوان (الأمسيات الثقافية بين الحضور والغياب).. وما استوقفني فيما أفضت به الدكتورة العرّيض قولها: (موضوع الأمسية.. هناك نواحٍ من الأدب أو الاهتمامات العلمية تجد ((شعبية)) أكثر لدى جماهير متخصصة.. الشعر مثلاً محبّب جداً.. وكلّما كان واضح اللغة وعبَّر عن هموم الذات العامة ((وليس الخاصة)) كلما تفاعل معه الناس وأحبوه.
ثم تقول - وهو ما استوقفني-: (لذلك نجد بعض الشعر الشعبي قريباً جداً من الجمهور المتلقي على نطاق واسع حيث يشمل الجمهور، حتى أولئك الذين لم يتعلموا في المدارس ممن تعوقهم تعابير اللغة الفصحى.. والشعر الحديث يجد الكثيرون صعوبة في التعامل معه خاصة إذا أوغل في الغموض).
وأجد نفسي مع رأيها بالنسبة للشعر الشعبي، فقد أحسنت التعليل في إقبال الجماهير عليه، وإذْ أكتب هذا المقال اليوم لا أنسى الأمسية الشعرية التي حضرتُها وكان فارسها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل آل سعود. في الليلة التالية للحفل الذي أقامه صاحب السمو الملكي، الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز، أمير المنطقة الشرقية لجائزة التفوق العلمي في الدمام.. كانت الأمسية قراءة للشعر الشعبي الذي أبدعته مشاعر سمو الأمير خالد.. ولكن الظاهرة التي أقنعتني بأن هذا الشعر هو الذي يتفاعل معه الجمهور، هي أن القاعة التي كانت مزدحمة بمئات من الحضور ظلّت تهتز بصيحات وتصفيق الذين كانوا يستمعون إلى الأمير الشاعر، بكل مشاعرهم. وأذكر أني بعد الأمسية التي أحياها الأمير، ليس بالشعر فقط، وإنما بإلقائه القوي، ولفظ المفردات التي تتيح أن يفهمها من يجهل اللهجة الشعبية في هذا الشعر.. أذكر أني أخذت أتحدث إلى الدكتور عبد الله الغذامي، فوجدتُه يتفق معي على أن الكثير من الشعر الذي سمعناه من الأمير فيه روائع من المعاني قد يتعذّر أن يبدعها الشعر العربي الفصيح. والواقع أن هذا يتفق مع ما نسمعه من الشعر الذي تُغنّيه فيروز، أو كانت تغنّيه أم كلثوم، بل والكثير من الأغاني التي يكتبها الشعراء باللغة الشعبية.. وقد درجنا على أن نسمّي ذلك (زجلاً).. وهو كثير، وفيه الكثير جداً من المعاني التي ربما تعجز عن أدائها وصياغتها الفصحى.
* * *
وبعد..
فما أكثر ما ينشر في الصحف والمجلات عندنا من (القصص القصيرة).. بل لو عُني أحدٌ بإحصاء عدد ما ينشر من هذه القصص، لوجد أنها عندنا أكثر من جميع ما ينشر في صحف مصر والكويت، ولا أدري شيئاً عن الصحف اليومية في لبنان.
وأكذب لو زعمتُ أني أقرأ هذه القصص، وليس ذلك استهانة بها أو استعلاء عليها وعلى كتّابها، وإنما لأنها أكثر مما يستطيع مثلي أن يفرغ لقراءته.
ولا أدري كيف استوقفني عنوان قصة قصيرة في ملحق (الأربعاء) من جريدة المدينة المنورة.. كان العنوان: (الصقر.. والحبارى) بقلم الدكتورة أمل شطا.. والأرجح أن ما أغراني بقراءة القصة هو الكاتبة التي سبق لي أن قدّمت روايتها الأولى.. لم أكن أجهل أو أنسى أنها تكتب القصة القصيرة كما تكتب الرواية، وأنها إلى جانب ذلك لها اهتماماتها بأدب الأطفال، وقد لا يجانبني الصواب إذا قلت إن لها مجموعة من الأعمال التي تدخل في باب (أدب الأطفال).
