شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الشيخ محمد عبد القادر الكيلاني
وهذا الشيخ ما كنا نعرفه في أوائل الخمسينيات ولا أدري هل وصل إلى المدينة المنورة في أواخر الأربعينيات. فتخفى عن طلبة العلم أم إنه وصل إليها بعد. ذلك أني وقد سافرت إلى الهند في جمادى الأخرى 1352هـ لم أكن أعلم أنه في المدينة ورجعت بعد ستة أشهر غبتها في الهند الإمبراطورية فإذا بي أجد إخواني وعلى رأسهم أستاذنا ماجد عشقي ملتفين حول هذا الشيخ، فالإخوان هم عبد الحق النقشبندي، عثمان حافظ. عبد الحميد عنبر يرحمه الله وفهمي الحشاني. وكانوا يسهرون كل ليلة عند واحد منهم يقرأون عليه مقدمة ابن خلدون. فانتظمت لأكون معه وابتدأنا أن نقرأ كتاباً آخر هو (الجمعيات السرية والحركات الهدامة) لأستاذنا المؤرخ الكبير محمد عبد الله عنان المصري. ولولعه بتاريخ الأندلس أنسبه أندلسياً. وكان هذا الكتاب جديداً عليه أغراني به ما تحدث إلى الشيخ الكيلاني فيه عن الماسونية. وبعده قرأنا كتاباً لعبد الله عنان اسمه (ديوان التحقيق) عن رزايا محاكم التفتيش في الأندلس التي مارسها التعصب الديني في تلك الأيام ولا أنسى أن هذه الكتب الجديدة يرجع الفضل في جلبها إلى المكتبة التي أسسها عبد الحق النقشبندي وعثمان حافظ. فلهما الفضل في جلب الكتاب والمجلة والجريدة نقرأ ذلك. نكسب من كل ذلك روافد ثقافية. عرفت الشيخ ببعض الفهم. وبكثير من التفهم له. نعرف بعض ما يعطينا ولا نعرف عنه الكثير. فهو يتكتم كأنه قد خسر زعامة أو سقطت في يد عرفيه فضائل مساعيه. فالشيخ والداعية لا يخسر نفسه إلا أن يأتيه الخسران من الذين أعطاهم كل ما لديه من الخير فقابلوه بكل ما فيهم من الشر.
ومن هو الشيخ محمد عبد القادر الكيلاني؟ هو تونسي تعلم في جمع الزيتونة فأصبح مصرياً تعلم في الأزهر، وعلى من؟ على الأستاذ الإمام محمد عبده. وجلس إلى جمال الدين الأفغاني فغلبت عليه عقلانية جمال الدين ومعقول محمد عبده فإذا هو على غير النهج الذي سار عليه العالم السلفي صاحب المنار الطرابلسي اللبناني المصري محمد رشيد رضا.
ولعلّ عمق المغاربة قد صانه ألا يكون على سطحية بعض المشارق. ولا أدري كيف رحل من مصر إلى تركيا. لعلّه لم يجد مجالاً فيها ولا صيالاً بها أو لعلّه يلحق بجمال الدين. فسافر إلى تركيا. وكانت الآستانة القسطنطينية استانبول، عاصمة الخلافة العثمانية مليئة بكبار من العرب ولا أعني بهؤلاء الكبار عزت العابد الدمشقي أبا الهدى الصيادي الشامي أو أحمد أسعد المدني أو الشيخ محمد ظافر المدني الليبي. فذلك عهد قد زال بزوال السلطان عبد الحميد، وإنما أعني الأمير شكيب أرسلان والخضر حسين وصالح الشريف ومن معه من بعض الضباط الكبار كمحمود شوكت بطل الانقلاب العثماني وهو عراقي بغدادي أخوه حكمت سليمان صاحب ثورة بكر صدقي بعد في العراق والأخوان ياسين الهاشمي وطه الهاشمي ومن إليهم كنور السعيد وأمين الحسين وحسني العلي المقدسي. كان هؤلاء وأكثر منهم في تركيا. بعضهم كالأمير شكيب من دعاة الجامعة الإسلامية ضد القومية العربية وبعضهم قوميون عرب كأثر الضباط الذين ذكرنا ومن أمثال شيخنا الكيلاني.
