شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(1)
 
حمل كتبه بين يديه كعادته في كل يوم، تجاوز في خطواته حوش منصور، ثم قصد درب المسيل، ولاح أمام عينيه المبنى الذي تقع فيه مدرسته، شعر أنّ مدير المدرسة ومراقبها يفحصانه بأنظارهما، وبعد الحصة الثانية من ذلك اليوم الدراسي شعر بالضيق يتسلّل إلى جوانب نفسه، استأذن من أستاذ المادة، وقصد الفضاء المفتوح الذي يقع أمام المدرسة، يسمّونه (حوش المدرسة)، يحيط بها من بعض جوانبها، وحتى لا يتسلّل الطلاب من هذا المكان. فقد أحاطوه بالأسلاك، وعند مدخل هذا الحوش يجلس رجل أسمر البشرة، طيب القلب، دائم الابتسامة.. لمحه في المجلس حيث تقرأ (الدلائل)، وترتفع الأصوات في خشوعٍ وتبتّل مرددة قول المادح :
كيف ترقى رُقيّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاولتها سماءُ
- عبد المؤمن يجيد أداء الأدوار الصعبة، ويضرب بأصابعه على المائدة الخشبية في المقهى الذي يقع أمام مبنى المحكمة القديم، هناك يحلو للكثير أن يحتسوا أكوابًا من القهوة الممزوجة بالحليب، والتي يجيد صنعها الإخوة المجاورون من الأرض البعيدة، من بلاد المغرب، سار ذلك الشبح الآدمي، توسّل للإنسان الطيب أن يسمح له بالانصراف، سمع همسه بكلمات من الدعاء الصادق (الله يشافيك).
- انطلق في مسيرته يتجنّب الأماكن المزدحمة بالناس، المحمودية، التاجوري، الشونة. كان الوقت ضحى، أين يكون (الزَّين) في هذا الوقت؟ يحمل صندوقه الخشبي على ظهره المليء بالخردوات، يبحث في أزقة المدينة عن لقمة عيش حلال، يعرفونه بهيئته، بصوته، (أبو السمائح، يباع ورايح).
- دخل من (الخوخة)، شعر بكثير من السكينة، ولمح أغوات المسجد يلبسون ثيابهم البيضاء، يعتمرون (القاووق) عبدالسلام، وجاه الله، و(ضوء البيت) لهم خصوصيتهم بين البقية، فهم يزينون ذلك (القاووق) المنغرز فوق الرأس، بشيء من القصب، قالوا إن امرأة في مكة المكرمة هي الوحيدة التي تجيد حياكته لأغوات مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة.
- كان أرباب الخدمة من الآغوات يحملون أعوادًا في أيديهم، ينزلون بها القناديل التي اختفت. يتناول (الأغا) الصغير ممن يكبره في الخدمة ذلك القنديل، يزيل ما علق به من غبار، ثم يعيده منغرزًا في رأس ذلك العامود، ويتولى (الأغا) الكبير إعادته لمكانه. وفئة أخرى تصعد لأساطين المسجد المتوجة في أعلاها بحزام من مادة صفراء هي أقرب في شكلها للذهب. تتنافس الأيدي (لدعك) ذلك الحزام حتى يبدو وضاءً، ساطعًا للعين التي تنظر إليه أو تتأمله، تجاوز (دكة الآغوات) إلى الدكة الصغيرة -هي الأخرى حملوها ما لا تتحمل- وأخفوها عن الأنظار، تُرى هل هم وحدهم في هذا الكون من يعرفون صفاء العقيدة، وما سواهم قد اختلط عليه الأمر، فهو سادر وضال ومبتدع؟! سبحانك يا ربّي.
