شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (9)
عقلت المفاجأة ألسنة النسوة لحظات، والشاب الذي فجّر الخبر الرهيب ظل واقفاً يلتزم الصمت هو أيضاً، ولكن يضع يده على فمه يحاول أن يحبس ضحكاً أثار دهشة ضحى جعلها تبدد حالة الصمت الذاهل المفجوع الذي أخرس الأخريات... وجدت نفسها تقول للشاب:
ـ يعني الكلام اللي قلته مش صحيح؟؟؟ بتضحك ليه؟؟؟
وتلاحقت أصوات العجوز، وأخت زوجها تقول:
ـ أيوه صحيح... بتضحك ليه؟؟؟
وقبل أن يجيب، انفجر بالضحك الصاخب وهو يقول:
ـ اضحك عليكم...
وقالت ضحى، وهو لا يزال يقهقه:
ـ يعني الكلام اللي قلته مش صحيح؟؟؟
ـ كلام إيه؟؟؟ أنا ما قلت شي...
وهنا انفجرت العجوز، وهي تنهض من مكانها لتقول:
ـ ما قلت شي؟؟؟ يعني ما في ضابط والعمدة والتفتيش؟؟؟ ما تهرج...
ـ العمدة والضابط، عند الباب... (ضحك متواصل)... بينتظروا...
ـ بينتظروا؟؟؟ ينتظروا إيه؟؟؟
وتدخّلت ضحى لتقول:
ـ طوّلوا بالكم شويّه... خلّونا نفهم... قل لي من فضلك... بينتظروا إيه؟؟؟
ـ بينتظروا الشنطة، واللحاف وسجادة الصلاة.
ـ شنطة؟؟؟ أي شنطة؟
ورفعت أخت زوجها صوتها صاخبة تقول:
ـ أيوه أي شنطة؟؟؟ وعشان إيه اللحاف وسجّادة الصلاة؟؟؟ ما تهرج يا طاهر...
ـ هوّه قال الشنطة... واللحاف، وسجّادة الصلاة وبس.
وقالت ضحى:
ـ ما قال أي شنطة؟؟؟ وعشان إيه اللحاف وسجّادة الصلاة؟؟؟
وقالت أخته:
ـ يمكن شنطة السفر اللي...
وتدخّلت العجوز، وهي لا تزال واقفة لتقول بهدوء:
ـ أيوه هيّه الشنطة اللي جابها معاه... شنطة السفر... واللحاف وسجادة الصلاة...ولم تكمل، إذ احتقن صوتها ورأت ضحى في عينيها الدموع، ثم رأتها تتهالك جالسة على الأرض ثم قالت:
ـ مسكين والله يا ولدي...
والتفتت إليها أخت زوجها، وفي وجهها وعينيها موجة رعب وقلق، لتقول:
ـ فهمت.. يعني حبسوه.. بس.. بس يعني..
وهنا تدخّل طاهر، وقد بدا عليه هو أيضاً أنّه خائف، وقال:
ـ حبسوه؟؟؟ اعطوني الشنطة واللحاف والسجادة... أنا أروح مع العمدة وأجيب لكم الخبر. ونهضت ضحى إلى حقيبة زوجها، وكانت لا تزال مفتوحة تتلامح فيها كتب ومجلة اللطائف المصورة. أغلقت الحقيبة بإحكام، ثم طوقتها بالحزامين من الجلد... والتفتت إلى طاهر:
ـ هادي الشنطة...
وأسرعت العجوز تقول:
ـ قومي يا رقية... أدّيله اللحاف النضيف الأصفر، ولا تنسي تعطيه مخدتين كمان... والسجّادة... هادي السجّادة اللي هنا.
حمل طاهر الشنطة والسجادة، ومشى وراء رقيّة التي تقدمته في مشية متخاذلة مرهقة... سمعت ضحى وقع خطواتهما على السلم الخشبي في طريقهما إلى الدور الأرضي... والتفتت العجوز إلى ضحى وهي تقول:
ـ بس إيش اللي حصل منه؟؟؟ إيش اللي يخلّيهم يحبسوه؟؟؟ يعني إنتي يا بنتي ما تعرفي إيش اللي حصل؟؟؟ وما قال لك هوّه قبل ما تسافروا... ما قال لك شي؟؟؟
ولم تكن ضحى أقلّ إحساساً بتعقيد الموقف من الآخرين... أحسّت لأول مرة، أنها تعيش أحداثاً ضخمة هانت بالنسبة لها فجيعتها في البيت الكبير وغرفة النوم، وقد انتهت الأحلام التي ظلّت تنتظرها إلى هذه الغرفة بجدرانها وسقفها من الخشب والصفيح... وإلى هذا الموقف المشحون بالتوتر والخوف من المجهول الذي لا تدري هي... ولا يدري الآخرون عنه أي شيء... ورددت بينها وبين نفسها كلمة (حبسوه)... وأحزنها فعلاً، أن يقع هذا في ظرف زواجها... أدركت أنه بدأ يحمل هم المشكلة التي تورط فيها بعد زواجه منها... فإذا سمّاها (وجه النحس) كما سمعته يردد أكثر من مرة، فلا يلام... إنها فعلاً (وجه النحس)... وها هو النحس يطبق على حياته، وحياتها معه، بل وحياة الأسرة كلّها... التفتت إلى العجوز التي استرخت في مكانها، وأسندت رأسها إلى المسند خلف ظهرها وقد أغمضت عينيها، وعلى خديها الشاحبين بقية الدموع التي ذرفتها... التزمت الصمت... وأبرق في ذهنها خاطر تمنّت لو تجد من يسمعها لتقول له إنها (وجه النحس) فعلاً... وإنها لا ترى ما يمنع أن تخرج من حياتهم... ليست مشكلة... إنها لا تزال في أول الطريق ولا يبدو أنها قد حملت منه... يستطيع أن يعيدها إلى القاهرة... والأمر لله... ولكن حتى لو أقنعته بهذا الذي يجول بذهنها، كيف؟؟؟ كيف تقنعه أو تفاتحه في الموضوع، وهو محبوس... واضح أنها هنا في بلد لا تعرف عنه أي شيء سوى أنه بلد الله... بلد الكعبة والحج... أحسّت أن العجوز تحاول النهوض في إعياء وتهالك بحيث بدا كأنها تعجز عن الحركة... خفّت إليها وهي تمددها وقالت:
ـ أي خدمة؟؟؟
ـ عشت يا بنتي... بس لو تقولي لهم، يجيبولي الدوا... هم عارفينه...