وكنا نسميه ابن خلدون حين قرأنا عليه المقدمة. فلا يعرف في المدينة إلا بهذا الاسم. كان لا يرفضه لأنه يعتز بتونس وأبنائها، وابن خلدون تونسي وكان أكثر ما يعتز بالتونسي العظيم الزعيم عبد العزيز الثعالبي إذا ما ذكر أمامه قال: ((بخٍ بخٍ.. به به.. عزيز تونس الثعالبي)) وحين عرفت أن القومية العربية شغله الشاغل قلت له ما أحرى أن نستبدل اللقب ليكون أبو خلدون لا ابن خلدون أعني ساطع الحصري. قال: لولا ابن خلدون وحماسة ساطع ضده لما عرف ساطع الحصري القيّم التي يدافع عنها في القومية العربية. لم يرض بتغيير اللقب. فالحب لتونس متعة الغريب عنها. فهو يقول عن تونس: نحن في تونس ورثنا حضارة الأندلس فعمق الحضارة الأندلسية في تونس وليس بغيرها وأصبح التونسي المصري تركي قاضياً في أزمير رئيساً للمجلس الإسلامي في جزيرة كريت.
وكان الشيخ ضنيناً بأن نعرف عنه. ولم يكن باخلاً في أن نعرف منه. فقد عرفنا منه الماسونية والنهالست قبل أن نقرأ لعنان. وعرفنا منه أن المسجد النبوي بهذه الهندسة الرائعة بني على طراز أيا صوفيا. ولتعصبه للعروبة كان يتمنى أن يبني المسجد النبوي على طراز عربي أندلسي. ومات قبل أن تتحقق أمنيته بهذه الإضافة التي بناها ورفع بنيانها الملك البطل عبد العزيز بن عبد الرحمن يرحمه الله.
فالإضافة هذه تحققت بها أمنيته فهي على طراز عربي. كأنما المسجد النبوي الآن قد جمع شرف المعمار بطراز روماني وطراز عربي والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها.
ويرحم الله السلطان عبد المجيد العثماني. كما هي الرحمة تتغشى المرحوم الملك عبد العزيز فقد صنع كل منهما مجد التاريخ لهما وتاريخ المجد لأمتهما المسلمة.
وللشيخ نظرات في الرجال عنيد في التباعد عن بعضهم، فهو لا يطيق شوقي ولا شكيب أرسلان. ويهتز لذكر حافظ إبراهيم وإذا ما ذكر واحد من الذين يعجبونه يقول: ((به.. به عزام)) يعني عبد الرحمن عزام.. به به محمد محمود.. به به الولد عفيفي. به به الولد رشدي أرص أصبح وزير خارجية تركيا فهل كان يعرف هؤلاء معرفة شخصية، حتى يبهبه لهم بهذه البخبخة؟ أنا لا أشك أنه كان لا يعرف حافظ باشا عفيفي وكان يعرف رشدي أرص. ولكني وفي ضحى يوم أمسكت بمجلة الفتح يصدرها السيد النبيل من بيت هو من أكابر بيوت دمشق. السلفي محب الدين الخطيب. وإذا في مجلة الفتح القصيدة التائية. رثاء أرسلان لأحمد شوقي يرحمه الله. طربت من هذه القصيدة فأنا أحب شوقي وأحب شكيب أرسلان. ولم تطغ على كراهية الأستاذ لهما فذهبت إلى مسكنه في مدخل الساحة ((من كومة حشيفة إلى رباط مظهر))، فقد كان الشيخ يسكن غرفة في الرباط ولأول مرة أدخلها ومعي مجلة الفتح. كان الزجاج كأساً لم أجده نظيفاً في مكان آخر كنظافته في يد الشيخ. والفراش حنبل مغربي. قد زانته الفتوق بالنظافة التي كانت عليه كأنما زرياب قد وضع طابعه على الشيخ. وجلست أقرأ له القصيدة. فتأبى أول الأمر أن يسمع شعر شكيب في رثاء شوقي قلت له: متعني أن تسمع. فقرأتها حتى إذا وصلت إلى هذا البيت:
كالسيف في إمضائه ووضائه
والليث في وثباته وثباته
رفع الشيخ صوته يقول: به به أبو غالب. وبه أبو علي أحمد شوقي أحسنت إلي يا ولد. نزعت من صدري بعض الغل. ودمعت عيناه. فإذا هو يبهبه يبخبخ لشوقي ولشكيب. ذلك صفاء القلوب. يوم تحين ساعة الصفاء.
وكان جالساً أمام الرباط فإذا حاج من المغرب وقف عليه. وكأنما هو قد عرف مقامه في المدينة فدلوه عليه. فقال له: أأنت دعوتنا لمكافحة المواضي؟ فأسرع الشيخ يقول له: ليعلم أننا أبناء ماض.