وقرأت (الصقر والحبارى).. وكانت دهشتي بالغة أن أجد الكاتبة قد اختارت لأبطال قصتها بيئة بعيدةً تماماً عن بيئتها.. اختارت بيت الشعر، والبادية، والفتاة التي يرغمها أبوها على الزواج من (الشيخ سالم) وهو (الصقر).. وقد أبدعت الكاتبة، وهي تختتم القصة بقولها: (خيّل إلي أن أظافره - وتعني الشيخ سالم - قد استطالت، وتقوست، وانتفخ فمه.. وأخذ يبرز إلى الأمام رويداً رويداً، حتى تحول إلى منقار كبيرٍ معقوف مدبّب.. وأخذ الريش الكثيف يغطي صدره وكتفيه.. وتبدلت سحنته فأصبح مرعباً إلى درجة كبيرة.. وتقدم مني خطوات ومد يده إلى ناحيتي فإذا مخالبه تقطر دماً.
وصرخت من أعماقي.. ودارت الدنيا من حولي.. وسقطتُ على الأرض مغشياً عليّ).
أما الحبارى.. فهي فتاة البادية التي أرغمها أبوها على الزواج من ذلك ((الصقر)) لقاء عددٍ كبير من النياق.. ومبلغ كبير من المال.
والصورة ليست بعيدة عن الواقع.. إذ كثيراً ما سمعنا عن آباء يرغمون بناتهم على الزواج، من كهول أو شيوخ ربما في عمر الجَد. طمعاً في المال.. ولا أدري كيف يمكن أن تتدخل الدولة، للتخفيف من حالة الإرغام التي يملكها الأب.. مع أننا نعلم أن للفتاة الحق شرعاً في أن تمتنع عن زواج مَنْ لا ترضى به وإن رضي الوليُّ.
* * *
ثم هل يعلم القارئ بعد هذه الرحلة مع ((السمك واللبن والتمرهندي))، أني سأوالي الكتابة بهذا العنوان، إذا وجدت الكثير من السمك واللبن والتمرهندي في هذه الأيام من شهر الصوم المبارك!
* * *
الأستاذ عابد خزندار ربّما يكون من القلة من المثقفين الذين يحسنون الاستفادة من اللغات غير العربية التي يتقنونها بمستوى يتجاوز حدود الاختصاص الأكاديمي الذي ألاحظ - أحياناً - أنّه ينهي علاقته بما تقدمه هذه اللغات من عطاء ثقافي، أعتقد أن محاولة المشاركة فيه، بما يتاح، أو ما يتيحه التخصص، مطلب لا نستغني عنه في المملكة على التحديد لأن مسيرتنا الثقافية، لا تزال في تقديري - وأرجو أن لا أكون متجنياً - تفتقر إلى الإثراء الذي يتيحه العلم باللغات غير العربية، أو حتى بلغة واحدة.. فضلاً عن عدد من هذه اللغات التي يجيدها الأستاذ عابد خزندار، ويحرص على أن يكشف لقرائه ما يكوِّن حصيلته الثقافية الواسعة.
وأعترف أني توقفت منذ أكثر من شهور عن قراءة ما يكتبه الأستاذ عابد، ومعه الدكتور عبد الله الغذامي، والأستاذ السريحي، والأستاذ (أبو هنا) أحمد الشيباني عن البُنيوية، والألْسنية و (النصوصية) لأنّي أحسست بنوع من التخمة التي يسببها تناول نوع واحد من الغذاء، أو أنواع تتكرر في جميع الوجبات.. والقراء معي فيما أعتقد، في أن فرسان هذه البنيوية وأخواتها قد أسرفوا على أنفسهم، وعلينا، بنوع من (الكدِّ) و (الكدْح)، الذي أخشى أن يكون الكثير منه قد ذهب مع تلك الريح الصرصر التي لا تزال تهب عليهم، من فريق يجيد النفخ في أبواق التحذير والإنذار من الأخطار المنظورة وغير المنظورة، التي تخصصوا في اكتشافها والإعلان عنها فيما يكتبه البنيويون، أو - بصورة عامة - ((الحداثيون)).