- حاول أن يضع حذاءه أسفل الدكة، لمح وجوهًا عدّة من الأداء في الجهة الواقعة أمام بيت السيدة فاطمة، وفجأة برز رجل يلبس صدرية بيضاء، ويضع على رأسه عمامة أقرب ما تكون في لونها إلى (الصفرة) المختلطة بشيء من البياض، فجأة تذكّر والده وعمامته وهيبته، الرجل الأنيق يحمل (دورقًا) مملوءًا بالماء، أو ما يسمّونه بـ(الحجلة). اقترب الرجل منه، وفي صوت متهدج قال (الشبح) للرجل الوقور أريد ماءً -يشعر بلهيب لا ينطفئ في أعماقه- أمسك الرجل (بطاسة الماء) المخصّصة للشرب، كان الشبح يلاحظ مهارة الرجل في سكب الماء، كانت اليد التي تحمل دورق الماء أو إناءه إلى الأعلى، حيث يضعه الساقي على كتفه، وكانت اليد الأخرى التي تحمل (الطاسة) إلى الأسفل، كانت عين الفتى تراقب الحركة السريعة، الماء جميعه نزل إلى تلك الطاسة الصغيرة، ولم تسمح مهارة الساقي لقطرة من الماء لتندلق على الأرض.
- تناول الفتى (طاسة الماء)، وجده يحمل مذاقًا خاصًا، إنه ماء (الزهر) أو (الكادي) يضعونه مع الماء الذي كان يستمد برودته من أرض (السبيل) المفروشة بالحجر، والمشيدة قوائمها من طين الأرض المباركة؛ وفجأة يدخل (الزَّين) من باب (جبريل)، ويشعر الفتى بشيء من الطمأنينة، ولكن أنّى للّهيب الذي سكن الأعماق أن ينطفئ، وأنّى ليدٍ مرتعشة أن تثبت، وأنّى لقلبٍ عرف سرعة الوجيب منذ أن خرج إلى الدنيا وهو يستغيث ويصرخ، أنّى له أن يهدأ.. أعطى (الشبح) قدميه للريح، كان يجري، ورديفه (الزَّين) يسابقه، خلع حذاءه فحملها الرديف معه فوق كتفه، هذه الحارة ومقهى المعلم طيفور، وتلك عين الماء يتوضّأ منها المجاورون في الحارة، أو القادمون إليها، يبحث (الشبح) عن فضاء أوسع، ذلك سور البقيع والعم (زايد) يضرب اللَّبِن بيديه لتسوى به منازل الآخرة، تلك (الصيران) ومنزل القوم المتواضعة، وإنهم ليضيئون ظلمتها بالذكر والصلاة، كان يجري وكأنّ الناس في غفلة عن جريه، عن لهفته، عن ظمئه الأبدي للحقيقة لما وراء هذا الكون من غيب غاب عن العيون، ومثل حاضر أمام البصائر المتفتحة، ولمّا بلغ أشجار النخيل التي كانت في مرآها كالغابة الكثيفة بحث عن (قنطرة) الماء، وانحنى على ركبتيه، وضع (فمه) على منبع الماء، شرب، ثم شرب، ثم شرب، حتى ارتوى، ثمّ تمدّد على أرض خضراء فيها كلّ شيء، وانتفت عنها اليبوسة والغلظة، التفت؛ وجد (الزَّين) يقف على رأسه، جلس إلى جانبه يسقيه من ماء المحبّة، ويمحّضه عطف الأبوة، وأخذت (الزَّين) سِنة من النوم، فاق بعدها ليقول لـ(الشبح)، سوف يغيض الماء يومًا. وتموت النخلة واقفة، وتذبل عرائش الورد والفل والياسمين، وسوف تهوي الفأس بشدّة على الأثر والمعلم، سوف يغيب الحب، وتحلّ الشحناء، سوف تتلاشى الدعة والرقّة، وتحلّ مكانهما أفعى التشدّد والغلظة.
- كان (الزّين) يروي حديثًا لم يكتب بعد في الطرس، لم يرسم بعد على (الخارطة) بأيدي حدثاء الأسنان، وعلى (صوت الساقية) أفاق (الشبح) ورأيته، وانسكب الماء بشدّة في (القنطرة)، وكان في اندفاعه يتحدّى اليأس، ويبشّر بالحب والوئام.
 
 
 
طباعة
 القراءات :401  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 4 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.