دعتنا لمكافحة المواضي
أجبناها وقد كانت نواض
ندير رحاتنا بدماء قوم
ليعلم أننا أبناء ماض
لعمر أبيك ما يجدي التوقي
إذا كان الدفاع عن الحياض
ذكر المغربي الشيخ بهذه القصيدة التي ما حفظت منها إلا هذه الأبيات. وكانت تكريماً للمجاهد البطل عبد الكريم الريفي يوم كان يحارب الأسبان في المغرب.
وشقى الشيخ بالغربة. وإن أسعده الجوار بالمدينة فإذا هو يسعى للقمة العيش أستاذاً في دار العلوم الشرعية يتوارى عن الناس لا يعرفه إلا القلة. ويحفظ قيمته الأجلة وكان إذا ضاق يذهب إلى زورة أسبوعية. إلى بيت الصديق الحميم الابن الحبيب السيد إبراهيم الرفاعي يستقبله بكل الترحيب ليسمع أغنية لمحمد عبد الوهاب أو لأم كلثوم أو يسمع نغمات البشرف الجزائري على العود. فقد كان السيد ضارب عود ما أحسن أن نسمعه على الآلة الموسيقية التي نسميها المزيكا التي كانت لعبة الأطفال في الأعياد يسمونها ((الزميرة)) فأصبحت عدة الرجال يحبون الطرب فلا يجدون إلا الصفيح من التنك بدل الطارة وهذه الزميرة يجيدون العزف عليها بالنفخ بالفم. يحسنون كل الأنغام والبشارف. وفي يوم كنت جالساً في مكتبة النقشبندي وحافظ وهما جالسان فيها فإذا الشيخ وقد خرج من المسجد يدخل من باب الرحمة ويخرج إلى بيته من هذا الباب فالتفت فرآنا وكانت في يده باقة. حزمة من (الفاغية) (زهرة الحنة) توجت بثلاث وردات. فدنا منا وأعطاني الباقة يقول لي: أنت تستأهلها. كأنما يريد أن يغيظ النقشبندي وحافظ فقد كانا لا يعرفان ما لديه كل المعرفة أو أنه كان ضنيناً عليهما. كنا الثلاثة الأصدقاء له السيد إبراهيم رفاعي وحسن خشيم يرحمه الله وكاتب هذه السطور يأنس بنا ونأنس به.
وفي يوم آخر، جلسنا في المكتبة وكان هو معنا. فإذا السيد إبراهيم رفاعي يمر مسرعاً لا يلتفت إلينا. فقال الشيخ هامساً يخاطبني:
رب إن الملاح جاروا علينا
وتعدوا حدودهم فأجرنا
لم يسمعها غيري فطربت لهذا البيت حفظته بعد ذلك وبعد صلاة جمعة. على مدخل كومة حشيفة وأمام دكان حسن خشيم يرحمه الله.
وقفت معه نتحدث فإذا الخضر حسين التونسي المصري شيخ الأزهر وعضو مجمع فؤاد صاحب المواقف المشرفة في الدفاع عن اللغة والإسلام وقد خرج من المسجد فحين نظر إلى الشيخ الكيلاني سمر رجليه على الأرض يتأنى كأنما يريد أن يقبل على الشيخ. وكنت أعرف أن الخضر حسين وابن خلدون هذا أبناء خالة. فقلت للشيخ الكيلاني انظر الخضر حسين. تأنى لعلّه يقبل عليك. فلم يلتفت وقال: دعه ثم نطق بكلمة مالك بن أنس يوم قالوا هذا ابن إسحق دعوه دجال من الدجاجلة وما كان الخضر يستأهلها منه. كما كان ابن اسحق يستأهلها من ابن مالك. موضوع حققه صيارفة الرواة عدلاً وتجريحاً. فإذا الخضر يمشي وعليه مسحة ألم. وبعده مر الشيخ صالح التونسي ابن الفضيل. وكان الخضر ضيفاً عليه والشيخ صالح التونسي كان زوجاً لابنة أخي الخضر. واسألوا الأستاذ عبد الرحمن التونسي عن ذلك. فإذا ابن الفضيل يقف يتأنى. قلت له: وهذا تونسي آخر. أسألك بحب تونس أن تلتفت إليه. قال: دعه. واسمع يا ولد. إياك وأن تكون نهباً لبعض الأشياخ.
