(2) |
النّاس من حوله يغطّون في نوم عميق، نظر إلى السماء فأبوابها في تلك اللّحظات تُفتح ويكون القُرب والتجلّي، تاقت نفسه لترك الدار، سوف يبحثون عنه مع الفجر فلا يجدونه، سوف يغضبون عليه، ولكن التوق كان أكبر من هذه المخاوف جميعها، فكَّر في حيلة تخرجه من هذه الهواجس. إنّها حيلة الصّغير والعاجز، مجموعة من وسادات الدار حملها من أسفل الدار إلى أعلاها حيث "السطح" والنوم فيه هربًا من قيظ الصيف ولهيبه، وضع تلك الوسادات فوق الفراش المخصّص للنوم ثمّ غطّاها بالإزار، فلعلّ ذلك يوهم الآخرين بأنّه موجود بين إخوته، فلا يتعرّض لعقاب ربّ الأسرة. |
درج المنزل ليس فيه إضاءة، اعتمد على حدسه الطُّفولي حتى بلغ باب المنزل، فتحه برفق ثمّ انصرف.. هذا واحد من العسس، ولربّما وشى به عند والده، صوت "السَّانية" القادم من البساتين المنتشرة على أطراف المسيل في الطّريق بين "قربان" و "قبا" يبدّد شيئًا من مخاوفه، سلك الطريق التي عرفها صغيرًا وتاه فيها كهلاً وكبيرًا، تجاوز "التحسينية"، سمعهم يقولون إنّ تحسين أغا وهبها بعض أتباعه، كان أغوات الحرم في الماضي أسطورة في الكرم والورع. |
هذه معالم حارة بني علي، هذا بستان الطيبية وهذه الدواب تحمل "البُقع" من أعالي قباء إلى وسط المدينة، وفي "الحلقة" التي كانت تتوسّط الفسحة التي تقع بين حوش "منصور" و "باب جديد" الأجيال الجديدة في نعمة فذاكرتها واحدة، ولكن لجيل أنتمي أو أنتسب إليه.. الأمر يتعدّى الألم والحرقة إلى شيء من انشطار الذاكرة فهي تعيش الماضي وتتيه في هذا الحاضر، فترى من الذي سوف يُخرجها من هذا التيه؟ |
أذان الفجر لم يُرفع بعد من منائر المسجد الأربع، ليس هو الوحيد الذي ترك الدار وخرج في هذا الوقت الذي لا يجرؤ فيه من هم في سنَّه لمغادرة دورهم، سيّدات محجّبات من كبار السنّ يحملن فوق ظهورهن بعض ما يصنعنه في دورهن أو يحكنه بأيديهن. |
إحدى السيّدات التي كانت ذات صلة بعائلته وعاشت وحيدة من دون أبناء، كانت تخرج من حوش "عميرة" وبين يديها "بقشة" فيها "كوافٍ" مصنوعة من "السَيم"، كان عليه رغم ضعف بنيته أن يساعدها على حمل بضاعتها المنزليّة، لتستقرّ بها الرحلة في سوق "الحبّابة" ثمّ تعود بعد صلاة العشاء وهي راضية بما كتب الله لها من رزق، فهذا في عُرف الذين سبقونا أولى من سؤال يذلّ الوجه، ويكسر النّفس، ويضعف الإرادة. |
يقف الآن على نهاية الشارع المتفرّع من قربان، صوت "النّغاري" يتهادى إلى سمعه من "المرجانية".. هنا كان القوم يتجمعون "للرديح" رجال من "حرب" و "بني علي"، من باب "الكومة"، من "حوش السيّد"، من "السيح" و "العنبرية" و "الحرّة" يقفون صفوفًا وقلوبهم متألّقة، يرقصون رقصة الشجاعة، يقفزون إلى الأعلى ثمّ يهبطون إلى الأرض في رشاقة. بعضهم يحمل سيفًا والآخر "عصا" ولكنّهم يتركون حلقة اللّعب في آخر اللّيل في وئام وسلام. |