ولكن الأستاذ عابد خزندار استوقفني في مقاله الذي نشرته هذه الجريدة يوم الأحد 12/6/1408، بعنوان: (قراءة جديدة - لماكبث).. ولا أستغرب طبعاً أن يقرأ الأستاذ عابد مسرح أو مسرحيات شكسبير، قراءة قديمة أو جديدة، فهو كمثقّف متميز، وكاتب يجيد السباحة في أكثر من بحر أو نهر من بحار الفكر، ولكن الذي استوقفني هو ما تختزنه صوامع الفكر والثقافة في دماغي أو هو ذهني، عن مسرحية ماكبث بالذات، إذ عادت بي إلى عهد بعيد بعيد، كنت أتوهّم فيه أن من شروط أو من وسائل إتقان اللغة الإنجليزية أن يقرأ دارسها شكسبير، وليس مختصرات لمسرحياته، وإنما النص الأصلي الذي كتبه شكسبير نفسه.. وأخذت أغشى مكتبة الأنجلو، في القاهرة بحثاً عن هذه المسرحيات، واكتشفت أن المسألة لا تحتاج إلى بحث، فليس أكثر من مسرحيات شكسبير، وروايات تشارلز ديكنز في أي مكتبة من المكتبات التي تبيع كتب اللغات غير العربية، وخاصة منها الإنجليزية، والفرنسية ثم الألمانية.
وقد ينطبق عليّ في تلك الفترة وصف (غشيم ومتعافي)، إذ ما كدتُ ألقي نظرة على ما في الأرفف من أعمال شكسبير، حتى استوقفتني مسرحية (ماكبث) هذه التي يقدم عنها الأستاذ عابد خزندار ((قراءة جديدة)).. وكان البائع في مكتبة الأنجلو شاباً مثقفاً أو خبيراً بما يروج ويتداوله الطلاب في مثل سني، فقال: (عندنا لهذه المسرحية طبعة مختصرة وبلغة سهلة.. لأن لغة شكسبير، في النص الأصلي صعبة.. تحتاج إلى أستاذ لغة إنجليزية).. وركبتُ موجةَ الغرور، لأقول: (أعرف.. أعرف.. ولكني أريد أن أقرأ المسرحية بلغة شكسبير الأصلية..) قلت ذلك وفي ذهني أن السبيل إلى إتقان اللغة الإنجليزية هي قراءة شكسبيرية بلغته نفسها.
ولا حاجة بي إلى ذكر تفاصيل الورطة التي وجدت نفسي فيها بعد أن أخذت أحاول أن أقرأ (ماكبث).. كنت أعتمد على قاموس (إلياس أنطون إلياس) في ترجمة أو معرفة معاني المفردات، فإذا بي أجد أن كثيراً من المفردات، في النص، لا وجود لها في قاموس إلياس أنطون إلياس، ولم أكن قد تعلّمت الاعتماد على قاموس يعطي معنى المفردة باللغة الإنجليزية ولذلك فقد أخذت أغشى المكتبات في القاهرة بحثاً عن قاموس أفضل.. ووجدته، وهو قاموس النهضة، للأستاذ إسماعيل مظهر رحمه الله.. وهو من جزءين أو مجلّدين ضخمين.. ولا شك أني وجدت فيه الكثير مما لم أجده في قاموس إلياس أنطون إلياس.. ولكن ما أكثر ما عانيت وأُرهقت، وكدت أخرج من جلدي، لأفهم ما يقوله شكسبير في (نصف صفحة) من صفحات مسرحيته، ومن طبعي العناد والإصرار (الذي أستسخفه الآن) على أن لا أتراجع عن مطلبي في قراءة أي كتاب يقال لي إنه صعب، أو (متعب)، وليس في الإنجليزية فقط، بل وفي اللغة العربية أيضاً.
ولكن.. مع ماكبث، هذه، وجدت نفسي بعد أقل من أسبوعين ألقي بالنسخة جانباً بل أكاد أقذفها بعيداً إلى الشارع.. مستسلماً لمقولة إني أحتاج إلى مدرّس لغة إنجليزية لأفهم (ماكبث) بلغة شكسبير.
وكان لا بد مع ذلك أن أقرأ لشكسبير مسرحياته، ولكن ليس بغرض إتقان اللغة الإنجليزية وإنما بغرض أن أكتشف هذا الكاتب، الذي ملأ الدنيا شهرة، ويكاد لا يوجد مثقف يحترم نفسه إلاّ وقد قرأ بعض - إن لم يكن كل - مسرحيات شكسبير، وهذا غير شعره أو ما يسمى (Sonnet). وبمرور الأيام أو هي السنين قرأت الكثير، ومن هذا الكثير (ماكبث) التي يقدم الأستاذ عابد خزندار قراءة جديدة لها.