وكما قلت. كنا لا نعرف الكثير عنه. وعن طريق المصادفة ذهبت أنا والأستاذ الصديق عبد الحق النقشبندي إلى العنبرية نزور محمد أسد المستعرب النمساوي. وكان قد أعلن إسلامه وكنا نواصله قبل أن نفترق عنه. وكان محمد أسد ساكناً في بيت من بيوت الترجمان على مشارف بطحان وأمام دار الحكومة حينذاك فطرقنا الباب فإذا هو يفتح ويخرج منه رجال ثلاثة كأنما هم قد فوجئوا بطرق الباب. وهم: خالد أبو الوليد، والشيخ محمد الكيلاني والزعيم التركستاني (موسى جار الله) كبار من الرجال من الذي جمعهم. هل كانت المصادفة؟ أم كان الشيخ يعرف أبا الوليد حينما كان في تركيا ويعرف زعيم التركستان؟ أغلب الظن أن كلاً منهم يعرف الآخر وإلا فلا معنى أن يخرجوا دفعة واحدة حينما فوجئوا بطرق الباب.
وقد كانت صفاقة منا أن نزور رجلاً كهذا دون موعد. لكن الأدب منعنا أن نذكر ذلك إلا في هذه اللحظة.
ولعلّ الشيخ كان يتخفى أو يخفي بعض أسراره. فهناك حكاية وقعت بينه وبين المستشرق الإنجليزي ((عبد الله فلبي)) ((جون فلبي)) وكان حينذاك في المدينة وقد ذهب الشيخ إلى المستشفى وكنت أظن أنه لا يعرف الدكتور سعيد مصطفى ذهب ليزور الدكتور وكأني أتهم الشيخ بأنه على معرفة بالدكتور سعيد مصطفى عن طريق معرفته لأخيه قائد الجيش المرابض أيام الحرب العامة الثانية يوسف بك مصطفى وعن طريق عبد الرحمن باشا عزام. وحين دخل إلى مكتب الدكتور وجد الحاج عبد الله فلبي كما كان يحب أن يذكر بهذا الاسم. فإذا عبد الله فلبي يدير حواراً مع الشيخ يقول له: أليس الإنسان من أكمل خلق الله فكيف أستطيع أن أقتنع بأن من الإنسان من يدخل الجنة، ومن الإنسان من يدخل النار؟ فقال الشيخ: إن من الإنسان من لا تدخل عليه إلا بإذن ومن إمبراطور لا تدخل عليه إلا راكعاً ومن الإنسان من يكنس الشارع وتنهره إذا ما قصر في خدمتك.
فقال فلبي: إجابة رصينة. لكني لا أقتنع.
فقل الشيخ: إن منجم الفحم يخرج منه نوعان من الفحم أسود يحترق ترمى نفاياه في الزبالة. وأبيض يبلور ألماساً تزين به التيجان وعود الجميلات. فكيف تم ذلك؟ الإنسان بالمعصية كالفحم الحجري. والإنسان بالطاعة والإيمان كالألماس.
قال فلبي: إجابة معقولة ولكني لم أقتنع.
قال الشيخ: إن الإسلام إذا ما درسته وجدت نفسك تقتنع فلا يوجد فيه كهنوت يفرض عليك القناعة لعطاء المغفرة. فالمغفرة من عطاء الله رحمة وغفراناً.
ومات الشيخ.. فشيعناه وعجزنا أن نعرف بناته وأبناءه في تركيا. فقد ذكر لنا ذلك وحرمنا أن نرسل تعازينا يرحم الله الشيخ فقد كان عالماً عقلانياً ومسلماً صحيح العقيدة ولا أنسى في آخر مرة قال لي: لديكم شعار ثمين كلمة التوحيد والسيف والنخلة. قلت كلمة التوحيد عرفناها. والسيف سلاح الجهاد والنخلة طعام المجاهد.
قال بخ بخ. لكني أعني كل ذلك وأجد في النخلة شيئاً آخر هو جريدها يجلد به الفساق والمجرمون فحين تحافظون على كلمة التوحيد وعلى ثمر النخلة وجريد النخلة؟ لا أخشى عليكم.
وعنه تلقيت هذا التعريف للزعامة. فقال: إن الزعامة روح الشعب يتطلبها لتحقيق آماله حفاظاً على ماضيه وبناءً لحاضره ومستقبله روح الشعب تصنع الزعامة ونجاح الزعامة لا يستقر إلا باقتناع الشعب. ثم قال: كنت في جزيرة كريت وجلست في مقهى أتحدث إلى الزعيم اليوناني فينسولوز وكان بعيداً عن الحكم فرفع صوته يقول ليسمعه فلاحون يونانيون جاؤوا من القرى على حميرهم وجلسوا قريباً منا في المقهى فقال فينسولوز إن اليونان لن يعيد بناءها ويصح أمرها إلا عودة فينسولوز إلى السلطان ولبثنا أياماً فإذا كل الشعب اليوناني يقول همساً وجهراً أعيدوا فينسولوز.
هكذا الشعوب الواعية حين تسمع ما تريد يتحقق لها ما تريد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :895  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 813 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.