اليوم يا صديقي -يا أبا الحسين- اختفى صوت الحادي، وصدئ السّيف في غمده، وتباعد القوم، وأشاحت الوجوه عن بعضها، وبقي "الشلبي" و"الصفاوي" و"زيد" و"كسراته" موؤودًا في صدور الرّجال وبعيدًا من حراك شفاههم. |
إلى اليسار من نهاية من الشارع يقع حانوت رجل من "الطيّبين" اسمه "خميس" تآخى في الزمن الطيّب مع رجل من أسرة "شاهين" وكانوا يديرون حانوتًا للخرازة في شارع "العينية" لم تكن الحِرف في الماضي ممّا يحترز القوم من مقاربته أو البوح به، الحِرفة شرف، والمهنة ارتبطت في أذهان النّاس بالجدّ والكدّ والمثابرة. |
دخل إلى حارة الآغوات من بوابتها الخلفية -إن جاز التعبير- تجاوز رباط سيّدنا عثمان بن عفان، الصّحابي الشّهيد -رضي الله عنه- تذكّر أنّه على يمين الشارع الذي سلكه يقع منزل لواحد من أقارب والده، في عيد رمضان كان يسير مع إخوته خلف والده ليزوروا الأقارب ويصلوا الأنساب، وهذا مما طُبعت عليه نفوس القوم الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وأخيرًا استقرّت رحلة "التحسينية" و"المشرفية" و"الطيبية" إلى برحة الرستمية، وعلى يسار الشارع المؤدّي في نهايته إلى باب جبريل كانت تقع "العين"؛ هذا رجل يحمل إناء الماء المتدلّي من خشب مصقول -يوضع على الكتف- حتّى يتحقّق التّوازن بين الكتفين لحمل الآنية المخصّصة لنقل الماء إلى الدُّور. |
هبط إلى أسفل العين، وأخذ "إبريقًا" غسل وجهه وتوضّأ، هذا صوت المُعلّم "حجازي" في مخبزه يصل إلى مسمعه، لقد كان في سنٍّ متقدّمة، سكن الحارة بعد أن هجر "العنبرية" واستقرّ بين القوم الطيّبين. |
حجازي يحثّ "صنايعيته" على الانتهاء من تهيئة "طاولات" العجين، أهل الصّنعة كانوا حريصين على تقديم أجود ما يستطيعونه، وكان حجازي -الذي تنطق ملامح وجهه بالشدّة والصّرامة- أحرص ما يكون على تسويق ما تخرجه "طابونته" من عيش بلدي في داخل الحارة وخارجها. |
"عبدالله" و"النور" ممّن سكن الحارة من أهل السُّودان طمعًا في المجاورة، خرجا يتحسّسان طريقهما إلى باب جبريل، ومع أنّهما أضحيا في سنٍّ متقدّمة ولكنّهما يحرصان على أداء الصّلاة في جماعة، وكان "حسن البرقاوي" يقف على الباب يتناول الأحذية من كبار السنِّ ويضعها في المكان المخصّص لها حتّى لا تختلط بغيرها. أغوات المسجد من أصحاب "النوبة" يخرجون "دوارق الماء" من الغرفة المخصّصة لهم ويسقون النّاس الجالسين في "الدكّة" أو "الصُّفة"، ويرتفع الأذان من المنارة "الرئيسية" هذا صوت الريس "عبدالستّار" |
ينادي: "الصلاة خير من النّوم"، ويخرج النّاس من دورهم وتمتلئ بهم الروضة و"الخوخة" و"الحصوة". يؤمّ الشيخ ابن صالح النّاس في المحراب، يقرأ سورة "الرحمن".. وفي كلّ مرّة كان الفتى يسمع ترتيل إمام المسجد فيظنّ لخشوع الشيخ وتبتّله أنّها المرّة الأولى التي سمع فيها ترتيل هذه الآيات، وفي كلِّ مرّة كان الشيخ نفسه ابن صالح يصعد المنبر، كان الفتى يحسّ أنّ إمام المسلمين أحرص ما يكون في خطبته على السماحة والتيسير على الأمّة، وما بين "التحسينية" و "الحارة" وجد الفتى ما تتوق إليه نفسه وتتطلّع. |
|
|