والأستاذ عابد يفلسف مسرحية ماكبث بمفهوم ربما لم يسبقه إليه قارئ أو ناقد إذ يستبعد أن يكون الانتقام هو الدافع الحقيقي أو - كما قال - الحدث الرئيسي - وإنما هي صراع بين (ايروس - رمز الحب والتناسل والبقاء). و (ثاناسيوس - رمز الموت والتدمير) وهو يضيف إلى شخصية (إيروس) شخصية ((الأنثى)) التي يتمثل فيها الحب والتناسل وبقاء النوع. ومع أن الأستاذ عابد يفضل ألا يلخص المسرحية، لأنّ التلخيص كما قال (يسيء إلى النص) فإنه يمضي في التلخيص، وقد أثبت التلخيص أنه يسيء فعلاً إلى النص لأن القارئ إذا كان خالي الذهن من أحداث مسرحية (ماكبث)، فإنه لا يستطيع أن يرى أو يستوعب أحداثها خصوصاً وأن (ماكبث) بالذات من مسرحيات شكسبير التي أوسعها النقاد والدارسون بحثاً أو بحوثاً، ملأت وتملأ مجلدات، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن جميع الأجيال، في جميع جامعات أو كليات الآداب في العالم، كانت ولا تزال تعكف على دراسة ماكبث، والخروج منها (بقراءة جديدة) أو بمفهوم جديد أو بأضواء جديدة على الشخصيات، والأحداث، وتلك لعمري هي عبقرية شكسبير الذي تنطبق عليه مقولة إنه (لا يموت)..
ومع أني استقبلت مقال الأستاذ عابد بلهفة من يتوقّع أن يكون قد أعطى نفسه فترة التقاط أنفاس من متابعة بحث (البنيوية والنصوصية واللغة أو الألسنية والنصوصية) فقد أخذ رأسي يصاب بالدوار، وأنا أجده يستدرجني إلى دوامة (اللغة) و (اللاَّلغة) ومنها إلى (الدال) و (المدلول).. فالدال مثلاً هو الليدي ماكبث التي كانت المحرّض على قتل (الملك الضيف)، فتخلّت بذلك عن (مدلولها) أو عن أنثويتها. ثم يزحف الأستاذ عابد بنا إلى مرحلة الصورة البشعة لفكرة (الغاية تبرر الوسيلة)، وبلباقته المألوفة يقول لنا ما ننكره عليه، ولكنّا لا نحتاج إلى المزيد منه وهو أنه قارئ واسع الاطلاع، وليس في لغة واحدة بل في عدد من اللغات، التي أعرف أنه يجيد اثنتين منها هما الإنجليزية والفرنسية وسمعت عنه أو منه أنه يدرس الإيطالية والإسبانية، ليقرأ أدب أمريكا اللاتينية، والأدب الإيطالي، بعد جيل (البرتو مورافيا).. فهو يشير إلى ثلاث روايات تتخذ من إفريقيا مسرحاً لها، ويبرق بفكرة عن الروايات الثلاث، ليقفز بنا مرة أخرى إلى ماكبث.. وإلى أنه هو الآخر (دال) فقد (مدلوله) ليقول - باختصار، إن ماكبث يفقد (مدلوله) وهو (رجولته) بإقدامه على الغدر بدونكن (الملك الضيف) في قصر ماكبث.. ولا أدري كيف يفقد أي رجل رجولته إذا قام بعمل غادر، مهما كان بشعاً، إلا إذا كانت صفات الرجولة عند الأستاذ عابد تستلزم سلوكيات الشهامة والنيل والشرف الخ.. وعند هذا، لا أجد حرجاً في أن أقول للأستاذ عابد إن هذه السلوكيات (يوتوبيا) قلّ، إن لم يكن قد انعدم تماماً وجودها، وبذلك أصبحت (يوتوبيا).