أسرعت ضحى تخرج من الغرفة إلى السلم الخشبي... استطاعت أن تلاحظ في ساحة السطح قبل أن تهبط كثيراً من نفايات الصفيح الصدىء، وألواحاً من الخشب، وعلى حبل الغسيل، فساتين وثياباً وملابس داخلية، ينسفها الهواء، ويكاد يلقي بها على الأرض... أخذت تهبط على السلّم الخشبي إلى أن وجدت نفسها في الدور الأرضي... لم تر أحداً ولكنّها سمعت ضجّة أطفال وراء أحد الأبواب... ترددت في الدخول لحظات... ثم طرقت الباب... سمعت صوت أم الطفل ولعلّها أم الأطفال الذين تسمع ضجتهم... سمعتها تقول في ضجر وضيق:
ـ ما يبغالك تدق الباب... هادول الشياطين صكّوه... قوم يا واد افتح...ولم تنتظر ضحى من يفتح لها الباب... دفعته فانفتح ودخلت تقول:
ـ لامؤاخذة... الست الكبيرة فوق عايزة ميّه...
لاحظت أن الأطفال بهتوا لدخولها... اثنان منهما، في سن السابعة وربما التاسعة لم ترهما من قبل... تحركوا ليتجمّعوا حول أمهم... لم تكن ضحى تشك في أن أم الأطفال هي ضرّتها التي صاح أبوها يذكّر زوجها في لحظة استقباله عند قدومهما، بأن ابنته لن تساكن (الطبينة)... سمعت المرأة تقول:
ـ عندك الشراب... خدي وحدة... والكاسات هنا على الرف... خدي وحدة...
ولم تفهم ضحى ما هي (الشراب)... وقفت مترددة حائرة... وإن كانت قد رأت الكاسات على الرف وتقدمت تأخذ واحدة منها... وفي التفاتتها رأت عدداً ممّا يسمى في مصر (قلّة)... أدركت أن (الشراب) هي (القلل)... فاتجهت إليها في ركن ساحة صغيرة... أخذت واحدة كما قالت لها أم الأطفال... قبل أن تتجه إلى الباب قالت أم الأطفال:
ـ استرحت دحّين؟؟؟
ـ بتكلميني؟؟
ـ لأ... باكلّم نفسي...؟؟؟ (ضحكة ساخرة)... بأقول لك استرحت دحين؟؟؟
ـ مش فاهمة.
ـ شوفيه محبوس... إنتي جيتي معاه من هنا... وهوّه راح الحبس من هنا.
ـ برضه مش فاهمة
ـ بالطبع ما تفهمي... إيه اللي يهمّك إنتي؟؟؟ المصيبة على دماغي أنا والعيال...
أيوه... أنا والعيال... هادول اللي أنت شايفاهم... مين لهم لمّا أبوهم ينحبس.
ـ بس أنا ذنبي إيه؟؟؟ زعلانة مني ليه؟؟؟
ـ بس... بس لا تطوّلي الهرج... روحي ودّي الموية... تلاقيها رايحة تنزل إذا تأخرتي عليها. وبالفعل... لم تطول ضحى... حملت (الشربة) والكاسة... وخرجت... وحين دخلت الغرفة وجدت العجوز، مستلقية، وقد بدا وجهها أشد شحوباً... دهشت ضحى حين رأت العجوز لا تلتفت إليها، وقد أغمضت عينيها... تقدمت منها بكاس الماء... انحنت ويدها ممدودة تساعدها على الجلوس... ولكن لا... لا حركة، ولا استجابة... كأنها لا تشعر بوجودها... اضطرت أن تعود بكاس الماء إلى حيث وضعت الشربة... المشكلة أنها لا تعرف اسمها... لا تعرف كيف تناديها... قالت
ـ يا ست... يا ست.
ولكن الست ظلّت لا تتحرك، ولا يبدو أنها تسمع... عيناها مغمضتان... تذكّرت ضحى أمّها... نفس المشهد الذي فوجئت به يوم دخلت عليها، تظنها نائمة، فإذا بها استولى عليها ذهول... أحسّت كأن ساقيها لا تحملانها... عادت تنادي العجوز
ـ يا ست... يا ست... إنتي يا ست...
ولكن الست ظلت لا تجيب ولا تتحرك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :611  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.