وماكبث، فيما يرى الأستاذ عابد قتل أو يقتل بلا هدف.. مع أن الهدف صارخ، وهو الوصول إلى سدة الحكم كملك، ويمكن أن يقال إنه هدف سافل منحط، لا يليق بالرجل بمواصفات الشهامة والشرف والنبل الخ.. ولكنه يظل هدفاً حققه بالقتل، ولم يكن أمام شكسبير بعد ذلك، إلا أن (يعاقب) الغدر، والخيانة، والأفعوانية في الليدي ماكبث، فينتهي بهم جميعاً إلى الموت، بأسبابه المتنوعة.
بقي في مقال الأستاذ عابد، الذي لا أجد أي حرج أو مبالغة في أن أقول إنه ممتع جداً، محاولاته الناجحة في ترجمة أكثر من نص من نصوص من مسرحية شكسبير، وأنا أصفها بأنها ناجحة، لأني رجعت بذاكرتي إلى تلك السنين البعيدة جداً، التي فشلت فيها في فهم مسرحية (ماكبث) رغم استعانتي بقاموس النهضة للأستاذ إسماعيل مظهر رحمه الله. فقد كنت أجد معاني المفردات، ويتراءى لي كأني قد فهمت شيئاً، فإذا حاولت أن أضع ما فهمت في نص عربي، أخجل من نفسي.. وأغلق الكتاب.. ومن هذا المنطلق، أتساءل ما الذي يمنع الأستاذ عابد خزندار، أن يقوم بترجمة بعض أعمال شكسبير، الخفيفة، وبعضٍ من شعره المعروف باسم (Sonnets).. إنه يضيف بذلك قيمة إلى هيكلية المسيرة الثقافية عندنا، ما يعطيها (التأكيد) بأن هذا البلد ظل يستبعد سنين طويلة عن مستوى الثقافة العالية المتطورة، لأن هيكل المسيرة كان خالياً من التعامل مع الأدب العالمي، وفي القمة منه شكسبير.
وأجد نفسي أصفق إعجاباً، في النهاية بهذه الانعطافة البارعة من (قراءة جديدة لمسرحية (ماكبث) لشكسبير) إلى ما سمّاه (ماكبث الجديد)، وهو إسرائيل.. التي تقتل لمجرد القتل.. فهي مثل (ماكبث) تقتل لمجرد القتل.. مثل (ماكبث) تحاول أن تقتل مستقبل الفلسطينيين.. ولذلك فإن ضحاياها هم النساء والأطفال.. أما استشهاده في نهاية هذه الانعطافة بكلمات الشاعر محمود درويش، فإن واقع الانتفاضة ومشاهد الأطفال وهم يواجهون الرصاص بالحجارة.. بالحجارة فقط.. أعظم وأكثر جلالاً، وأبلغ شاعريةً من كل كلام قيل أو يقال، عن حق الإنسان الفلسطيني في أرضه.. في الحجارة يتسلح بها من هذه الأرض.
ومن هذه الانعطافة الصغيرة، التي أبرقت بما يخالج ضمير الأستاذ عابد من مشاعر نحو هذه الانتفاضة الأولى والأعظم من نوعها، أتمنّى على أدبائنا الذين غرقوا، وأغرقونا معهم في أبحاث (النقد المنهجي) وأبحاث (الحداثة) أن تكون لهم مواقف من قضايانا الكبرى، وليس أكبرها قضية فلسطين أو أفغانستان أو الحرب العراقية الإيرانية.. هناك ما هو أكبر كثيراً من جميع هذه القضايا، نعيشها، وقد تبلّد إحساسنا بوقْع سياطها على الفكر، وعلى مسيرة الحياة كلّها.. إننا - في العالم العربي - نواجه محاصيل من اليباب والخراب، قد لا يكون من المبالغة في شيء أن نقول إننا لا نجد القدرة على تحقيق نصر عن أي نوع، في فلسطين أو في أفغانستان أو في الحرب العراقية الإيرانية إلاّ إذا واجهنا هذه المجاهيل من الخراب..
إن الأطفال في فلسطين بحجارتهم، في أيديهم الصغيرة الناعمة، عبّروا عن (موقف) لا أدري إن كان يجانبني الصواب إذا قلت، إننا نفتقر إلى مثل موقفهم، من تلك المجاهيل التي لا أجد مسؤولاً غيرها عن حجم الجرائم التي ترتكب في الكيان العربي، فتعمل على اهترائه، وتحويله إلى هلام..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :796  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 19
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.